صوت التسامح الخافت
بقلم: قيس قاسم العجرش
كيف لنا أن نتسامح مع من اغتصب جمال الموصل؟..النطق بالتسامح يساوي الكفر بالعراق، بوجوده وبقائمة أسماء مظلوميه، من مات منهم ومن يعيش الآن في ظل مظلوميته التي تنزف.
ماذا فعل إرهابيو "داعش" بدخولهم المدينة؟..لحظة غابت كل المدينة في كهفهم كانِت لحظة حقيقة عراقية بامتياز، تسمّر الوجدان العراقي وبدأت العظام ترتجف استجابة لغضب قل نظيره تجاه فعل يفتح كل الصفحات على الخيال.
ما يمكن أن يصدر عن الإرهاب قد لا يلحقه الخيال.
الموصل يا ناس ليست سرادق لعزاءٍ دخله انتحاري ففجر نفسه! أو قرية دخلها الإرهابيون بعد أن سبقهم النصّابون باسم الدين إليها..إنها موروث وحضارة وعائلات كريمة ومدنيّة عريقة.
إذن، نحن أمام أعلى سقف للصبر الذي تبخّر، وللقيح الذي ملأ الأفواه بعد الدم.
هل هناك الآن من يتكلم عن التسامح؟، أي صوت خافت سيكون هذا؟...إنه سيتساوى مع السذاجة المُمعنة في تحدي اللحظة.
لنتذكر أن كل متسامحي التاريخ تعرّضوا الى لعنة الاتهام بالسذاجة والنكوص. لكن هذه هي الأجواء التي يظهر فيها التسامح على أنه حل ونمط من أنماط فعل المسؤولية التي لا تضيع الفرصة.
قبل أيام كتب عبد الرحمن الراشد - وهو الباب الخلفي لما لا يجرؤ السعوديون على قوله - كتب يقول: "أصبحت الحرب الأهلية في العراق أقرب اليوم من أي يوم مضى منذ العام 2003".
أقول: العكس تماماً هو الحادث، الحرب الأهلية تنال اليوم نهايتها ويمكن أن تــُـقبر بلا رجعة، ولذلك فإن الفرصة تبدو سانحة اليوم قبل أي وقت سيأتي. سحر التسامح هنا سيفعل فعله بعد أن تخرج الأفاعي.
لا أبالغ إن قلت أن "داعش" وجرائمها التي لا حدود لها هي من أيقظت اللحظة العراقية الغارقة في الممكنات المرئية فقط، وفتحت الباب على "المُمكن" الذي لم يتصوره أحد.
"داعش" والجريمة، جناحان طار بهما المصير الخطير عالياً ليراه كل العراقيين، بعد ان غرق الناس في التفاصيل والهموم اليومية والمناطقية التي كسّرت مرآة الوطن القديمة، المرآة التي تعكس كل سُحناتنا.
التطرّف والتأسلم وليّ أعناق الكلمات وغمس الدين بالدم كانت كلها تبدو مثل الصخور التي علينا أن نقف عاجزين عن تحريكها، الآن أصبح ممكناً إبصار الجُرذ وقتله بعد أن تصورناه أنه مجموعة كبيرة من الجرذان تملأ الحقول.
كم كـُـنا مخطئين حين اكتفينا بإحصاء عدد السيارات الملغومة دون أن نعي قيمة قطرات الدم التي خلفتها، وارتضينا أن نستمع لأخبار الموصل كجزء من خبر الخراب اليومي، بينما كانت المدينة تئن بيد المختطفين لها...قبضة بعثيين وحفنة من عشـّاق التسلط ومعهم شرذمة من شذاذ الطريق ومنحرفي الأخلاق اختطفوها، والأسوأ من الإختطاف أن نظنّ بأهل الموصل التواطؤ مع الخاطفين.
بين الخاطف الحيواني بهيئة "داعش" وبين المواطن الموصلي البريء الذي أخرج من دياره بغير حق، يقف صف طويل من المتذبذبين، هؤلاء هم استثمار التسامح الحقيقي وساحة فعله البناءة.
لقد تسامَحَتْ أممٌ قبلنا مع أفظع مما مررنا به، والنتيجة أنها كانت قادرة على بناء الذات أفضل الف مرّة من سيادة روح الإنتقام.
خمسة عشر طفل ظهروا في تسجيل وهم يهللون لدخول سفّاحي القاعدة الى الموصل، لكن نصف مليون مواطن رفضوا العيش في ظل قذارات هؤلاء المتوحشين، ومثلهم وأكثر منهم ربما لم يُسعفهم الحظ والصحة أن يغادروا الموصل، كل هؤلاء سيعانقون أول جندي عراقي يعبر "الجسر الرابع" وسيهللون لمرأى أول عربة عراقية تسير في "الدواسة" تحمل أبناءهم القادمين لتحريرهم.
لدينا بالإنتظار، بلدٌ طويلٌ عريض علينا أن نطلب مغفرته لتفريطنا بالسكوت على أنينه، وخرابٌ ينتظر أن تمتد له يدُ الحب والتعمير، ومدينة ستحكي لنا قصّة اختطافها، والأهم من هذا ...لدينا مواطنون يستحقون التسامح، ذنبهم أنهم كانوا بين فكّي الكماشة ...أكاد أسمع المسيح يقول: "اللهم لا تضعني في تجربة"...وتجربة أهل الموصل كانت بمرارة الموت والدم.