نظرات في تجربة الشاعر السوري صقر عليشي21/06/2014 11:09
لا شك أن خصوصية أية ظاهرة شعرية ناتجة عن خصوصية لغتها التي تم التوحيد بينها وبين التجربة الشعرية، بحيث أصبح من الصعب الفصل بينهما حتى بدت التجربة وكأنها نتاج اللغة. لذا لا يمكن قراءة صقر عليشي من دون التوقف عند لغته الشعرية المطعمة بنكهة خاصة هي السخرية ولكن بطعمها الحلو. فاللغة في الشعر كما يقول الناقد "عبدالله الموافي" ليست غطاء للتجربة، بقدر ما هي التجربة نفسها. وبذلك تم الدمج بين الأداة التي هي اللغة وموضوعها التجربة حتى أصبحت الوسيلة هي غاية ذاتها
من هنا وبقراءة لما كتب صقر عليشي منذ بداية الثمانينيات سنلحظ أن الشاعر عمل وبجد على خلق لغة خاصة به مزج فيها بين اللغة الشعرية واللغة اليومية دون أن يتخلى عن انفعالية اللغة التي تخص اللغة الشعرية، ولم يهمل الوظيفة الاتصالية للغة التي تعود للغة اليومية أو التداولية كما يسميها النقاد. وهنا يمكن القول أن شعرية القصيدة تصبح نتاجا لا للكلمات، ولكن للعلاقات التي تنتج عن تجاور تلك الكلمات. وهو أمر اشتغل عليه الكثير من شعراء الحداثة فيما بعد .
قالت الدائرة/ درت بالمعنى/ على أكمل وجه/ دعك مما قاله بالسوء عني/ مستطيل/ مركزي نقطته ثابتة/ ليس لومالت به الريح/ يميل/ أنا لا أول/ لا آخر لي/ أنا في ذاتي بذاتي مستمرة/
حينما أحببت أن أظهر/ في شكل جميل/ صرت للمرأة سّرة.
منذ بداية الثمانينيات وهو الجيل الذي ينتمي إليه "عليشي " شعريا تمرد هذا الجيل بكامله في الكتابة الشعرية على مفهوم الانحراف اللغوي، والمقصود به هنا إضفاء الشعرية على العالم والمضي باتجاه لغة قادرة على اكتشاف الشعرية في العالم، وذلك لا يتم إلا عبر الكشف عن علاقات التجانس الكوني بين الأشياء. وهو أمر انتبه إليه تماما على الرغم من أنه لم يكن قد خاض بعد تجربة قصيدة النثر.
اللغة التداولية أو السهلة أو اللغة الثالثة كما سماها نزار قباني التي أصبحت قدر الشاعر الجديد وواقعا لغويا للقصيدة، كانت من أهم ما اشتغل عليه "عليشي" في مشواره الشعري، فهو أدرك مبكرا أن لغة القصيدة الجديدة تعبير عن واقع شعري بقدر ما هي الواقع الشعري نفسه. لذا انتمت قصيدة عليشي بطريقة من الطرق إلى النص الحداثوي، لكن ما يميزها أنها لم تقطع صلة الرحم مع النص الأسبق. وهو في ذلك انتبه أيضا إلى أن أي لغة حين تتبنى وظائفها الانفعالية لتصبح في نهاية الأمر لغة شعرية، فإنها تفقد مجانيتها لتمارس نوعا من الانحياز،لا للقصيدة ولكن لكل الشروط التي شكلت الطبيعة الشعرية للقصيدة، ويجب أن نشير هنا إلى أن حياد اللغة هو انحياز للتجربة، لذلك فهي ستغير من سلوكياتها الجمالية، ستتبنى آليات لم تكن سائدة كثيرا ولكنها ستعتمد على آليات كانت مهمشة سيعاد لها اعتبارها كالسرد والتوقيع والتكرار والتداعي ، وهي آليات ستتبناها قصيدة النثر منذ أواخر الثمانينيات.ولكن"عليشي" استثمرها مبكرا في تجربته الشعرية، فلا تكاد تخلو قصيدة مثلا من آلية التوقيع، والتوقيع هو ظاهرة بلاغية تعني الإتيان بكلمة واحدة أو بمقطع صغير بعد مقاطع طويلة حيث تكون الكلمة هي قفلة تامة للمعنى حيث يتم إرجاء اكتمال المعنى حتى نهاية القصيدة، وفي هذا الإرجاء نوع من تأجيل المعنى ، الذي يكون في حالة غياب، يضفي في حالة اكتماله نوعا من المتعة الوجدانية والعقلية.
نحن لا أطيب،ولا أبسط منّا/ هكذا نحن/ طوال/ وبديعون/ على مد النظر/ مستعدون لأن نصعد
حتى للقمر/ مستعدون لأن نسقط/ لكن/ كالمطر .. من قصيدة "هكذا نحن "
التداعي
وهو طريقة في السرد قريبة بعض الشيء من تيار الوعي، حيث تتداعى الأفكار بطريقة تبدو فيها غير مترابطة تباعا، ولكن هنا في الشعر يكون التداعي للربط بين مفردات تندرج داخل علاقة لكنها تظل متوارية، ولا تحتاج والحال كذلك إلى فك شيفرتها، بقدر ما تحتاج إلى قدر من الوعي الشعري للتواصل معها. هذه الآلية السردية تستهدف كسر حالة الاسترخاء الذهني التي يستدعيها وضوح النص، وهذا نجده جليا وفاتنا في قصيدة "الغزال" و"شرح على الذيل" و"مشى على الغيم" و"في منتهى الياسمين". أما السرد فقد لعب "عليشي" لعبته مبكرا فكان سردا حكائيا امتاز بحيادية لغته لكنه لم يتخل عن انفعالية الشعر، وحتى يصبح أكثر سطوعا في ذاكرة المتلقي منحه إيقاعه الشفيف خفة لا تحتمل وطعمه بالتوقيع والتداعي ونكهه بالسخرية .وإن كان يؤخذ على الشعر العربي جنوحه إلى الحزن والألم واليأس وابتعاده عن كل ما يبعث البهجة والفرح، فإن "صقر عليشي "قلب المعادلة ونقل القصيدة من هذا "المطرح" إلى "مطارح" الابتسامة، فمن الصعب وأنت تقرؤه أن تحبس ابتسامة ستفلح في النهاية بالتحرر من شفتيك. والجميل هنا انك لا تبتسم هنا لأن السخرية تركت تحت لسانك طعم الدفلى، بل لأنها ذكرتك بطعم السكاكر، التي كانت تخبئها الجدة لنا عندما كنا صغارا ذلك الطعم الذي لا ينسى الذي يمزج بين رائحة العشب والحنان والسكر، الأمر الذي لعب دوره في ذلك هو طريقة التعبير واللغة التي خلقها الشاعر لتصير سمته الخاصة وطريقة طرحه الشعري.
الطبيعة
ببساطة يمكن القول أن عليشي يعتبر الطبيعة معجمه الأساس ومنجمه الذي يعرف كيف يجد فيه ذهبه فلا تخلو قصيدة من أحد مفرداتها (الغيم، الروابي، الحطب، الصفصاف، السرو، الثلوج ، الطير، البراري، الإوز، نمر، الغابة، حليب، ضرع، مرعى، الأعشاب، بقر، ثور، الحمامة ، زيتون، الغزال، الياسمين، الذئب، هدهد،...)والقائمة تطول لكنه يعرف كيف يجرها إلى القصيدة ويخلق ذلك التمازج بينها كبديل عن المكان المطمور عميقا داخله وبين الذات والحب على تنوع أشكاله، لتنتج تلك القصائد التي تحكي حكايات تلك الذات المترنحة والمطاردة والمتروكة أيضا على راحتها، تلك الذات التي زامنت القلق حتى آنسته واستكانت إليه، الذات التي عرفت الحيرة وساءلتها لكنها لم تستطع أن توقعها في شركها..الذات الجموحة التي طاردت المعنى والشعر على طول تجربة امتدت على طول ثلاثين سنة..
ولا تزال.