تأملات في خطبة الزهراء عليها السلام
خطبة الزهراء عليها السلام التي ألقتها على مسامع الناس بعيد وفاة أبيها وفي مسجده صلى الله عليه وآله تعد من أهمّ ما صدر عن لسان أهل البيت عليهم الصلاة والسلام. فهي تعتبر منشوراً متكاملاً وميثاقاً مهماً للحق والعدل والحرية عبر التأريخ، وقد ضمّنت الزهراء خطبتها الحكم المثلى ابتداءً من حكمة الخلق ومروراً بحكمة القيم الشرعية، وانتهاء بحكمة الوفود على الله تبارك وتعالى في يوم المحشر، فضلاً عن تبيينها لفلسفة الرسالة ومقام الرسول والولاية لأهل البيت عليهم السلام، واتباع نهجهم المنبثق أساساً عن القرآن الكريم لا غير..
ونحن إذ نفتخر بالانتماء إلى مذهب آل البيت، لابد لنا من التعرف على أن هذا المذهب يعرج بجناحين -وهي الفكرة التي تمثل الروح في خطبة السيدة الزهراء- فالجناح الأول فيه العلم والحكمة والقيم المثلى والعقلانية والفهم الصحيح والمنطقي للدين. والجناح الآخر فيه الحماسة والولاية والعواطف والتضحية..
الجناح الأول يتمثل في كلمات الوحي وكلمات الرسول الأكرم وآل بيته الطيبين الطاهرين، بدءاً بعليِّ أمير المؤمنين، وانتهاءً بالإمام الثاني عشــر
المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف.
بينما الجناح الآخر يتمثل في الفهم والتعاطف والدفاع عن حقوقهم وعمّا بذلوه -آل البيت- للدين من الطاقات الجبّارة والدماء الزكية، حيث لم يدعوا طاقة في أنفسهم ولا شيئاً أو إمكانية لديهم إلاّ بذلوها في سبيل وجه الله الكريم.
وإذا كانت الزهراء قد خطبت خطبتها المعروفة بالخطبة الفدكية في أجواء من الظلم واغتصاب الحقوق وانتهاك المحرمات والكرامات والمنازل المخصوصة لآل البيت ولها سلام الله عليها ولزوجها عليه السلام بالذات، فإنها لم تنسَ -وحاشى لها- أن تبين للأمة المنقلبة على عقبها ضرورة فهم الدين بالصورة الصحيحة، وضرورة العودة إلى جادة الحق التي اختطها الله في قرآنه الكريم وعلى لسان نبيّه المصطفى صلى الله عليه وآله.
إذن؛ فالاكتفاء بواحد من الجناحين لايعدّ تمسّكاً بمذهب أهل البيت، وإنما المفروض فهم أسسه بالعقل والتفاعل معه عاطفياً. وإذا رأيت من يعلن التمسك بأهل البيت متخلفاً مستضعفاً، فاعلم أن ثمَّ خللاً في أدّعائه هذا، قد يكون في شكل وطريقة اتباعه لحكمتهم وفي طريقة التعبير عن التعاطف معهم.
ونحن إذا أردنا التمسك بكلا الجانبين فأمامنا خطبة السيدة الزهراء التي بيّنت فيها الأوامر والنواهي، كما حددت فيها معالم العدل والظلم إلى يوم القيامة، ولو أن مؤلفاً أو مفسّراً دوّن عشر مجلدات في تفسير هذه الخطبة العصماء وبيان أبعادها وآفاقها ، ما بلغ حق هذه الخطبة، وهكذا الأمر بالنسبة لخطب وأحاديث أهل البيت الأخرى، إذ هي صادرة عن أناس يستلهمون من الله مباشرة من دون معلّم، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
وإليك خطبة الزهراء عليها السلام، بنصها الكامل ، حيث قالت عليها السلام:
" الحمد لله على ما أنعم، وله الشكرُ على ما ألهم، والثناء بما قدّم، من عموم نعمٍ ابتدأها، وسبوغ آلاءٍ أسداها ، وتمام مننٍ والاها، جمَّ عن الاحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوتَ عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتّصالها، واستحمد إلى الخلائق باجزالها، وثنّى بالندب إلى أمثالها.
وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك لـه، كلمةٌ جعل الإخلاص تأويلها، وضمّن القلوب موصولها، وأنار في الفكر معقولها. الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته، ابتدع الاشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء امثلة امتثلها، كوّنها بقدرته، وذرأها بمشيئته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلاّ تثبيتاً لحكمته، وتنبيهاً على طاعته، وإظهاراً لقدرته، وتعبّداً لبريّته، وإعزازاً لدعوته. ثم جعل الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، ذيادةً لعباده عن نقمته، وحياشة منه إلى جنّته.
وأشهد أن أبي محمداً عبده ورسوله اختاره وانتجبه قبل أن أرسله، وسمّاه قبل أن اجتبله، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة، علماً من الله تعالى بمآيل الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع المقدور ابتعثه الله إتماماً لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير حتمه، فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عكّفاً على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرةً لله مع عرفانها، فأنار الله بمحمد صلى الله عليه وآله ظُلمها، وكشف عن القلوب بُهَمَها، وجلّى عن الأبصار غُمَمَها، وقام في الناس بالهداية ، وانقذهم من الغواية، وبصّرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم، ثم قبضه الله إليه قبض رأفةٍ واختيارٍ ورغبةٍ وإيثار، محمد عن تعب هذه الدار في راحة، قد حُفَّ بالملائكة الأبرار ورضوان الربَ الغفّار ومجاورةِ الملك الجبّار، صلّى الله على أبي نبيه وأمينه على الوحي وصفيّه وخيرته من الخلق ورضيَّه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته " .
وقالت مخاطبة الأنصار والمهاجرين: " أنتم عبادَ الله نُصْبُ أمره ونهيه، وحَمَلةُ دينه ووحيه، وأمناءُ الله على أنفسكم، وبُلَغاؤه إلى الأمم، وزعمتم حقُّ لكم، لله فيكم عهد قدّمه إليكم، وبقيةٌ استخلفها عليكم، كتابُ الله الناطق والقرآن الصادق والنور الساطع والضياء اللاّمع، بيّنةٌ بصائره، منكشفةٌ سرائره، متجليةٌ ظواهره، مغتبطٌ به أشياعه، قائدٌ إلى الرضوان أتباعه، مؤدٍّ إلى النجاة إسماعه، به تُنال حجج اللهِ المنوّرة وعزائمه المفسَّرة ومحارمه المخدَّرة وبيّناته الجالية وبراهينه الكافية وفضائله المندوبة ورخصه الموهوبة وشرائعه المكتوبة.
فجعل الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنـزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحجَّ تشديداً للدين ، والعدل تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملّة وإمامتنا أماناً من الفرقة، والجهاد عزّاً للإسلام، والصبر معونة على استيعاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبرَّ الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منماة للعدد، والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة، والمكائيل والموازين تغييراً للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنـزيهاً عن الرجس، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة، وترك السرقة إيجاباً للعفّة، وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية، فاتّقوا الله حقّ تقاته، ولا تموتُنَّ إلاّ وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء ".
ثم قالت: " أيها الناس ! اعلموا أني فاطمة، وأبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تَعزُوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخ ابن عمي دون رجالكم، ولنعمَ المعزيُّ إليه صلى الله عليه وآله وسلم، فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن مدرجة المشركين، ضارباً ثَبجَهم، آخذاً بإكظامهم، داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يكسر الأصنام وينكب الهامَ، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، حتى تفرَّ الليلُ عن صبحه، وأسفر الحقُّ عن مَحضِه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين، وطاح وشيظ النفاق، وانحلّت عُقدُ الكفر والشقاق، وفُهتم بكلمة الإخلاص في نفرٍ من البيض الخماص، وكنتم على شفا حفرةٍ من النار، مُذْقةَ الشارب، ونُهزةَ الطامع، وقُبسةَ العِجلان، وموطأَ الأقدام، تشربون الطرُقَ، وتقتاتون الورق، أذلّة خاسئين، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ بعد اللتياّ والّتي، وبعد أن مُنِيَ ببُهمِ الرجال وذؤبان العرب ومردةِ أهل الكتاب، كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نَجَمَ قرنٌ للشيطان، وفغرتْ فاغرةٌ من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويُخمدَ لهبَها بسيفه، مكدوداً في ذات الله؛ مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيد أولياء الله ؛ مشمّراً ناصحاً مجدّاً كادحاً، وأنتم في بُلْهَنِيَةٍ من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربّصون بنا الدوائر، وتتوكّفون الأخبار، وتنكصُون عند النـزال، وتفرّون عند القتال .
فلمّا اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسيكةُ النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلّين ، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مِغرَزِه هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللعزّة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتُم غير إبلكم، وأوردتم غير مشربكم، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لمّا يندمل، والرسول لما يقبر، ابتذاراً زعمتم خوف الفتنة، ألا في الفتنة سقطوا وإنّ جهنم لمحيطة بالكافرين. فهيهات منكم، وكيف بكم ، وأنّى تؤفكون؛ وكتاب الله بين أظهرِكم، أموره زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة، وأوامره واضحة، قد خلّفتموه وراء ظهوركم، أرغبةً عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ بئس الظالمين بدلاً، ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، ثم لم تلبثوا إلاّ ريث أن تسكن نفرتُها ويسلس قيادها، ثم اخذتم تورون وقدتَها وتهيّجون جمرتَها وتستجيبون هتافَ الشيطانِ الغويِّ وإطفاء نور الدين الجليِّ، وإهمادِ سننِ النبيِّ الصفيِّ، تُسرّون حسواً في ارتغاء، وتمشون لأهله وولدهِ في الخمرِ والضرّاء، ونصبر منكم على مثل حزِّ المدى ووخزِ السنان في الحشا، وأنتم تزعمون أن لا إرثَ لنا، أفحكم الجاهلية تبغون، ومَن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون أفلا تعلمون؟ بلى تجلّى لكم كالشمس الضاحية.
إنّي ابنتُه أيّها المسلمون، ء أغلب على آرثيه.
يا أبن أبي قحافة ! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرثُ أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً، أعلى عمدٍ تركتم كتابَ الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول: وورث سليمانُ داودً، وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا: إذ قال ربِّ هب لي من لدنك وليّاً يرثني ويرث من آل يعقوب، وقال: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وقال: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظِّ الأنثيين، وقال: إنْ ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقّاً على المتقين؟ وزعمتم أن لا حظوة لي ولا أرث من أبي ولا رحمَ بيننا، أفخصّكم الله بآيةٍ أخرجَ منها أبي؟ أم هل تقولون أهل ملّتين لا يتوارثان، ولستُ أنا وأبي من أهل ملّةٍ واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟ فدونكها مخطومةً مرحولةً تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكمُ الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة ما يخسرون، ولا ينفعكم إذ تندمون، ولكلّ نبأ مستقرٌ ، وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه، ويحلُّ عليه عذاب مقيم ".
ثم اتجهت بنظرها إلى الأنصار وقالت عليها السلام:
" يا معشر الفتية واعضاد الملّة وأنصار الإسلام ! ما هذه الغميزة في حقي، والسِنَةُ عن ظلامتي؟ أما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبي يقول: المرءُ يحفظ في ولده؟ سرعان ما أحدثتم ، وعجلان ذا إهالة، ولكم طاقةٌ بما أحاول وقوّةٌ على ما أطلب وازاول، اتقولون: مات محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ فخطبٌ جليلٌ استوسع وهنه، واستنهز فتقه، وانفتق رتقه، واُظلمتِ الأرض لغيبته، وكسفتِ النجوم لمصيبته، وأكدتِ الآمال، وخشعت الجبال، وأزيل الحريم، وأزيلتِ الحرمة عند مماته، فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى، لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة، أعلن بها كتابُ الله جل ثناؤه في أفنيتكم وفي مُمساكم ومصبحكم ، هتافاً وصراخاً وتلاوة وإلحافاً، ولَقبلُه ما حلّ بأنبياء الله ورسله، حُكمٌ فصلٌ وقضاءٌ حتمٌ، وما محمدٌ إلاّ رسول قد خلتْ من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرَّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ".
أيْهاً بني قَيْلة! أهضمُ تراث أبي وأنتم بمرأىً مني ومسمعٍ ومبتدئٍ ومجمعٍ، تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذوو العدد والعدّة والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجُنّة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنَجَبَةِ التي انتُجبت، والخيرة التي اختيرت، قاتلتم العرب وتحمّلتم الكدَّ والتعب، وناطحتم الأمم، وكافحتم البُهم، فلا نبرح أو تبرحون نأمركم فتأتمرون، حتى إذا دارت بنا رَحى الإسلام ودرّ حَلَبُ الأيام وخضعت نعرة الشرك وسكنت فوزةُ الإفك وخمدت نيران الكفر وهدأت دعوة الهرج واستوثق نظام الدين، فأنّى حُرتم بعد البيان واسررتم بعد الإعلان، ونكصتم بعد الإقدام وأشركتم بعد الإيمان، ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيْمانَهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أوّل مرّة، اتخشونهم؟ فالله أحقُّ أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، ألا قد أرى أن اخلدتم إلى الخفضِ وأبعدتم من هو أحقُّ بالبسط والقبض، وخلوتم بالدعة ، ونجوتم من الضيق بالسعة، فمججتم ما وعيتم، ودستم الذي تسوّغتم، فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً؛ فإن الله لغنيٌّ حميد، ألا وقد قلتُ على معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم، والغدرة التي استشعرتْها قلوبكم، ولكنها فيضة النفس ونفثة الغيظ وخور القنا وبثّة الصدر وتقدِمةُ الحجّة .
فدونكموها ، فاحتقبوها دبرةَ الظهر، نقيّة الخفِّ ، باقية العار، موسومة بغضب الله ، وشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة؛ التي تطّلع على الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون، وأنا ابنة نذيرٍ لكم بين يديْ عذابٍ أليمٍ ، فاعملوا إنّا عاملون، وانتظروا إنّا منتظرون" .
ثم أنها أخذت في دحض مغالطات الخليفة الأوّل واستدلاله بما كان ينسبه من أباطيل تخالف كتاب الله للنبي صلى الله عليه وآله، وذلك على مرأى ومسمع من الصحابة، ولكن قليلاً من الناس ما يعقلون، إذ أن أدلّة الزهراء في بطلان الطرف الآخر لم تكن لتعدو آيات القرآن الكريم وما شاهده الناس من فضل وكرامة لأهل البيت عليهم السلام، فما يدلّل على صدقهم وحقهم فيما أدّعوا به، كالولاية على الناس وحقّهم في فدك، إلاّ أن الارتداد عن الحق والخوف من التنكيل واللامبالاة والحقد القديم والطمع ، كان كل ذلك قد أخذ مأخذه من طبيعة تفكير وقرار المسلمين بعدم نصرة أهل البيت وطعن الرسالة المحمدية في الصميم.
وليس ذلك بمستغرب إذا ما طالع الإنسان المنصف طبيعة تعامل الكثير ممّن يدّعي صحبة الرسول صلّى الله عليه وآله، تعاملاً تحوطه الشكوك وعدم الاحترام لشخص النبي، فضلاً عن أهل بيته ، فكيف بهم إذا ما استراحوا من شخصه وعادوا إلى الجاهلية ونزعوا عنهم لباس النفاق...
وهذه الحقيقة تبدو واضحة غاية الوضوح في قصة حمل أمير المؤمنين عليه السلام في المبايعة القسرية لأبي بكر، رغم أن أعداء الإمام عليه السلام قد اطمأنوا إلى قلّة عدد مؤيديه، ورغم علمهم أيضاً بأن عليّاً عليه السلام لن يستخدم الطرق الملتوية للوصول إلى السلطة، وأنه لا يهتم لها أي اهتمام..
ولذلك فإن قصة اقتحام بيت الزهراء عليها السلام وأسلوب العنف الوحشي الذي انتهى بكسر ضلعها وإسقاط جنينها وضغطها خلف باب الدار بعد إحراقه بتلك الصلافة المعهودة عن أعداء الدين والمنافقين، تلك القصة لا تعبر إلاّ عن مستوى الكفر والوحشية التي كان أعداء الزهراء يبطنونها لها ولأهل بيتها ، بالإضافة إلى أن من شأن طبيعة الاعتداءات تلك أن تسري إلى مَن يليهم من الحكّام ، ليمارسوا وفقها أنواع القتل والتعذيب والتشريد والظلم بحق أولاد وذرية النبي وآل بيته، وبحق من والاهم من شيعتهم ومحبيهم.
فلا غرابة في ممارسات الطغاة عبر التاريخ، الذين لا يتقاعسون لحظة واحدة عن توجيه الضربات المستميتة لدحض الإسلام، ولكن يأبى الله إلاّ أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فهذا خط النبي والزهراء وخط الأئمة الطاهرين وأتباعهم وشيعتهم يقف بالمرصاد لكل من يسعى إلى إطفاء شعلة الإسلام ، والعاقبة للمتّقين.