غداد (العراق)/ فرات الزاهد
في ظل الأحداث المتسارعة في العراق، هل نحن أمام منعطف جديد، أو تحويلات دائمية وليست مؤقتة هذه المرة، لرسم خارطة بمواصفات مختلفة عن التي درسناها وثبتنا خطوطها في عقولنا قبل أن نضعها على الورق؟، وماهي تلك الحدود التي ممكن أن نتخيلها شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً؟
بالتأكيد، أننا لانتحدث عن أقاليم، ولا فيدرالية، وإنما عن عملية تقسيم، بدأت بوادرها بوضع جدران الفصل “العنصري” بين مكونات الشعب العراقي، وفرض سياسات إقصائية وتهميشية، ولدت حالة من الشحن الطائفي، الممزوج بأنماط من الصراعات المكبوتة التي لاتتحمل الضغط المتواصل حتى تبدأ بالصفير للتخفيف من حالة الغليان، لكن ما أن تمنعه، تنفجر، وتتشظى، وعندئذ يصعب لملمة الشتات، وإعادة الأوضاع الى أصلها.
هل ياترى الصورة التي رسمها أول ملوك العراق قبل 93 عاما، عن الشعب العراقي لاتزال ملامحها ذاتها أم زادت تشوهاً، عندما يقول: “لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية، خالية من أية فكرة وطنية، ولا تجمع بينهم جامعة”.
لاشك أنها وجهة نظر مبكرة، ينبغي أن لاتقرأ الا من خلال الزمن الذي قيلت فيه، لكن أن نجعلها واقعاً اليوم من خلال تغييب الهوية الوطنية، لصالح هويات تانوية، فهذا ما لاينبغي أن يكون.
وفي ظل المستجدات التي طرأت على المشهد العراقي، أخذنا نسمع عن واقع جديد وعراق جديد يبدأ من تأريخ سقوط الموصل، وليس قبله، وهذه القناعات تسللت حتى داخل كتلة المالكي نفسها، والتي عبر عنها صراحة، قيادي فيها في تصريح صحفي، طلب عدم ذكر اسمه، ان “العراق بعد العاشر من حزيران، ليس كما كان قبله، كل شيء تغير”، بما في ذلك الموقف من الولاية الثالثة للسيد المالكي، حيث يقول: “إذا أصر الآخرون على أنهم سيتقدمون فقط إذا لم يكن المالكي رئيسا لمجلس الوزراء، فنحن على استعداد لمناقشة ذلك”، مضيفاً “سيتم إشراك المالكي في اتخاذ القرار ولا بد أن يكون الانتقال سلسا، أعتقد أن ذهنه منفتح ويدرس الخيارات، وهو يفهم أن الأمر قد يصل إلى هذا الحد”.
وإذا كان خيار الإنفصال مرفوضاً من جميع المكونات، بما فيهم الكرد، فإن خيار الأقاليم يبقى متاحاً للحفاظ على وحدة العراق، ويشهد على ذلك التجربة الكردية نفسها، حيث كان الكرد منفصلين عن الدولة المركزية من العام 1991 الى 2003، فيما اعادهم النظام الإتحادي الى حاضنة العراق.
يقول الكاتب والمحلل السياسي، ميثم الجنابي: أن تفكيك الهوية الوطنية هو أولا وقبل كل شيء فعل ذاتي، جعل من الممكن التدخل الأجنبي وفعالية أساليبه في تعميقه أو تحويله إلى “منظومة”، موضحاً أن الغزو الأمريكي للعراق “مبني من الناحية الأيديولوجية والسياسية على وقائع جعل منها حقائق، بمعنى استغلاله واقع التجزئة والتفكك الفعلي في الهوية الوطنية العراقية عبر تحويلهما إلى “حقيقة” جرى رفعها إلى مصاف الأسلوب “الواقعي” و”العقلاني” للتحكم بالدولة ومؤسساتها الجديدة، ولا يمكن توقع حدوث هذه النتيجة في ظل بنية وطنية متكاملة.
والحل بحسب الجنابي، يكمن في تفعيل الهوية الوطنية العراقية بوصفها مرجعية العيش المشترك، أي تحقيقها العملي من خلال صياغة الأوزان الضرورية للهوية العراقية العامة والهويات الجزئية، للدولة الشرعية والسلطة الديمقراطية، للسلطة الديمقراطية والمجتمع (المدني)، للنخب الاجتماعية والسياسية، للثقافة العامة والخاصة، للتربية والتعليم والإعلام، بمعنى صياغة، رؤية واقعية وعقلانية عن وحدة وتجانس القومي والوطني في العراق من اجل تكامل الجميع في بناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني، وتحديد ماهية الدولة الشرعية أو الدولة البديلة، بوصفها المقدمة الضرورية والضمانة الفعلية لطبيعة ومجرى التطور اللاحق. لكن في ظل الصراع السياسي الذي يراهن على الهوية الثانوية، في بسط القوة والنفوذ، كيف يمكن أن تمنح الهوية الوطنية العامة فرصة توحيد المكونات في إطار الوطن والمجتمع الواحد؟
وفيما كنا نسمع عن المخططات الإستعمارية لتقسيم بلادنا، وتجزيء المجزأ، أصبحنا اليوم نتعامل مع تلك المخططات كواقع، نسعى لتحقيقها على الارض، على وفق المصالح والأغراض الشخصية، بعيداً عن المصلحة الوطنية.
لذا يرى المحلل السياسي، سامي الرمضاني “ان العراق بحاجة الى منظمات مدنية قوية تؤمن بالديمقراطية لها قابلية توحيد الشعب لاسقاط الدولة الطائفية، وتحرير العراق من التدخل الامريكي ومن تدخل القوى المحلية المحيطة”، الا أن هذه الوصفات العلاجبة، لاتمتلك قوة المناعة الكافية للتصدي لخطر التقسيم، بل أن التقسيم بحسب الدبلوماسي الامريكي السابق، شاس فريمان، واقع أصلاً، حيث يقول، إن: “وحدة العراق لم تعد قائمة منذ زمن”، متوقعاً أن تفرز الأحداث دويلات صغيرة، كما حصل في مرحلة انهيار الامبراطورية الرومانية، لتستكمل مشروع سايكس – بيكو الذي بدأ في العام 1916، وبالتالي ستكون هناك حدوداً جديدة سيتم التعامل معها، ليس على مستوى العراق، فحسب، وإنما عموم المنطقة العربية، واصفاً الازمة العراقية الحالية، بالسياسية وليست بالعسكرية.
ويرى محللون أمريكان، ان المشاكل التي تعصف الآن بالعراق لا يمكن حلها وتجاوزها، من دون عزل طائفي يكون فيه لكل من السنة والشيعة والأكراد وضع سياسي وجغرافي ومعنوي في ثلاثة اقاليم مستقلة تجعل هذه الطوائف اكثر انسجاما مع عراق فيدرالي، يوسع دائرة الخيارات لكل طائفة، كما دعا جو بايدن منذ عام 2004، لكن في الوقت نفسه يعترف هؤلاء المحللون بوجود مشاكل جمة في تحقيق الأقاليم الثلاثة، قد تؤدي الى تعثر هذا المشروع، منها التداخل المناطقي او ما يسمى بالمناطق المتنازع عليها، وتقاسم الموارد وكيفية إدارة العاصمة وغيرها من الأمور التي تتطلب وضع دستور جديد ينسجم مع الواقع الجديد.
منقول