البياع ذاكرة طرية وعيون متعبة لاتعرف السهر
لم تعد لمنطقة (البياع) تلك النكهة التي كانت لها قبل سنوات بعيدة، حيث كانت تفوح من ارجائها رائحة الهدوء والجمال والنظام والمتعة والحميمية عند التجوال في شارعها المخضرم الشهير (شارع عشرين)، فهي الآن لم تعد تمتلك زمام امورها للصخب المنبعث من امكنتها والفوضى الحاصلة على ارصفتها، امتدادا من اول الشارع الى نهايته ونزولا في بعض الاماكن الى نهر الشارع، ثم انها ما عادت تتنفس براحتها كما كانت وقد احاطتها الحواجز الكونكريتية من جميع الجهات ولم تترك لها سوى منافذ تقف عليها اسلحة وجنود واجهزة كشف المتفجرات، لذلك فالزحام لا يفارق شوارعها، وليس اي زحام، بل انه من ذلك النوع الذي يقتل الوقت ويقلق النفس، كما انها اكثر من غيرها عرضة للحوادث الامنية المختلفة ما بين تفجيرات وسرقات، لذلك فالمشهد في البياع التي تعد مصدر رزق كبير للناس لا يبعث على السرور.
البياع.. الان غير التي كانت قبل ثماني سنوات، او غير تلك التي كانت عليه قبل خمس عشرة سنة، تغيرت نحو الافضل وسرعان ما تغيرت اكثر بعد هذه السنوات نحو الاسوأ، مررت بها قبل ايام، درت حولها، توقفت امام ما استجد فيها، اعدت ذاكرتي اليها، كنت اتمنى ان اركض على ارصفتها لكنني لم افعل، تمنيت ان اسمع معزوفة تائهة لكنني لم اسمع، فالارصفة تغطت بالبضائع وبالوسائل التي تحملها، والاجواء تتشظى فيها اصداء المولدات الكهربائية وضجيج اصوات الخوف والحذر، ثمة توجس، فقد مرت على هذه المدينة حوادث عديدة اكلت من اشيائها الكثير وعلقت اللافتات السود على جدرانها وسارت في دروبها احزان ما زالت روائحها تفوح في كل الامكنة وتتشعب في شوارعها العامة والفرعية، لقد تغيرت البياع لكنها لم تفقد احلامها.
صباحاتها لاتشبه مساءاتها، الحياة التي تدب فيها منذ (الغبش) سرعان ما تمتلئ نشاطا يصل الى ذروته في الساعات التالية ولكن بعد ان يدركها وقت العصر يبدأ الذوبان، يتضاءل العدد حتى اذا حل الليل لا تسمع الا وقع خطوات مسرعة ترن على اسفلت الشارع العام منها، فيما شارعها الكبير، الذي تحده سيطرات عسكرية، حين تعاينه لا ترى فيه سوى ظلام يتكدس على الاشياء واحيانا لا ترى الا بصائص اضواء متفرقة، وثمة خوف يكتنف المسافات اذا ما ابتعدت الخطى اكثرمن مئتي متر لان الصورة تصبح قاتمة وليس هنالك سوى اكوام من اسوداد لاتعرف ماهيتها.
جغرافية وتاريخ
من ينظر الى البياع، الى بيوتها وتخطيطها، لا يمكن الا ان يؤكد حداثة عهدها، فعمرها الان لن يتجاوز الستين عاما، كل ما فيها يدل على ذلك، فبناؤها حديث وشوارعها كذلك وتخطيطها يوحي بذلك، حيث التفاصيل في الازقة والمحلات، وحتى شارعها الشهير يدل على انه معلم حديث، فهو على حاله منذ بدايته ولم تجر عليه توسعات، بل ان بعض التعديلات لم تتوافق مع الحالة العامة، يذكر الباحث قاسم خضير في بحث له: ( ان البياع حي كبير في الكرخ، انشيء في الخمسينات (من القرن العشرين)، والتسمية جاءت من اسم المالك لتلك الارض وهو الحاج علي البياع ).
هذه نظرة الى ماضي المدينة، طفولتها، حيث تشكل اول بناء على هذا الطرف (الغربي الجنوبي للكرخ)، اكتملت لديه الاشياء قبل ان يبدأ حي السكك (حي العامل) بالتواجد، وهو اول حي بعد البياع يبنى في هذا المكان، وحين اغمض عيني واذهب الى اواسط الستينات لأسوح فيها اجد ان المساحات تلك التي تبدو وكانها سجادة معلقة بأيدي (حي القادسية) الذي يحدها من الشمال، ولم يكن هنالك من بناء حولها، لاسيما الطرف الجنوبي الخالي تماما الا من بستان (الحاج عمران) الذي يبعد عنه مسافة ليست بالقصيرة والذي كان يمتد اليه شارع ترابي يحاذي البياع تم تعبيده ثم ألغي في اوائل الثمانينات حين قامت عليه الاحياء السكنية، وكذلك الجانب الشرقي، بينما يفصلها من الغرب عن حي العامل فاصل ترابي واسع كان في بعض الاوقات يمثل ملاعب لكرة القدم للفرق الشعبية في العديد من اجزائها وساحة لمواكب العزاء، و تقطع هذه المساحة ساقية عريضة للمياه الثقيلة نازلة الى مستنقع شهير يسمى (شطيط) حيث تصب فيه، و(شطيط ) هذا مستنقع عميق تتجمع فيه المياه الثقيلة والنفايات والسكراب..
هذا المكان يرسم جزءاً من الطرف الجنوبي امتدادا الى الطرف الاخير من حي العامل ومكانه الحالي هو الحي الصناعي وجزء من معارض السيارات، شطيط هذا كان عجيبة من عجائب المنطقة فهو رهيب الشكل ليس له قرار تتراكم فيه الاشياء بشكل غريب وصورته بشعة، حيث لون المياه فيه عكر والقذارات كلها فيه، وما بعده لم يكن سوى مساحات يصفر فيها الفراغ، مساحات غير منظورة لا يرى الناظر اليها سوى سراب يلتمع في (سبخها)، وبعد سنوات اقيم على مسافة من البياع (حي الرسالة)، في اواسط السبعينات، وما دمت اتحدث عن السبعينات، فقد كان شارع (20) ينتهي جنوبا بساحة دائرية صغيرة هي مجرد (فلكة) للسيارات تدور حولها لتعود من حيث اتت يسيجها القصب النابت عشوائيا، وما بعدها ارض سبخة لايقترب منها احد ، ومن الطريف ان بعض سائقي السيارات كانوا لا ينتبهون في الليل الى ما هو موجود او اولئك الذين تأخذهم غفوة، وسرعان ما يجدون سياراتهم مغروسة في تلك الارض، ايام كان الشارع هادئا، ولم تعرف اطرافه الصخب، ولا اعماقه، كان هو الشارع العام، فيه سوق تقع على طرف من وسطه ولا غيره، فضلا عن بعض المحال التجارية البسيطة كالافران ودكاكين المواد الغذائية وغيرها، واغلب ما على ضفافه هي دور سكنية، وتنتشر على اجزاء منه المقاهي وفيها مقرات الفرق الرياضية حيث ترى صور لاعبي الكرة العراقيين اما اشهر فريق فيها فكان فريق (الطليعة) وفريق (برازيل البياع) الذي كان يلعب له حارس مرمى العراق الشهير رعد حمودي في صباه وتقطعه حافلة مصلحة نقل الركاب ذات الرقم (45) التي كانت تتهادى تبحث عن راكبين قبل ان تتغير الحال وتكتظ بهم في السنوات التالية.
ونظرة اخرى.. على البياع نجدها تختلف عن غيرها كونها احتضنت اول دار سينما متكاملة (سينما الكرنك) التي تقع في شارع (13) كانت محطة لكل الشباب من ابناء المنطقة وما حولها فيما بعد، وجاءت بعدها سينما (اليرموك) التي تقع في اعالي المدينة في شماليها ببنائها الحديث، وكانت مع الكرنك علامتين بارزتين مهمتين في ذلك الواقع، لكن سينما الكرنك اغلقت منذ امد بعيد وتحولت الى ورشة نجارة، وما زال شكلها القديم يعيد الى الذاكرة رنات تلك الخطى الصبيانية التي تهرع الى مدخلها لا سيما في ايام الاعياد، وظلت سينما اليرموك لمدة وقد حاولت ان تكون مسرحا شعبيا ثم تحولت الى بناية تحمل الاسم فقط وها هي الان واقفة تعاني الكهولة لا ترى الا الشارع الذي صار سريعا، وان حجزته عنها الحواجز الامنية، كما تميزت البياع بكونها احتضنت اول معمل للثلج ثم صار اثنين قبل ان يندثر الاول قبل سنوات ومن ثم يليه الاخر قبل وقت قريب.
تحولات الاسم وثباته
في السنوات اللاحقة.. اخذت تسكب المتغيرات على البياع، وتحولت الى عالم كبير يزدهي بالاسواق والحركة لا سيما بعد ان اقيمت حولها المدن التي صارت تنتمي لها، لكن اغرب ما حدث ان اسم البياع نال تغييرا طريفا وان كان شهيرا فقد اعطاه النظام السابق اسم (التأميم) لكنه لم يغير منه شيئا وظل الاسم الجديد فقط في سجلات البلدية، وتكاثفت عليه المستجدات ليكون الشارع تحديدا عالما مفعما بالجمال والحيوية والمتعة، حتى اصبح الشارع اكثر ضجيجا وامتدت الاسواق الى مساحات ابعد وبنيت العمارات ، وما زلت اذكر (الافق) الذي كان حاضرا في رغبات الشباب الذين يجدون فيه الاستكانة مع اجواء شاعرية تتناطح فيها الكؤوس، واقيمت معارض السيارات في جنوب الشارع ومرائب سيارات النقل وصارت المدينة محورا لكل المدن التي تدور حول البياع، ولكنها عزلت عن اشيائها الجنوبية بساتر الكونكريت فأصبح المنظر بشعا وصفحاته ملوثة بالاسمنت البارد.
هذه المدينة.. زهرة على ياقة قميص الكرخ، كثيرة حكاياتها، في السابق والحاضر، وكل القراءات في ايامها لن تفيها حقها، ها انذا اقف على طرف الشارع الجنوبي، يثيرني المنظر، فمع بعض التجديد لبعض الاشياء فيها الا انها لم تكن سعيدة لاسيما في سنواتها الاخيرة حيث بوغتت بتفجيرات ارهابية دامية قاسية في داخلها وخارجها راح ضحيتها العشرات وتكللت بالسواد والبكاء امتدت اليها الحواجز الكونكريتية لتسد منافذها، وصارت تنام مبكرا على وجع الحذر، تطفيء نهارها لكن قلبها يظل يترقب، محالها تقفل ابوابها مع غروب الشمس وحين يهم الليل بالانتشار تتقوقع على نفسها، وقفت اترقب علامات الحزن في شارعها الطويل الذي صار ينوء بالوحشة والظلمة، وتلك الاثار على جسده مما تركته الانفجارات، كثيرة هي البنايات التي تعطلت فيها الحركة وغادرها اصحابها الى السماء او الى اماكن اخرى، لكنها الان تحاول ان تقاوم الظروف، تنظر في الجهات وتستجمع شجاعتها للوقوف من جديد لكن الحذر ما زال يراودها، اشعر انها الان تمشط شعرها وترتب هندامها وتتوضأ بضوء الفجر وتشجع ابناءها على ان يكونوا اذرعا تعينها كما تتمنى من بلديتها ان تعالج ما تضرر منها، سألت رجلا كان على مقربة مني: كيف ترى البياع الان؟ قال: يحزنني منظرها ويؤلمني شكلها فهذه ليست البياع التي عرفتها، ايام كانت رائعة وكان شارعها هذا حيويا، يا صاح.. ثقيل هو حمل المدينة ولكنني اظنها في لحظة ستقرع نواقيس استعادة بهائها كاملا، وتعود مجددا اليها ايامها ولياليها.
عبد الجبار العتابي