ونحن نحتفل اليوم بمرور ستين عاماً على كتابة أولى قصصك، ماذا يمكننا أن نكتب عنك أبانا؟ وأنت هناك تفترش سرير المرض، مغشياً عليك، عاجزاً عن فعل شيء سوى تتبع أخبار صحبك، وقراءة آخر ما يصلك من كتبهم.لم تهجر يوماً مدينتك، بصرياثا، تلك التي نزفت معها طوال سني الحرب، حين كنت تسقي بتجوالك غابات نخيلها المذبوح بالدمع، أو حين وقفت مندهشاً وأنت تفكر بجرأة الماء وقدرته على الهروب من ضفتي العشار، مكانك الآسر، حيث حلمت بمدينتك التي كبرت مع أحلامك.ما الذي تفعله اليوم؟ ولم تختار هذا الوقت العصيب لتصيبنا برعب فقدانك، نحن المتخمين بالفقدان، وما الذي تتوقعه منا؟ هل نطالبك اليوم بعدم كتابة قصة نهايتك اليوم، لأننا نضيق ذرعاً بها، حتى قبل أن تكتب.نعرف جيداً بأنك قاسيت طويلاً، حياة خالية من المباهج، صنعت فيها عالمك الخاص بخيال ثر، نسجت فيه حكاياتك التي قصصتها علينا،(رائحة الشتاء) مجموعتك المحببة إلى قلبك، قطاف ثمار عشرين عاماً من السرد، انتقيتها حبة حبة ووضعتها في سلة إبداع جاهزة للهضم، وأودعتها رؤوسنا.
أيها المُحب، ها أنا أجلس الآن، الساعة تقارب الخامسة صباحاً، منشغلاً بك عن كل شيء، ومثلي الكثير ممن تعلموا منك، ألا يمدك هذا بالقوة، قوة نحن بأمس الحاجة إليها لتعينك على النهوض من سريرك الأبيض، والتوجه إلى ورقة بيضاء، تكتب فيها عن تلك القدرة السحرية التي أعانتك بالانتصار على مرضك، ولكي تعلمنا مرة أخرى بأننا قادرون دوماً على النجاح والفكاك من فخاخ الموت المتربصة بنا.لقد أتعبك الركض خلف أسئلة المحنة، أسئلة الوجود، وبالرغم من هذا، لم تسرف يوماً في جملتك، وبقيت تصوغ مروياتك بأناة، خوفاً عليها من النسيان.
المدينة التي سكنتك، تنتظر بفارغ الصبر عودتك إليها للوقوف على منصاتها والاحتفاء بك، فلا تجعلها تعود خالية الوفاق، فكر برفيق دربك الشائك، أستاذنا القاص محمد خضير، كيف تستطيع تركه يجلس على منضدة وهو يواجه كرسيا فارغا منك، وممتلئا بذكراك؟.
سأنشد لك أستاذي، لعلني أفيق على خبر خروجك من المشفى نحيلاً كما أنت، لكن صلباً مثل ما عهدناك دوماً، سأنشد لكلينا بعضا من قصيدة (ما لا يُشبه الأشياء) لصديقك الشاعر كاظم الحجاج، مقطعاً يقول فيه:
سأصنع بالشعر ماسحة للمصائر
أمسح موت الغزال
أنفض الملح عن جلده
وأسال ـ بل أتوسل ـ عينيه
أن تبرقا من جديد ـ كعينيّ غزال
وأعيد إلى الطير ريشته،
وأرجوه ـ لا بل اقبّله ـ كي يطير
لأبريء أقلامنا
من دم .. يتخثر فوق الضمير.
ها نحن نحتفل اليوم بالذكرى الستين لقصتك الأولى، فأنهض أبانا للاحتفال معنا، انهض.