تركيا تدفع ثمنا باهظا عن فتحها الطريق للإرهابيين26/06/2014 07:17
ترجمة – أنيس الصفار بن هابارد وسيلان إيغنسو
في الأوقات العادية كان نقل 50 ألف رطل من الدجاج المجمّد إلى داخل العراق عبر بوابة الخابور مجرد عملية روتينية بالنسبة لـ “طرفان آيدين” سائق الشاحنة التركي الذي اعتاد العمل على هذا الخط منذ سنين. إلا أن التجارة عبر الحدود توقفت فجأة أو كادت بعد أن أغلق هجوم الارهابيين في العراق هذا المنفذ وتم اختطاف 80 مدنياً تركياً.ذات يوم كانت هذه البوابة الحدودية مفتوحة على مصراعيها، وعبرها فسحت تركيا لجماعات الإرهابيين من كل ضرب ولون منفذاً سهلاً إلى ساحات القتال داخل سوريا في محاولة لإسقاط الرئيس بشار الأسد. بيد أن هذا خلق تربة خصبة في سوريا أنبتت جماعة متشدّدة لم تلبث أن شنت حملة هجومية خاطفة داخل العراق هذا الشهر، والجماعة المقصودة هنا هي “الدولة الإسلامية في العراق والشام” أو “داعش”.يقول آيدين وهو يتأمل مئات الشاحنات المتوجهة إلى العراق في طابور يتلوى على الطريق قادماً من الأفق: “منذ ثلاث سنين نرى أعلام “داعش” ترفرف في سوريا، وتركيا هي السبب في كل هذا لأنها هي التي سمحت لهم بالدخول.”
اليوم، ومع ارتفاع خطر “داعش”، بدأت الحكومة التركية تتحمل ثمناً فادحاً مقابل الفوضى التي ساعدت على خلقها.
يقول “سولي أوزيل”، وهو أستاذ في العلاقات الدولية من جامعة “قادر هاس” في اسطنبول: “لقد كان سقوط مدينة الموصل شهادة حية تلخص فشل السياسة الخارجية التركية طيلة السنوات الأربع المنصرمة. فأنا لا يمكنني أن أفصل ما وقع في الموصل عما يدور في سوريا، لأن سياسات تركيا تجاه سوريا كانت استعلائية غير واقعية محكومة بالآيديولوجيا ومتسمة بالعناد.”
على مدى السنوات جعلت سياسة “لا مشاكل مع الجيران” من تركيا مضرب مثل ومثار إعجاب كديمقراطية إسلامية ونماء اقتصادي. وقد أفادت تركيا بشكل واسع جداً من انفتاح السوق العراقية حيث ارتفعت صادراتها في العام الماضي إلى ما قيمته 12 مليار دولار، وهو ثاني أكبر رقم للصادرات التركية بعد صادراتها إلى المانيا. ولكن هذا الرقم قابل للانخفاض الآن بمقدار الربع أو أكثر مع اتساع رقعة القتال، كما يقول المحلل التركي “أتيلا ييسيلادا” من مؤسسة “غلوبال سورس بارتنرز”.
نجمت هذه الخسائر بعد أن دمرت الحرب الأهلية في سوريا قدرة ذلك البلد على شراء السلع التركية ثم دفعت بمئات الألوف من اللاجئين للتدفق عبر الحدود. لقد أنفقت تركيا 1,5 مليار دولار حتى الآن على هؤلاء اللاجئين وما من نهاية تلوح في الأفق.
الصراع الذي اندلع حديثاً في العراق نكسة أخرى تضاف إلى سلسلة النكسات في السياسة الداخلية والخارجية التي وقع فيها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وحزبه الحاكم “حزب العدالة والتنمية”.
النجاح الباهر الذي أصابه أردوغان طيلة السنوات التي أعقبت ارتقاءه إلى مقعد السلطة قبل أكثر من عقد اعترته شوائب سلبته ذلك البريق الأول، من احتجاجات الشوارع إلى كارثة المنجم الماحقة ثم فضيحة الفساد التي امتدت وطالت. ثم جاء دعم الحكومة التركية للانتفاضات العربية ليزيدها عزلة عن حلفائها.
كثيرون في تركيا اليوم يلقون باللوم على الحكومة التركية لأنها أعانت راية المتطرفين على الارتفاع في سوريا. وقد عبّر زعماء أتراك عن قلقهم من اشتداد ساعد الجهاديين على مقربة من حدودهم، وهم يقولون أنهم يصعّدون الجهود لتعقّب المتطرّفين. بيد أنهم لا يتحدثون كثيراً بشأن تنامي خطر المتمردين في العراق، وقد رفض متحدث باسم وزارة الخارجية التعليق موضحاً كيف ستتأثر السياسة التركية بكل هذا وتتجاوب معه.
إلا أن أنقرة أخذت ترسل إشارات مؤخراً تدل على أنها تعيد ترتيب وضعها بما يتناسب مع التغيرات التي تشهدها المنطقة. ففي هذا الشهر صنّفت تركيا جبهة النصرة، وهي فرع تنظيم القاعدة العامل في سوريا، ضمن المنظمات الإرهابية (أي بعد عام ونصف من تصنيف الولايات المتحدة لها). وفي يوم الثلاثاء الماضي دعا أردوغان الدول الأوروبية من أنقرة للعمل على منع “الجهاديين” من السفر إلى تركيا، ولكن المسؤولين الأتراك لزموا الصمت بصدد استيلاء قوات حكومة إقليم كردستان على مدينة كركوك ، وهو فعل كان سيجابه بالتنديد الفوري قبل بضع سنوات لا أكثر.
هذا الصمت قد يشي بأن تركيا تعد الكرد العراقيين الشركاء المعتمدين الوحيدين في العراق كما يقول الباحث التركي “سنان أولغان” من “معهد كارنيغي للسلام الدولي” في بروكسل.
بيد أن الضربة الأوجع لتركيا من الصراع الجديد الذي اندلع في العراق أصابت الركن الجنوبي الشرقي من تركيا الذي كان يحقق المكاسب الأكبر من التجارة المتوسعة مع العراق، والذي سيمنى بالخسارة الأعظم إذا ما انهارت تلك التجارة.
يبدو هذا التغير جلياً عند بوابة الخابور الحدودية التي كانت إلى ما قبل أسابيع لا غير تمرّر أكثر من ألفي شاحنة تركية محملة بالبضائع إلى العراق كل يوم. إلا أن العدد انخفض اليوم إلى أقل من نصف ذلك بسبب هبوط الطلب وارتفاع مستوى المجازفة بالنسبة للبضائع المنقولة. تجسد هذا الخطر أكثر بسبب محنة أكثر من 80 مواطناً تركياً تم اختطافهم من قبل عصابات “داعش” عند احتلالها مدينة الموصل. ومن بين هؤلاء المواطنين القنصل العام وثلاثة أطفال و 31 من سائقي الشاحنات. منذ ذلك الحين لم يعلم أحد عن مصير هؤلاء شيئاً.عملية الاختطاف تلك أثارت هلع الناس الذين كانوا يعتمدون في حياتهم على التجارة عبر الحدود. فقرية “دوروكلو” التي يقطنها نحو 1300 شخص، والتي لا يزال أهاليها يسكنون بيوتاً من الطين ومعظم الرجال فيها يتوجهون للعمل سائقي شاحنات بمجرد بلوغهم السن القانونية، لها أربعة من أبنائها بين السائقين المختطفين.
يقول “محمت تورغوت” الذي يئم الصلاة في جامع القرية: “لا حديث لنا في ليلنا أو نهارنا غير هذا الحديث، ولكن ليس في أيدينا ما نستطيع أن نفعله.”
غير بعيد عنه تعرض “نهال سيمسك”، التي اختطف زوجها وولدها ضمن من اختطفتهم “داعش”, لزائري بيتها المتواضع صورة مؤطرة يظهر فيها رجلان، ثم لا تلبث أن تنهار متداعية على الرواق وهي تحتضن الصورة والدموع تنساب على وجهها حتى تقطر من ذقنها.
تقول نهال: “لقد ذهبا ليكسبا لنا مالاً نعيش منه. نحن نستطيع العيش بلا مال ولكننا لن نستطيع العيش بدونهما.”
إلا أن سائقي الشاحنات قد تمكنوا، كما تقول عوائلهم، من إخفاء بضعة هواتف خلوية على ما يبدو وهم يقومون بالاتصال عن طريقها بأقاربهم لطمأنتهم. يقولون أنهم يحصلون على الطعام وأنهم لم يتعرضوا لسوء المعاملة، ولكنهم لا يعلمون متى سيطلق سراحهم.
يقول “محمت كيزيل” صاحب الشركة التي يعمل لحسابها السائقون المختطفون أن “داعش” قد طالبت بمبلغ يتراوح بين خمسة وعشرة ملايين دولار مقابل إطلاق سراح الرجال، ولكنه لم يعد طرفاً في المفاوضات منذ أن تولت الحكومة التركية هذا الأمر. أما المسؤولون الأتراك فيقولون أنهم يبذلون الجهود لإطلاق سراح الأسرى وأنهم قد حظروا على وسائل الإعلام التعليق بشيء عن هذا الموضوع.
إلا أن الخطر لم يثن معظم السائقين الآخرين عن التوجه إلى العراق وهذا يبدو جلياً من الطابور الطويل الذي يقف منتظراً الدور للمرور. كثير من السائقين قضوا في الطابور أكثر من 24 ساعة ممضين الوقت في سماع الموسيقى واللعب بهواتفهم النقالة وإعداد الشاي على مواقد صغيرة ثم النوم. يقول “عبد الغفور” وهو سائق غزا الشيب شعره ويدعي أنه قضى اسبوعاً كاملاً قبل أن يظفر بشحنة ينقلها إلى العراق: “لو كانت الأمور تجري في مجاريها لما وجدت الآن متسعاً من الوقت للوقوف هنا وتبادل الحديث.”مثل كثير من أصحابه وزملائه أثقل “عبد الغفور” نفسه بدين قاصم للظهر كي يتمكن من شراء شاحنته، وهو يخشى الآن أنه سوف يضطر للتخلف عن دفع الأقساط. ويضيف أنه قد قام بإرسال ثلاثة من أطفاله لجني الطماطم وتنظيف الغرف في أحد الفنادق السياحية لتغطية متطلبات أسرته المالية.
على مقربة يقف السيد آيدين، الذي يحمل في شاحنته وجبة من الدجاج المجمّد. يقول أنه مدين بمبلغ 47 ألف دولار على شاحنته وأن عليه أن يسدد مبلغ 2700 دولار كل شهر، بيد أن الأعمال تباطأت إلى حد أنه لم يعد مطمئناً إلى تمكّنه من كسب ما سيكفي للسداد.
يقول آيدين: “لا بد لنا من الذهاب إلى العراق، فنحن لا نملك أي خيار آخر.
عن صحيفة نيويورك تايمز