هل يمكن رسم مشهد يومي لبابل وهي تعيش حياتها عام 700 قبل الميلاد حيث كان يحكمها نبوخذ نصر عندما ندخل المدينة نراها تنقسم الى عدد من المستطيلات ذات ممرات واسعة تترك الطريق فسيحاً امام المواكب والسلع الى مركز المدينة التجاري. وكانت هذه الشوارع تسمى باسماء الالهة العظام لمدينة بابل حيث يقسم الفرات المدينة الى نصفين فعلى يسار النهر لدينا شارع الاله مردوخ وشارع الاله ـ القمر وشارع إنليل سيد الارض اما على يمين النهر فهناك شارع أدد ، وشارع الاله شمس.
ويقال ان بيوتها حسب رأي بعض المؤرخين تتراكم في وسط المدينة وليس للعراقيين مبادئ في تخطيط مدنهم فاذا دخلت الى احد بيوت هذه المدينة ستراه كوخاً من الاغصان المتشابكة لها سقف من القش يقوّى بالطين حتى يجف وهذا النوع من النسق والبناء مازال قائما وللبيت عمود مركزي يثبت عليه اطار الجدار الخارجي وتغطى جدرانه بالحصران ويطلق عليه اسم الصرائف وكانت في البداية حظائر للماشية.
وطريقة البناء تتكون من حزم سيقان القصب تثبت على مسافات منتظمة متقاربة في خط مستقيم وتحنى رؤوسه لتتصل بعمود يؤلف سقف المبنى ولعل هذا يشبه مايعرف اليوم بالمضيف او كونه يشبه سلسلة العمود الفقري للسمك.
وكانت مادة الطين تمزج مع نثارات من القصب هي التبن وذلك لتعزيز قوته. وطبعا ستلفت في بعض البيوت انظارنا سقوف من شرائح جذوع النخيل تضاف عليها طبقة من التراب اما اذا كنت ظمآناً فسوف تقابلك أوعية كبيرة فخارية مترعة بالماء تسمى الحباب جمع حِب بكسر الحاء وانت داخل الى هذا البيت ستشاهد أطراً على ابوابها مصبوغة باللون الأحمر لغايات ليست جمالية بل لاسباب ذات علاقة بالطقوس وبالرقى لان اللون الاحمر يخيف الارواح الشريرة ويبعدها فيحمي مداخل البيوت من تأثيراتها وسوف تبصر الساكنين ينامون على حصران وبعضهم على أسرّة عالية تصنع من جريد النخيل وهناك جرار او قلل فخارية لها عرى صغيرة مثقوبة تمرر فيها خيوط لتعليقها بعيداً عن الجرذان وهناك مغارف او غطاسات فخارية لها نهايات تغترف السوائل واذا حلّ الظلام ستضاء مصابيح لها فتائل تشبة حذاء مدببا مثقوباً تمر به الفتيلة ، او انه يشبه مصباح علاء الدين يزود بما يسمى زيت الحجر وهو وقود كان شائع الاستعمال يوفر ضياء افضل مما يوفره الزيت المستخرج من بذور السمسم .
وقد كانوا يبرعون في استعمال المشاعل عندما تبدأ الحرب وتشتعل نيرانها وقد تشاهد وانت تخترق شوارع المدينة اسواقاً للرقيق واسرى الحرب فهناك رب إسرة بسبب فقره يبيع زوجته او اطفاله او نفسه اذا كان غير قادر على تسديد ديون تعاقد عليها ، وكان هؤلاء الارقاء يوسمون كما توسم الحيوانات وهو ختم يؤكد ملكية الرقيق لصاحبه بقطع من الحديد الساخن على جلد العبد والبعض كان يضع في عنق العبد لوحاً طينياً يحمل اسمه واسم مالكه. ويعتبر بمثابة قرص يوضح الهوية والانتماء.
هذا الموروث الحضاري البدائي او الاسطوري والديني استثمر كثيراً في الادب العراقي مثل اعمال الالهة او الطقوس الدينية في المعابد والتقاليد اليومية والاحتفالات وماورد في الملاحم الشعرية مثل جلجامش وقصة الطوفان، وسبق للنقد العراقي ان درس هذه التأثيرات في قصص محمد خضير وعبد الجليل القيسي ولطفية الدليمى الذين توحدوا بالتراث البابلي وعاشوا طقساً ميثولوجياً من الالهة والمعابد والزقورات والتراتيل البدائية ، ولعل بدر شاكر السياب كان اكثر شاعر تمثل الطقس البابلي حين رسم لنا في قصيدة مدينة بلا مطر صورة لمدينة بابل حيث يصحو تموز وهو اله بابلي وكان غارقا في نومه (الطيني) وهناك ابراج بابلية ومجامر من الفخار والعذارى ذاهلات حول عشتار وفي موكب يحمل اطفال بابل قرابين من الفخار او سلالاً من الصبار وهم ينتظرون ان تغسل بابل من خطاياها.
هناك فرق بين استلهام السياب لمدينة بابل وهي تنتظر المطر ، وبين السرد العراقي الذي كان يتيح للروائي العراقي رسم التفاصيل اليومية للحياة في بابل والتوحد معها وخلق معادل موضوعي لما يريد الروائي او القاص ان يعبر عنه . فهل كان الروائي يهرب من واقعه المعاصر للبحث عن بديل او عن رمز يكون اكثر قدرة وايحاءً في التعبير عن ازمته مع الحضارة او النظام.
محفوظ داود سلمان
منقول