«ماذا ترى يا أبا تمام هل كذبت أحسابنا» ؟!
يـُخيّل ُ عليّ أحيانا كثيرة، عندما أقرأ قصتنا أو أكتب عن ما يجري في بلداننا، أننا نلوك الموضوع نفسه كمثل السّلف . يبدو لي أن المتغير الوحيد في عملية المضغ الطويلة والمتواصلة من جيل إلى جيل، هو المذاق فقط . أعترف هنا أن هذه المسألة تشغلني إلى أقصى حد، بمعنى أني أحار بأمر الطعم كيف يتحول رغم ثبات المُضغة، لعل هذا هو الشيء المشترك المتبقي بيننا، فنحن نمضغ نفس السياسة منذ قرون ولكن إحساسنا مختلف على الدوام . ففي هذا الزمان، صارت العروبة وقضية التحرر من الإستعمار الإسرائيلي والعودة واسترجاع «المقدسات » بطعم النفط والزفت !
إذن جاء دور «داعش»، التي قطعت في سوريا، رأس تمثال أبي العلاء المعري. يقال أنها أعدمت مؤخرا في الموصل تمثال الشاعر أبو تمام، المولود لأب مسيحي، الذي اعتنق الإسلام وقال : «السيف أصدق أنباء من الكتب ».. مادحا الخليفة المعتصم بعد استيلائه على عمورية، إحدى حصون الروم . لماذا ينتقم عزت الدوري والبعثي والمسلم والعراقي من تمثال أبي تمام في الموصل ؟ ألا يحيركم هذا أيها الناس ؟.
يحسن بالمناسبة أن نتذكر قصيدة الشاعر، اليمني عبد الله البردوني : «أبو تمام وعروبة اليوم» التي قال فيها :
ماذا جرى يا أبا تمام تسألني عفوا سأروي ولا تسأل وما السببُ
اليوم عادت علوج الروم فاتحة وموطن العرب المسلوب والسلبُ
حكامنا إن تصدوا للحمى إقتحموا وإذا تصدى له المستعمر انسحبوا
هم يفرشون لجيش الغزو أعينهم ويدّعون وثوبا قبل أن يثبوا
الحاكمون وواشنطن حكومتهم واللامعون .. وما شعّوا ولا غربوا
أما عن « أكذوبة داعش» ومن هم وراؤها، يحركونها ويمدونها، فإن المنطق يملي علينا أن نأخذ بالحسبان تساؤلات محقة ومبررة، لا أتفرد في الواقع في طرحها، بل سبقني إلى ذلك محللون ومراقبون يتوخون « الحقيقة »، في وقت صارت فيه هذه الأخيرة صناعة إعلامية تتوكل أبواق الدعاية بإظهارها كأنها حقيقيقة أصلية واقعية، وليست معدلة جنينيا في مخابر دوائر الفعل النفسي، الأميركية ـ الصهيونية .
من هذه الأسئلة، والأسئلة كثيرة، أين هو عزت الدوري، الذي أشيع أنه تسلم قيادة داعش في العراق، باسم البعث وأنصار الرئيس صدام حسين، والسيدة إبنته ؟! تناهى إلى علمنا أنه مريض؟ ما هي مبررات ذهاب محافظ نينوى في مطلع شهر أيار الماضي، السيد أسامة النجيفي إلى أنقرة ولقائه أردوغان ؟ هل يعقل أن تمتلك داعش، ثمانين دبابة، استخدمتها للإستيلاء على شمال شرقي العراق، دون علم الحكومة العراقية والجيش العراقي ؟! ما هو مستوى تسليح الجيش العراقي الجديد، حل الحاكم الأميركي الجيش العراقي، الذي تسمح به الولايات المتحدة الأميركية، حتى لا يتحول إلى قوة عسكرية من المحتمل أن تهدد «أمن أسرائيل « بحسب المصطلح، الذي صار في الذهنية العربية الغالبة بديهة من البديهات ؟ يتوجب التذكير هنا، لعل الذكرى تنفع، أن العراق يرتبط بإتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة الأميركية، وأن هذه الأخيرة، أنشأت في العراق، أكبر سفارة لها في العالم، وأنها أبقت في العراق، بضعة آلاف من جنودها، بصورة دائمة، من أجل حماية السفارة المذكورة !
لا يحتاج المرء لأن يكون خبيرا عسكريا، حتي يتشكك في استقلالية داعش والجماعات التي على شاكلتها، كون عسكر الولايات المتحدة الأميركية يتواجدون في تركيا في إقليم كردستان، في مياه الخليج وفي إماراته ومملكاته وفي الأردن . وأن ضخ النفط من الأبار السورية لم يتوقف وان الغرب يشتريه من تركيا ! هل بعد هذا شك في أن العراق وسوريا محاصران بقصد شد الحبل حول عنقيهما حتى يختنقان شنقا !
عندما كان طعم القضية كمثل طعم الحرية والكرامة، أثناء ثورة القسام في سنة 1935، القسام هذا كان سوريا ولد في جبلة، فرض المستعمرون الإنكليز الأحكام العرفية، وأعدموا شنقا في سنة 1939 وحدها 110 فلسطينيا، وكان يقبع في سجونهم 6000 فلسطين آخر. (قس ذلك على عدد الفلسطينيين آنذاك دون المليون نسمة ) . كان على الفلسطينيين في ذلك الحين، أن يقاتلوا المستعمرين وأعوانهم من أبناء الوطن وتجار الديانات ووجهاء العائلات . « تتكسر المقاومة وتتلاشى قوتها عندما تتفجر بربرية الطوائف والمذاهب والأحزاب، بموازاة بربرية المستعمر».
وبما أن المستعمرين يشترون النفط السوري من داعش، بعد أن رفضوا ابتياعه من الحكومة السورية، وبما أن هذا النفط يستخرج من الجزيرة. تتوجب الإشارة إلى أن هذه الأخيرة طـُعمٌ ألقمه على الأرجح المستعمرون الإسرائيليون، لما يسمى داعش. أقتبس من وثيقة (أخرجها هنري لورانس : كتابه الشرق العربي) قدمتها الحركة الصهيونية إلى وزارة الخارجية الفرنسية في 16 آذار 1938 ما يلي : «يشتمل الرهان الصهيوني على الأرض الممتدة من المتوسط إلى الصحراء السورية ومن سيناء والعقبة إلى لبنان .. تجمع الأوساط الصهيونية على أن بلقنة المنطقة كانت خطأ سياسيا، وان إصلاحه ليس ممكنا دون إعادة ضم الإجزاء، بحيث تكون هناك نواة مركزية تمتلك وسائل الإكتفاء الإقتصادي الذاتي تتجمع حولها بقية القِطـَع على أن يدور الكل في فلك القوى الغربية .. وتعتبر الأوساط ذاتها أن العناصر المكونة للنواة المركزية هي لبنان المسيحي، فلسطين اليهودية ومنطقة الجزيرة التي يجب تطويرها بواسطة اليد العاملة اليهودية الأوروبية الشرقية ورؤوس الأموال اليهودية وغير اليهودية»..
أخيرا لا منأى في إطار هذه المقاربة عن القول بأننا ما زلنا نلوك أيضا، نفس الخطاب الرسمي العربي. ففي سنة 1939 أصدر المستعمرون البريطانيون كما هو معروف «الكتاب الأبيض» الذي أعلنوا فيه أنه ليس في نيتهم جعل فلسطين دولة يهودية، وإنما سيعملون على إقامة دولة فلسطينية واحدة مستقلة . فعهِدوا إلى ملوك العرب آنذاك في مصر والعراق والأردن والحجاز بإقناع الفلسطينيين بالخلود إلى السكينة . اعتبر الملوك العرب الكتاب الأبيض نصرا . بالنسبة لهم « يكفي أن تلبس الهزيمة ثوب النصر ـ الهزيمة المعـيوبة بوجه خاص ـ حتى تصير إنتصارا بالفعل »
(لطف الله سليمان) .
الديار