أمريكــا، و خيــار تفجيـــر المنطقـــة
أحمد الشرقاوي
كان من الصعب فهم أسباب طلب وزير الخارجية العراقي ‘هوشيار زيباري’ من الولايات المتحدة الأمريكية مساعدة الحكومة العراقية في محاربة إرهاب “داعش” وأخواتها، لأن وجه صعوبة تقبل الأمر، تكمن في قناعة العراقيين ومحور المقاومة كافة كما كل شرفاء العالم، بأن أمريكا هي رأس الشر، وتتحمل بالتالي المسؤولية السياسية والأمنية والأخلاقية عن كل ما يقع في العراق والمنطقة اليوم.
ولأن أمريكا هي من دمرت الجيش العراقي وكل مؤسسات الدولة باستثناء وزارة النفط سنة 2003، وأعادت إنتاج نظام “ديمقراطية الطوائف” الذي لا وجود له في قاموس علم اللإجتماع السياسي، ليبقى في يدها كصاعق تفجير تستعمله متى تشاء. وها هي تفعله اليوم، لتدمير العراق وتفتيت شعبه وتقسيم جغرافيته خدمة لمشروع شرقها الصهيوني الكبير، لذلك فلا غرابة أن نسمع إعلام الزيت يروج اليوم لمقولة “ثورة المظلومين”، ونسمع أمير ‘البروسطاط’ في الرياض، ‘سعود الفيصل’ يبشر العراقيين بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر، في حال لم يقبل المالكي بالنفوذ السعودي على العراق.
كما أن أمريكا هي من أسست الجيش وقوات الأمن في العراق قوامها مليون مجند، فدربتهم وسلحتهم وفق مبدأ “عقد الإذعان” الذي يعني في القانون التجاري، أن يخضع الطرف المضطر لكامل شروط الطرف الأقوى من دون إعتراض أو تحفظ. والمصيبة، أن أمريكا قبضت الأثمان مقدما، ومع ذلك، لم توفي بكامل إلتزاماتها لناحية التسليح النوعي الذي يسمح للجيش العراقي بمواجهة الإرهاب، وخصوصا سلاح الجو.
لن نخوض هنا في شرعية ما سمي بالإتفاق الأمني الإستراتيجي بين العراق وأمريكا من وجهة نظر القانون الدولي، لأن هناك اليوم أصواتا ترتفع في العراق والمنطقة، تنبه إلى أن الإتفاق وقع والعراق فاقد لسيادته تحت الإحتلال الأمريكي، ما يجعله إتفاقا معيبا لعدم توفر شرط الإرادة الحرة، الأمر الذي يفقده الشرعية القانونية والأخلاقية، ويجعله إتفاقا باطلا بقوة القانون وحكم الواقع أيضا.
ومن جانب آخر، يشترط الإتفاق في أحد بنوده، أن تتكفل الولايات المتحدة بضمان أمن العراق وحمايته من أي هجوم إرهابي داخلي أو خارجي. ومع أن العراق يتعرض لأبشع هجوم إرهابي يشكل خطرا على المنطقة والعالم أيضا، نتيجة مؤامرة دولية وإقليمية تستهدف جغرافيته وكيانه، إلا أن إدارة ‘أوباما’ ومن دون مبرر قانوني معقول أو أخلاقي مقبول، لم تتدخل لوقف العدوان الذي يتهدد العراق باعتباره حليفا إستراتيجيا لها بحكم الإتفاق المذكور.
وكان لزاما على إدارة ‘أوباما’ في حالة العراق أن توقف السعودية وقطر الداعمتان للإرهاب عند حدهما، ومنع الأردن من فتح حدوده لمرور السلاح وفلول الإرهابيين والمخابرات السعودية إلى الداخل العراقي.. غير أن إدارة ‘أوباما’ لم تفعل شيئا يذكر في هذا الصدد، ولم تتحدث بشيىء عن الدول الداعمة للإرهاب، بل ركزت على طائفية المالكي وضرورة تنحيه برغم أنه جاء بإرادة شعبية نتيجة عملية ديمقراطية حرة ونزيهة باركها العالم، ثم عدلت فجأة من خطابها كي لا تغضب إيران، وطالبت رئيس الوزراء العراقي بتأليف حكومة قوية تضم كافة المكونات الطائفية بالبلاد.. وكأن المشكل سياسي لا أمني، وكأن المالكي وسياسته هي من جائت بالإرهاب إلى العراق على شاكلة ما فعل الرئيس السوري في سورية، وفق المنطق الأمريكي الذي لا هم له سوى تبرير الإرهاب الذي تحول إلى سلاح فتاك في حربه الناعمة على الدول المارقة والممانعة والمقاومة لإسرائيل.
ولعل الفضيحة التي لم يجد لها ‘أوباما’ حديثا مقنعا لتبريرها، هو ما أشار إليه النائب عن ائتلاف دولة القانون ‘شاكر الدراجي’ هذا الأسبوع، حيث قال: “أن العراقيين يقتلون بالأسلحة الأميركية التي حصل عليها تنظيم ‘داعش’ من المسلحين في سوريا”. وبالتالي، فكيف يمكن لأمريكا محاربة داعش في العراق وهي تدعمها بالسلاح في سورية؟..
لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي، أعلنت أن حكومة بغداد ستقطع علاقاتها مع واشنطن إذا لم تلتزم بتنفيذ وتطبيق الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة بين البلدين، فيما أشارت إلى أن العراق سيبحث عن دول أخرى لشراء الأسلحة مثل روسيا.
ووفق نائب رئيس اللجنة البرلمانية العراقية ‘إسكندر وتوت’، فإن “الحكومة العراقية بصدد إتخاذ الإجراءات اللازمة لإلغاء الاتفاقية وقطع العلاقات مع واشنطن بسبب إخلالها ببنودها”. وأوضح في حديث له لـ”السومرية” العراقية، أن “العراق سيبحث عن دول أخرى مثل روسيا والدول العالمية لشراء الأسلحة والأعتدة والطائرات الحربية لتجهيز الجيش من أجل تنفيذ عملياته العسكرية ضد الإرهابيين وحماية الحدود”.
وللإشارة، فإن الإتفاقية المذكورة، تم التوقيع عليها بين العراق والولايات المتحدة نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2008، وسميت بـ”الإستراتيجية الإطار” لدعم الوزارات والوكالات العراقية في الانتقال من الشراكة الإستراتيجية مع جمهورية العراق إلى مجالات اقتصادية ودبلوماسية وثقافية وأمنية، فضلاً عن توفير مهمة مستدامة لحكم القانون بما فيه برنامج تطوير الشرطة والانتهاء من أعمال التنسيق والإشراف والتقرير لصندوق العراق للإغاثة وإعادة الإعمار.
ويذكر أيضا، أن العراق كان قد رفض حينها منح الجنود الأمريكيين حصانة تعفيهم من المتابعة القانونية في حال إرتكابهم لجرائم ضد المدنيين، وهو الأمر الذي اضطر الرئيس ‘أوباما’ لسحب كل جنوده من العراق.
على ضوء ما سلف، نستطيع فهم سبب مطالبة العراق لإمريكا بحمايته من الإرهاب، حيث تبين أن الهدف الحقيقي من ذلك هو إقامة الحجة على إدارة ‘أوباما’، وكشف زيفها ونفاقها وتورطها في دعم الإرهاب، كمقدمة لإلغاء الإتفاقية الإستراتيجية معها والتوجه بـ 180 درجة نحو روسيا التي تكسب بذكاء ما تخسره اليوم أمريكا بغباء.
يتضح ذلك جليا من حديث ‘أوباما’ الخميس من هذا الأسبوع، حيث قرر حسم أمره بعدم محارب الإرهاب الذي صنعه وأطلقه في العراق حتى لا يغضب حليفته إسرائيل وأدواته الإجرامية في “السعودية و قطر”. وفضل أن يكون الحل ديبلوماسيا من خلال التركيز على حكومة سياسية إئتلافية، وهو ما يعني إجبار خاطر السعودية من خلال وضع عملاء لها في الحكومة الجديدة كما هو الحال مع 14 سمسار في لبنان، وكما حاولوا دون نتيجة من خلال “إئتلاف الكراكيز” الخونة في سورية، ليتأكد أن إدارة المجرم ‘أوباما’ تسعى لتبرير الإرهاب للإبتزاز السياسي، بهدف تحقيق أهداف انتهازية لا تخدم في شيىء مصلحة العراق والعراقيين.
وهو ما فهمته إيران، فرفضت رسميا على لسان مسؤوليها، عسكريين و حكوميين كبار، أي تعاون مع الولايات المتحدة في العراق، بل ورفضت أي تدخل لأية دولة خارجية في الشأن الداخلي العراقي، مؤكدة أن العراق “شعبــا و جيشــا و مقاومــة”، قادر على مواجهة الإرهاب ودحره، وأن إيران نفسها لن تتدخل في الشأن العراقي إلا بطلب رسمي من الحكومة العراقية للمساعدة في مجال الإستخبارات والتزود بالسلاح دون حاجة لإرسال جنود على الأرض.
ومن الواضح أن الموقف الإيراني، جاء لقطع الطريق أمام الأطماع الأمريكية في تفتيت العراق من بوابة الحل السياسي بالتعاون مع معها فيما يشبه دعوة لـ”مأذبة اللئام”، يتم بموجبها توزيع الكعكة العراقية بكرم بين إيران والسعودية وتركيا. غير أن تركيا التي سائت علاقتها كثيرا مع السعودية بسبب الحرب على “الإخوان” في مصر والمنطقة، رفضت أي تدخل أمريكي لضرب “داعش” بالطائرات من دون طيار، بدعوى أن مثل هذه العمليات العمياء تخلف ضحايا في صفوف المدنيين.
هذا الإعتراض العلني من قبل المجرم ‘أردوغان’ يعتبر رسالة واضحة لأمريكا مفادها، أنه عليك التفاوض مع تركيا حول حصتها ونفوذها قبل التفكير في التدخل في العراق، تماما كما فعلت في ليبيا، عارضت الناتو بقوة وهي عضو فيه، ثم انخرطت في الحرب لتدمير ليبيا عندما ضمنت حقها بتحالف مع قطر. واليوم، يعرف ‘أردوغان’ أنه من دون القواعد التركية التي توفر لها تغطية “الناتو”، لا تستطيع أمريكا إستعمال قواعد مشيخات الخليج المتهمة بدعم الإرهاب لمحاربة الإرهاب وإلا أشعلت حربا طاحنة بين جيوش المنطقة.
ما أوردناه أعلاه، يكتسي من الأهمية والخطورة ما يجعلنا نجزم، بأن الأمور في العراق والمنطقة ذاهبة نحو التصعيد والتأزيم.. هذا أمر بات واضحا، وما بدأته أمريكا والسعودية وقطر لا يمكنهم العودة عنه من دون أثمان سياسية تعتبرها السعودية إنتصارا لها وضربة إستراتيجية موجعة لإيران.
لكن وبحكم الخيبة التي حصدتها أمريكا بسبب رفض إيران التعاون معها على الإثم والعدوان، وإصرار السعودية على تدمير العراق وسورية ولبنان أيضا المرشح للتفجير بعد إنتهاء خرافة الغطاء الدولي الذي كان يراد منه تحييد حزب الله الجبار، وعدم خلط الأوراق في المنطقة، وتفجير العراق بعد سورية قبل العودة للبنان فإيران وفق خطة متدرجة تتعامل مع محور المقاومة حلقة بعد حلقة.
اليوم وجدت أمريكا نفسها في مأزق لا تعرف كيف تخرج منه إلا بتطبيق شعار “من بعدي الطوفان”، وأصبح وجودها في العراق مهددا، وأدركت أن إيران هي من تقف وراء فكرة إلغاء الإتفاقية الإستراتيجية القائمة بين العراق وأمريكا، لإستبدالها بأخرى مع روسية مثل ما هو الحال بالنسبة لسورية، وبذلك يكتمل المشهد ويصبح محور المقاومة سلسلة قوية وفاعلة من بيكين إلى غزة.
لأن قول الرئيس ‘أوباما’ في إطلالته الإعلامية الخميس، أن المنطقة مقبلة على أزمات كبيرة ستستمر لوقت طويل، وأن على أمريكا وحلفائها أن يتحضروا لذلك، يعني بالعربي الفصيح: “تفجير المنطقة”.
وإذا كان هم أمريكا من عدائها لإيران ومحورها هو ضمان أمن إسرائيل، فإن عداء السعودية ومشيخاتها الغبية لإيران لا يضاهيه عداء، لأنه تحول إلى نوع من البارانويا لدى أمراء الزيت والظلام، يسيطر على قلوبهم السوداء ويستبد بتفكيرهم الوضيع.. وهذه حالة مرضية لا تعرف لها ديبلوماسية الحوار علاجا، ويعجز علم النفس التحليلي عن معرفة أسبابها، ما يجعلنا نرجح أن يكون للأمر علاقة بجينات آل سعود وآل عيسى وآل خليفة اليهودية المشبعة حد التخمة بالحقد الصهيوني.. والعرق دساس كما يقول الرسول الأعظم (صلعم).
ما من الشك، أنه من الوهم المراهنة من قبل حلف المؤامرة على حرب التفجيرات الإرهابية والإغتيالات السياسية والهجمات المنظمة لفلول المرتزقة على دول محور المقاومة بهدف إستنزافها حد الإنهيار من دون أن تدافع هذه الأخيرة على شعوبها ووجودها ومصيرها.. لأن ما يدور في رأس الحمار الأمريكي يعرفه الدب الروسي والتنين الصيني، وما يدور في رأس الجمل السعودي يعرفه الجمال الإيراني.
لذلك نقول لهم.. أن الوقت قد حال ليذوقوا وبال أمرهم ويشربوا من السم الذي سقوه للإبرياء والشرفاء.. ومعنى المعنى، أن العدو لن يهنأ بالراحة ويتمتع بالإستجمام ويشرب الجنس مع الخمر وهو يتفرج على أشلاء الأبرياء تتطاير في سماء لبنان وسورية والعراق.. ونستطيع الجزم بمنطق التحليل، أن المعارك القادمة ستنتقل بسرعة الضوء إلى أرض العدو، لأن اللواء ‘قاسم سليماني’ رجل خبير في رد الجميل لأصحابه، وأمريكا سبق وأن خبرت كفاءاته الإستثنائية في أفغانستان والعراق، فخرجت تجر أذيال الخيبة والذل والهزيمة، فكانت بداية الإنهيار.
لذلك، لا نستبعد أن تتوسع ساحات النزال في المدى المنظور، لتشمل الأردن والسعودية وإسرائيل، ليرى العالم العربي والإسلامي مشهدا جديدا وغريبا لم يعرف التاريخ نظيرا له.. السعودية وأدواتها في المنطقة، يقاتلون العرب والمسلمين في لبنان وسورية والعراق وإيران نصرة لإسرائيل، وهذا هو سبب إصرار عاهل المهلكة الوهابية اليوم في القاهرة، للقاء صنيعته ‘السيسي’ في قاعة المطار على عجل، لحثه على الإستعداد لنصرة “السنة الوهابية” من خطر من يتربصون بها في المنطقة.
وخلاصة القول، لقد أقفل مسار الدبلوماسية الشجاعة وانسحبت لغة الحوار لصالح التصعيد والتفجير بعد أن لم تنفع نصيحة ولا تحذير، وآن الأوان ليعلم المتآمرون على الأمة، أن هناك طرق أخرى ناجعة لتطويع الحمير، وتغيير عقلية الجمل في الخليج بعد أن حوله عربان الزيت إلى خليج عبري.
“فتناثري .. كالورق اليابس، يا قبائل الأعراب واقتتلي .. واختصمي .. يا طبعة ثانية .. من سيرة الممالك بالأندلس المغلوبة” (نزار قباني بتصرف).
بانوراما الشرق الاوسط