أن نتحدث عن الكآبة النفسية وأسبابها وردود فعلها على الشخصية, فهذا يعني أن يشمل الحديث كل التنويعات الإنفعالية التي يتعرض لها الأفراد وتأتي ردود فعلها هوجاء, غير محسوبة في أسلوبها وفي نتائجها. ورغم تعدد السمات البارزة للشخصية الإنفعالية - الإكتائبية, إلا أن أهم مظاهر هذه الشخصية هي كون صاحبها يجد نفسه معزولاً عن المدار الإجتماعي مما يزيد من انفعالاته وشكوكه بالحاضر والمستقبل.
من الطبيعي أن تكون الشخصية الإكتئابية مبددة ومبعثرة لطاقات الفرد, فالمكتئب يتسم بالتهوّر والتوتر الدائم, وضعف المقدرة على ضبط النفس, والشعور بالنقص والذنب, وغير ذلك من حالات عدم الإستقرار في المزاج والعاطفة والتركيز الذهني, وهو يعجز بالتالي عن الاستجابة الضرورية - المثالية للعلائق الإجتماعية, ويعاني من قصور في ملاقاة التزاماته الحياتية في النطاق الشخصي والعائلي, الأمر الذي يوسمه بشخصية موتورة عبثية وغير مهيأة لتحقيق بناء حياتي متماسك ومتميز.. ومعظم الذين يعانون هذا النمط من الشخصية يتقبلون لأنفسهم مكاناً هامشياً في الحياة..
لماذا نشعر بالإكتئاب, وما هي الأسباب التي تحفّز فينا هذا الشعور المرضي القائم الذي يؤثر سلباً على السلوك الشخصي والإجتماعي؟ ولماذا يُبدي البعض تخوفاً من الآثار الجانبية للإكتئاب؟
كيف يتأصل الإكتئاب في النفس؟
الإكتئاب, مرض نفسي يرتبط بالحياة المزاجية للفرد, ويمكن اعتباره ردّ فعل طبيعياً لإنفعال حاد قائم في النفس, وغالباً تؤكده مصادر مسببة من الداخل وتقترن بمشاعر الضيق والقلق التي تهيئ الفرصة لعنصر الإكتئاب للظهور بشكل تلقائي. ومعظم حالات الإكتئاب تنجم عن صدمات نفسية يتعرض لها الفرد وتحدث اضطراباً في داخله يعكس خللاً في علاقته مع نفسه يُنذر بالسوء, ولعلّ أخطر ما تتصف به الكآبة, هو السلوك الإنطوائي الذي يتقرر تبعاً للشعور العميق بالإحباط والتشاؤم الذي يبلغ أحياناً حد الوهم والتخلّف السلوكي.
إن الاصابة بالإكتئاب, ليست محصورة بعمر معين, فالأطفال أيضاً يكتئبون ويعانون الشعور بالصراع النفسي الذي تبنى على أساسه نوازع الكآبة, وأعراض هذه الحالة تظهر عليهم بصور متعددة: كاضطراب النوم, الإنهاك, الكسل, التمارض وفقدان الشهية للطعام, الإنطواء على النفس, وأحياناً يتوهمون ما ليس له وجود, والكثير منا قد يكون لاحظ مثل هذه الأعراض على أحد أولاده, وربما يكون قد تعرّض لمثل هذه التجارب بنفسه, ولكن القليل منا يعرف كيف يتأصل الإكتئاب في النفس, وتأثير هذه الحالة على سلوكه وشخصيته.
إن الشعور بالإكتئاب هو انتهاك لأمان الفرد ودليل على وجود ركود في طبيعة حياته النفسية, خاصة في مجتمع الطفولة, وقد ساد اعتقاد بين علماء النفس والطب بأن الإنسان يكون أكثر تعرضاً للكآبة النفسية والعقلية في مرحلة الطفولة والحداثة, باعتبار أن الأعراض الإكتئابية في مثل هذا العمر المبكّر تأتي من توفر مصادر مثيرة وتلقائية تصيب الأطفال. والخطورة تكمن في أن الإكتئاب هنا يصيب شخصية لم يكتمل نموها بعد, ولم تصل الى مرحلة النضج النفسي والذهني والعقلي. كما أن لتجارب الطفولة أن توجّه الحياة السلوكية لصغار السن بصورة غير واعية, فيما لو تهيأت الظروف المساهمة في تصدّع البناء المعنوي وهدم ثقة الطفل وتشويه طمأنينته: فالصغار شديدو الحساسية وكل ما يمس صحتهم النفسية يؤدي الى انقلاب خطير في سلوكهم الشخصي. لذلك يقتضي البحث لمعرفة الأسباب الأصيلة التي تستقر وراء هذه الحالة المرضية, وردود فعلها وما ينتج عنها من سلوك مرضي.
لقد صنّف الطب النفسي الحالات الإكتئابية في كونها واحدة من إثنين: الإكتئاب الظاهر في السلوك, والإكتئاب المقنّع, وهو أخطر أنواع الإكتئاب, نظراً لصعوبة التعرّف الى أعراضه وهي في الغالب أعراض مرضية زائفة: منها مثلاً, الوسواس المرضي )توهّم المرض(, الأرق, التخوّف من مصدر مجهول, توقع السوء باستمرار, وغير ذلك من أعراض مرضية يتوهم الإنسان أنها قائمة فيه, ويظل هذا الوسواس موجوداً لديه وقد يتضاعف إذا ما وجد فيه تعويضاً لنقص عاطفي أو معنوي أو مادي في حياته وفي علاقاته الأسرية والإجتماعية... وعلى العموم, إن الكآبة في مختلف مراحل العمر مشكلة إنسانية, ولا يمكن أن نتقي تيارها العبثي إلا باكتشاف أعراضها مبكراً.
الكآبة وخطر الانتحار
لعلّ أقصى ما يعانيه المريض بالإكتئاب, هو الأعراض الاكتئابية الصرفة التي من أخطر مظاهرها: الأفكار الانتحارية, الناجمة عن الشعور بالذنب والتشاؤم والإحساس بعدم جدوى الحياة, وهذه الصورة السلبية عن النفس وعن الحياة, أكثر وقوعاً عند كبار السن, وغالباً ما يسيطر على المكتئب الشعور بأنه مكروه من عائلته, أو أنه يشكّل عبئاً على أفراد أسرته, ولا شك أن هذا الإدراك السلبي والتفكير الإنهزامي يفرض الإحاطة بجميع العوامل المتوفرة في المجال البيئي للمكتئب للوصول الى الدوافع السببية المرجحة لمشاعر الهزيمة. والأفكار الإنتحارية تعتبر من أخطر الصور المرضية للكآبة, وأكثرها خطورة تلك التي ينجم عنها المحاولات الإنتحارية التي يحدث فيها التعدي على الآخر قبل أذية النفس, ففي مثل هذه الحالات يشمل الخطر المجتمع ككل, وهل هناك أخطر من أن يُقدم المكتئب على قتل غيره كجزء من عملية انتحاره؟
لا شك أن المكتئب حين يتجه نحو الأعمال الإنتحارية يكون مندفعاً من شعوره باليأس, ومن إحساسه بعدم جدوى الحياة له ولبعض أفراد أسرته من بعده... إن هذه الصورة المرضية للكآبة الصرفة, مردّها الى الأفكار الخاطئة التي يتبناها الإنسان عن نفسه وعن عالمه, وأيضاً تعود الى أساس نفسي غير مستقر يدفع الفرد الى التشاؤم والتركيز على الجوانب السلبية من الحياة.
يعيش المصاب بالإكتئاب مرحلة محفوفة بالمخاطر, وهي مرحلة تقتضي منتهى الحيطة والحذر تجنباً لحدوث كارثة اجتماعية إنسانية.
ضرورة فتح آفاق جديدة
يرى وليم جلاسر (Glasser), أن الذين يعـانون من الكآبة تجمـعهم خاصية واحدة, وهي إنكارهم لواقع العالم من حولهم, وهو يدعـو لذلك الى ضرورة فتـح آفاق جديدة في حيـاة المكتـئب, تساعده في الخروج من حالتـه, والإتصال بواقـعه بنفسية متفائلة بعيداً عن التشاؤم والمزاج السوداوي. ويقول جـلاسر, إن التقـرب من المكتـئب وإقامة علاقـة ودية معه تشجـعه على أن يتحرر من متاعـبه النفسية, ويوجّـه انتباهـه لكي يصبح واعيـاً للحياة من حولـه وقـادراً على التعايـش مـع الواقع بعقلية متفهمة, فهذا يكفل له التعويض عن إحساسه بالنقص ويجعله ينظر الى الأمور بكيفية مثالية؛ ويقول جلاسر أيضاً: على المكتـئب أن يرتبـط نفسياً مع غـيره وعلى الأقل مع شخص واحد, ذلك أنه إذا استطاع الإقرار بوجود شخص واحد يرتبط معه بعلاقة ودّ واحترام وتفاهم, فإنه لن يبقى معزولاً ومنغلقاً على نفسه, وفي ذلك مفتاح تحقيق حاجاته النفسية المسيّرة لسلوكه والمحفزة لإنفعالاته. ويضيف مفسراً: إن الإصابة بالإكتئاب تسم شخصية صاحبها بالتردد والشك والعناد, والشكوى والقسوة, وكل صفات الشخصية الضعيفة - العديمة المسؤولية.
للكآبة وجوه متعددة
تأتي كآبة الأطفال كجزء من انفعال القلق, ومعظم حالات الكآبة الطفولية تُثار بسبب ما يتداخل في نفس الطفل من أحاسيس محبطة, وما يمر به من تجارب ضاغطة تفوق قدرته على التحمّل. وليس مقبولاً أن نفترض عدم وجود سبب للكآبة لمجرد أننا لم نقع عليه, فالطفل قد لا يستطيع التعبير عما في نفسه وفي ذهنه من أمور تزعجه, وهو لا يقدر أن يصف الحالة التي يعاني منها مباشرة, بل هي تظهر في سلوكه, وبأشكال متعددة, منها: خمول وعدم اكتراث, الانكماش على النفس ورفض التعاون, البكاء لغير سبب, والتمرد على رغبات الأهل.. الخ.
ولكآبة الطفل أسباب كثيرة: إحساسه بالإهمال والحرمان, والحاجة الى تأكيد الذات, ورفضه انتقاد والديه له والإنتقاص من قدر نفسه, الخ... وأكثر ما يؤذي الطفل هو الإعتداء على معنوياته, وشعوره بالإحباط.
قد تسـاور الطفـل أفكار سـوداوية تؤذي نموّه وحياته الوجدانية, وقد تراوده أفكـار انتحـارية, ويقـدم على تحقيقها لدافـع ما, وهذه الحالات وإن كانت نادرة في عالم الصغار, إلا أنها خطيرة وتفرض غاية الحذر, وأيضاً تلزمـنا بضرورة حجب مختلف العقاقير والوسائل التي يمكن استغلالها في المحاولات الانتحارية, وتطالبنا بمراقبة سلوك الطفل وعـدم إهمال صحته النفسية ومعالجته.
اضطرابات نفسية ومزاجية
في فتـرة الطفولـة يمرّ الصغار باضطرابات نفسية ومزاجية لا حصر لها, وهي في مجملها تتسبب في إثارة الإكتئاب في نفوسهم, وكلما كانت الحالة الإكتئابية حادة, واجه الفرد أزمة سلوكية, خصوصاً أن الكآبة النفسية أو العقلية تترك بصمات سلبية في الشخصية وسماتها الأساسية: العقلانية, الحذر, الإتزان, الاعتماد على النفس, الشجاعة على مواجهة المواقف, الإرادة المقرونة بكفاءة عالية, الإنفتاح وهدوء الطبع...
وإذا اعتـمدنا المقاييس التي استقر عليها العلم في اتجاه مرض الكآبة, لتبيّن لنا أن بعض المظاهر السلوكية الطفولية, هي دليل صادق على وجود خاصية اكتئابية لدى الأطفال الذين يتسمون بالأنانية والعناد والخجل والإنطوائية, وغيرها من المظاهر التي يعتبرها الأهل مظهراً سلوكياً طبيعياً ومألوفاً وربما ضرورياً لدى الأطفال. وتبرير هذه الضرورة أن الطفل يحتاج الى إطلاق ما يتدافع في نفسه من رغبات تزيد من إمكانية تعرّضه للإكتئاب, وينسى البعض أن الطفل في المقابل يحتاج الى من يوقفه بين الحين والآخر عن مطاوعة خياله وذلك بربطه بواقع يستحوذ على اهتمامه, وهذا قطعاً من مسؤولية الأهل, ثم المدرسة.
العلاج ضروري
إن للإكتئاب أعمق الأثر في النفس والسلوك الشخصي, فالمكتئب ينظر الى الحياة نظرة ضبابية, ويُرعبه إحساس داخلي بأن بناء قائماً فيه سوف يتهدم, وفي مثل هذا المناخ النفسي يصبح الإنسان عاجزاً عن التعايش مع أحداث الحياة.
وعلاج مرض الكآبة من الأمور الهامة في الطب ليس لأن المرض واسع الإنتشار, وإنما لأن معاناة المريض فيه مضنية وتؤثر على فعاليته في الحياة وفي الاستقرار, ومن ثم هنالك خطر الإنتحار, وهو من الأمور التي تجعلنا نلحّ في إيجاد العلاج الملائم لحماية المكتئب ودفع الخطر عن المجتمع الإنساني ككل.
وفي هـذا السياق, لا بدّ من التأكيـد أن عـلاج الكآبـة مماثل لعـلاج أي مـرض نفسي أو عقـلي لا يعـتمد على الدواء فقـط مهما كانـت فعالية هذا الدواء, وإنمـا هو عـلاج يشمل النـظر في جميـع العوامـل التي يمـكن لها أن تؤثر في شخصية المكتـئب, من نفسية أو جسميـة أو اجتمـاعية أو ظرفيـة, مع مـحاولـة ملاقـاتها بالطريقـة التي تساعد على التخفـيف من الحـالة المرضـية وأسبابها.
اعداد ....جوهرة واسط ^^ سمى
|