النتائج 1 إلى 4 من 4
الموضوع:

استنطاق الذاكره وموازنه الموقف

الزوار من محركات البحث: 16 المشاهدات : 714 الردود: 3
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #1
    عضو محظور
    تاريخ التسجيل: October-2011
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 213 المواضيع: 182
    التقييم: 7
    آخر نشاط: 15/June/2013

    استنطاق الذاكره وموازنه الموقف

    يبدو لي أن ثمة ثنائية تتحرك في لحظات محاولة (محمود عبد الوهاب) وهو بصدد إنتاج نص ؛ وهذه الثنائية تتمثل في الاقتضاب والاكتفاء بالإشارة. وهذا يجمعه دقة اختيار المفردة الدالة، ذات القدرة على إرسال مباشر أو غير مباشر للمعنى. هذه الموهبة تنتظم في سياق ترفده قدرته على اختزال المشهد. فكاميرته التي يستعين بها في التقاط الصور ذات حساسية خاصة.لذا فأنه يعمد إلى تنشيط هاتين الخاصيتين في ملكته الأدبية، وهما دقة اختيار المشهد ومقترباته، وشدة حساسية المفردة ودلالاتها. وهذا ما توقفت عنده في قصصه سواء كانت المنشورة في كتابه (رائحة الشتاء) أو تلك التي نشرت في الدوريات. هذه الدقة عملت على كشف ما وراء الظاهرة من خلال الابتداء من المفردة التي لن تستقل بذاتها، بقدر ما تكون مفردة استعانة لإدراك المعنى المخبوء في ثنايا الجملة التي تركبها وتنشئها المفردة مجتمعة مع قريناتها. لذا فالمتلقي وهو يتعامل مع نصه، لابد أن يكون حذرا ً كمن يسوق مركبته في طرق ملتوية. هذه الخاصية تفعـّلت في نص رواية (رغوة السحَّاب) لتشكل الصورة أو الكيفية التي يتعامل بها الكاتب مع مفرداته، والأسلوب الذي يتبدى من ممارسته في إنشاء نص ذي دلالات تتحكم فيها دلالة مركزية. فهو إذا ما انشغل بالأجزاء، لا تـُبعده هذه الممارسة عن الهدف المركزي، كونه يعمل على اللمّ والتهيئة للمركز الذي يشتغل من أجله النص، ليبلور موقف ما يتشكـّل حول الوجود الذي آلت به الظواهر إلى منعطفات متشعبة.
    في الرواية لم نكن نتوقع أن يضعنا الكاتب ضمن عالم تسوده اللقاءات، وتتفعل فيها الحوارات، وتصعـّد من خلالها الدراما، وتتجدد التراجيديا عبر صورها العراقية، لأننا محدودون ضمن قراءة رواية حرب. و(عبد الوهاب) ركز على ذلك، لكنه راوغ الواقع من خلال انتفاء مغادرته المنطقة التي يشتغل ضمنها، والتي كرس جهده في ترسيخها منذ خمسينيات القرن المنصرم. فقد بذل جهدا ً واضحا ً من أجل أن يحافظ على خاصية السرد والوصف، مستفيدا ً من تقنيات الرواية الحديثة، دون الاتكاء على هذا المنهج أو ذاك، فقط حاول أن يؤسس للشكل الذي يعكس محتوى بأسلوب جسّد من خلاله الهوية السردية عند الكاتب. لذا أرى أن (عبد الوهاب) لا تعنيه في النص، سوى وحدة المعنى المتأتية من تجميع المتشظي في الواقع، وليس وحدة الموضوع الملتزمة بخد درامي متصاعد. لذا كان المبنى قد اعتمد على قدرة الذاكرة، وكاميرته التي يحملها الراوي في ذاكرته تتفاعل عدستها بحساسية دقيقة. من هذا كان الانثيال أكثر فعالية في استيعاب الصور، وأكثر قدرة على التحكم في طبيعة الكاميرا التي استعان بصورها من فنانين كبار مجهولين في السرد، لكن بقاء ظلال الصور المتراكمة أعان الكاتب على أن يوجد لها علاقات بنيوية، ويفعـّل بها صورة الموقف من الحرب وتداخل وحداتها. من هذا مارست الانثيالات في المشاهد الأكثر حساسية، والأشد وقعا ً، دورا ً أساسيا ً دون أن يكون ثمة ممارسة لغوية تهدف إلى تصعيد المشهد الذي لم يألفه سرد الكاتب عبر مسيرته وهو يحايث فن السرد في قصصه، لاسيّما طغيان الإنشاء في التعبير وتجسيم المشهد من أجل التأثير المباشر عند المتلقي. إن سرد (عبد الوهاب) يُثير المخيلة والذاكرة وهو يستقبل صورة الواقع في النص. فإذا ما حاولنا سابقا ً ونحن بصدد قراءة قصص (رائحة الشتاء) فأننا هنا نحاول أن نتقصى المفردات التي أعانته في الوصول إلى الكليات، أي مفدرات المشاهد ومفردات اللغة التي عبّرت ببلاغة كبيرة وغنية . ونعني بها مراوغة الصور والمشاهد، لتشكيل نص موحد تشتغل فيه دلالة المفردة والجملة والصورة في إطار بنيوي متحرك وغير نمطي. كانت قراءاتنا لقصصه سابقا استندت إلى وحدات فاعلة في النص وهي ؛ الزمان والمكان والحوار والشخصية. وهي وحدات تتيح للكاتب النبه أن يغيـّر تعامله معها بروح ابتكار الأسلوب، ليغدو هوية واضحة للكاتب عبر التراكم. وهكذا فعل الكاتب في روايته هذه. فالزمن متشظ من أزمنة متباعدة، فهو زمن أفقي تتحكم به الذاكرة، وتلـّم لحمته على نحو التراكم الكمي الذي يقود إلى النوع. وبهذا انكشف الزمن على أنه زمن حرب. لذا التحقت به افتراضا ً وتحققا ً صور الدمار والانهيار. ومن خلال هذه البنية للزمن الذي تحكمت به الذاكرة، كان لورود معان ومشاهد لأقاصيص الكاتب، لتكون ميدانا جديدا في روايته. كأنه يُحدث تناصّا ً ذاتيا ً مع ما كتب. الكاتب معني كثيرا ً في سردياته على المؤثر والأثر المتروك على الأشياء. غير أن هذه الفعالية السردية والوصفية، لا تتجاوز وجهة النظر الجمالية التي هي سياق معرفي إنتاجي للكاتب. ولعل التكثيف هو الوحدة التي اشتغلت بفعالية في نصوصه، وفي نص الرواية. فالسارد وقل الراوي في النص، يحاول أن يُكثـّف مشاهداته، معلنا ً عن موقف إدانة لفعل الحرب الكبير، دون أن يكون ثمة عبارات تكشف الإدانة المباشرة. فالكاتب يستعين بكاميرته لالتقاط أشد المشاهد حساسية كما ذكرنا، وهذا يكفي لأحداث موقف من صورة مدمرة كالحرب. إن خلق الموقف لا يتطلب لغة مشادّة مع مشعلي الحروب، بقدر ما يستعين السارد أو الراوي بكل الممكنات الفنية في التعبير، دون الوقوع في فخ الخطاب المباشر، أي ــ النبرة الخطابية في النص ــ والتي تـُفسد جمالية الصورة المبتغى كشفها بروية. وفي ذاكرتي الكثير من العيّنات في الرواية العراقية التي دونت أحداث الحرب في ثمانينيات القرن المنصرم. فهي في جملتها أعلنت عن موقفها من الحرب، لأن الحرب في الأساس تهدف إلى انمحاء وجود الإنسان، وبالتالي طمر تاريخه، والإعلان عن تاريخ يستهدف التبعية، كما حدث في الحرب الإيرانية العراقية. كان الإنسان هو الهدف، وليس التحرير وتحقيق الوجود، فالأطراف تشتغل على مسار واحد وهدف موحد، فيه شبه اتفاق مركزه الإنسان وانمحاء فعالية عقله، وبالتالي انمحاء حضارته. هذا الشكل من أهداف الحرب لم تغب عن بال قاص مثل (محمود عبد الوهاب) وهو يمارس فعل أرخنة أحداث الحرب، أو إعلان موقف من مجرياتها. وهو الكاتب الحسّاس والحريص على فنية النص. من هذا كان نهجه في السرد يتجدد وفق تجدد الظواهر والأحداث، لكنه أبقى الأسلوب الذي يتعامل من خلاله مع المجريات. فكان أن قدم مجموعة من رموز ومشاهد لأحداث وظواهر، حافظ من خلالها على قدرته الذاتية وهو بتعامل مع هكذا ظواهر يومية، لاسيّما أنه يعيش في مدينة تعتبر البوابة المنكشفة أمام توالي فعالية الحرب.
    هذه ملاحظات قد تكون عامة، ومفتتح لما يتوجب دراسته بالتفصيل الهادئ غير المهوّل والمفتعل. فإذا كانت مجريات النص واضحة، فلابد من أن يكون تلقيها أكثر هدوءا ً، وتلقيها نقديا ً أكثر روية. فالنص يبتدئ من الثريا أو العنوان (رغوة السّحَاب) وهو عنوان شبه جملة، يتكون من مفردتين فــ ــ رغوة ــ تعني ما يتصاعد من الشيء أو الخليط وهو يدار بفعل فاعل. وهو الجزء المشتق من الشيء المُدار. إذا هناك ــ من خلال المفردة ــ فاعل للحركة هذه وهي تشكيل الرغوة، ففي صناعة الأشياء تتعمد الوسائل لإيجاد هالة للشيء المصنوع، ولخلق هالة للسائل لابد من رج الإناء الذي يحتويه، وبذلك نلحظ تصاعد هذه الهالة ما أ، نرفع إصبعنا عن الغطاء. من هذا فالمفردة من العنوان تخاطب الحرب، التي هي بفعل فاعل. وإلحاق المفردة هذه بمفردة مكملة للمعنى المراد التعبير عنه، كانت مفردة (السَّحاب) أشدها دلالة في ما يخص رؤية الكاتب وهو يُعلن عن موقف من حدث كهذا. ففي المثل الشعبي حين تشتد الأزمنة، يقول العقل الجمعي (شدة وتزول، إنها سحابة صيف) أي أنها غير ممطرة. فالكاتب وهو يضع هذا العنوان لنصه، أراد أن يُعلن عن موقف ذاتي، في كون الحرب سوف لا تطال عقلا من استهدفته، أو أنه استهان بها من منطلق العقل الجمعي الشعبي. فهو يتخاطر مع الذين يكتب لأجلهم، أو يُفكر بدرجة عالية عن همومهم، وهي هموم لا تتعدى عند الكاتب سوى كونها مواقف من كاتب وطني فقط. لذا استلزم ذلك إعلان الموقف الذي هو بطبيعته ــ من خلال العنوان ــ حمـّال أوجه. فنجده لا يُقصره على نفسه، ويفيض به بشكل غير مباشر على غيره. إن الاستجابة هنا للعقل والذاكرة الجمعية الشعبية، لم تكن الأولى ولا الأخيرة في تاريخ الإنسان العراقي، بل حدثنا التاريخ عن ويلات المصادرة التي أنتجتها الحروب، وأفعال التجاوز على تاريخ الغير بحجج واهية، استنبتتها دواخل مريضة كما أثبت ذلك ما ورد في سجل التاريخ . من هذا نرى أننا توفرنا على عنوان يلخص معنى النص، وفي الوقت نفسه يُعلن عن موقف الكاتب، وموقف العقل الجمعي العراقي.
    ولكي يبتدئ الكاتب بسرد مرويته، كان لزاما ً عليه ــ كما يرى ــ أن يُعلن عن اشتغاله على مفردة الهاتف وبأرقام تنازلية،. وهي تحاكي سلسة الأحداث ما قبل التاريخ التي يبدأها المؤرخون بالرقم الأعلى الذي يأخذ بالتناقص حتى يصل إلى الميلاد، فيكون كل ما حدث هو قبل الميلاد. وهذا المفرقة في الأرخنة كأنها تـُشير إلى مستويين من التاريخ، حيث يتوجب أن يكون اللاحق أفضل من السابق، لأنه اقترن بالولادة، غير أننا ودون أن يؤشر الكاتب هذا مباشرة، ندرك هذا مشيرا ً إلى صفة التاريخ القديم الإيجابية، وخاصية التاريخ المحروق ما بعد الميلاد. هذه المفارقة يستفيد منها (عبد الوهاب) ليؤشر عن تاريخ محروق من خلال الاستعانة بأرقام الهاتف التنازلية التي تبدأ بـ (16....) وتنتهي بـ (1.....) والمفارقة الضمنية أن الذي يجري عبر كل هذه الأرقام في الليل، ويكشفه فصل عنوان (في الصباح). مع ملاحظة أن التنقيط في الرقم الأول كان بأربع نقاط، وفي الأخير بخمس نقاط. ولهذا دلالة تعبيرية، حيث يكون الأول منفتحا على أحداث تجري في الحرب، والثاني يؤشر على استمرارها حتى لو توقفت الحرب. وهذه قراءة اعتمدت مجموعة بنيات شكلت ذهنية الكاتب، فهو يواظب على إعلان موقفه حتى لو كان ذلك من خلال طـُرفة يتعمد سردها أمام جمع من المثقفين يراد بها الكشف وإعلان الموقف. أما الاستهلال الثاني فهو جاء على عنوان (الدليل) ويعني به دليل الهاتف. فهو يبتدئ بالاستغاثة حيث يذكر (حينما قال الكسندر كراهام في أول هاتف اخترعه في 10 آذار 1876... مستر واطسن، تعال هنا، أني بحاجة إليك؟) هذا الصوت الآتي عبر الهاتف لم يُعلق عليه الكاتب، بقدر ما تركه كشفرة تومئ إلى استغاثات لاحقة ، وكأنه يُشير إلى كل ما هو ضمن محتوى النص، هو بمثابة أنواع من الاستغاثات التي يتحكم فيها مجرى الحرب. وكان الهاتف أيضا ً الوسيلة الإنسانية التي توصل حاجة الناس لبعضها وقت المحنة. لذا نجد الكاتب وهو يتسلسل في دليله ليذكر حقيقة تاريخية تـُشير إلى أول لغات التعبير عند الإنسان، فهو يؤكد على (منذ أحقاب سحيقة، إذ لم تكن البشرية تمتلك لغة ما، كانت بواكير الاتصال الصوتي للإنسان كي يخرج من عزلته). وهنا لابد من ملاحظة أن الخطاب الصوتي كان معنيا بفك إطار العزلة عن الإنسان بالاتصال. وهذا التأكيد على ــ العزلة ــ إنما يُشير بشكل غير مباشر إلى العزلة الدائمة التي لحقت بالإنسان وهو يمتلك لغات وليس لغة واحدة، فقد تبلبل اللسان البشري، غير أنه يستعين بالهاتف، لكسر تلك العزلة التي فرضتها الحرب. الهاتف الذي يعود بالإنسان إلى العصور السحيقة، ليستبدل أداة الاتصال ــ اللغة ــ بلغة أخرى هي الصوت، فهو وحسب إحساس أنموذجه (فلم يجد ما يبدد وحدته إلى أن يلجأ إلى الهاتف، يدير قرصه في سأم متراخ، ليتفق الصوت البشري في أذنيه، يُخفف ما به من عناء الروح، ويوصل جزيرته النائية بجزر الآخرين).
    لذا فالاستعانة بدليل الهاتف مرتبطة بالعمر وتقادمه، فحين تخمل الذاكرة في سن الكهولة يكون الميل إلى مدونة الهاتف ضرورية لتنشيط الذاكرة. فراويه الذي يستهل النص بعكس علاقته بالدليل، إنما يحاول استرداد بنية الذاكرة، لأن في الدليل ملاذ فهو (كلما انتابني حزن شفيف ألجأ إلى الدفتر لأجد في بعض أرقام هواتفه ذكرى تـُبهج النفس). وهنا يكون الدفتر نوعا من التعويض عن شبح الوحدة. وهذا بطبيعة الحال يُعزز وجود الهاتف والدليل في الرواية، باعتباره موقظاً للذاكرة، ومبددا للعزلة، كذلك يعمل الهاتف إلى تبني فعل السرد بشهادة الراوي(وأنا الآن هنا في مواجهة الحكايات وهي تستيقظ في الذاكرة من بين أرقام الهواتف باندفاع غريب). إن هذا التبادل في الوظائف، يعني وجود حالة تفاعل بين أطراف، لعل الراوي أو السارد والهاتف مركزها. وهو أيضا ً إشارة إلى بناء النص داخل النص، ومحاولة تأكيد الفعل السردي الذي يعتمده المؤلف، في كونه ينهج التكثيف والتركيز في اللغة، لحمل القارئ على الاستجابة لا على تحجر مخيلته بالمعلومات التفصيلية. لذا فهو يُشير إلينا إلى أننا بإزاء نص مكثف ومركـّز، يعتمد معالجة خاصة. كانت وظيفة التقديم بعنوان (الدليل) إشارة إلى الاشتغال الخاص في ــ فعل سرد النص ــ و العام في ــ وجهة النظر ــ بالإنتاج السردي.
    في الرقم الأول (16....) يحولنا السارد إلى مشهد واقعي، مع الآخر في (بعد أن خرجنا من العيادة) واصفا ً حالة الآخر في وصف نحوله وكفه الدافئة لصق كف السارد، ثم يتحول إلى فعل آخر من الذاكرة، حيث يتغير الزمان والمكان (رائحة المكان وبنياته، تعيش في داخلي يلـّفها انكساري وقلقي عليه) بعد ذلك يجري حوارا ً مقتضبا ً، يكشف عن نتائجه السرد الواصف( ودخلت المطبخ غاضبة، ومن هناك سمعتها تنتحب).
    هذه التحولات في السرد والزمان والمكان هي الشكل الأكثر حيوية في نصوص الكاتب، حيث نجده بعد انكشاف حالة المرأة يظهر مشهد ما كان قد كشفه في قصة قصيرة كان نموذجها يراقب أشجار الحديقة أيضا وهي (الأرصفة المبتلة بماء المطر، والرذاذ يتساقط على أعالي الأشجار بصوت أنثوي خافت، كأنه نشيج لا ينقطع) هذه مواءمة بين الأنثى ورمزها الدلالي الأشجار، وثمة انكسارات في مفارقات بين نحول الشاب، وبكاء المرأة، وانغمار الأرصفة والأشجار برذاذ المطر، وكأنه يكشف عما يعوض عن كل هذا الإحباط. إننا بإزاء جدلية قائمة على المفارقة في مجموع الحالات التي عليها الإنسان. ومن الظواهر السردية التي مارسها الكاتب في عكس حالات نماذجه، يلجأ أيضا ً إلى الاقتضاب والكثافة التي تنفتح على التأويل والبحث عن المضمر من خلال التعبير الذي لا يبوح بكل شيء دفعة واحدة. فتعبير (كنا نسير بانزواء بجوار جدران بيوت واطئة، هو يلتفت بانبهار إلى ما حوله، وأنا أتبعه دونما رغبة في العودة إلى البيت. ماذا سأفعل هناك؟) هذه العبارات تلعب فيه المفردة دورا ً إيحائيا ً فـ (واطئة) دليل على قدمها. و(انبهار) واضح شدة تميزه المرضي و(دونما رغبة) حالة عدم تجاوب مع كل هذه الحالات. أما (العودة إلى البيت) فهذا تخصيص دال على شدة الملل الذي يعاني منه السارد مع المكان، الذي يختمه في سؤال محيّر (ماذا سأفعل هناك؟) أي في البيت. هذه المفارقات تقود إلى عكس ليست الحالة التي عليها هيئة المريض والمرأة الباكية، بل تعكس أيضا ً حالة السارد المصاحب للاثنين. وهنا نقف بمواجهة التكثيف في السرد والوصف في مقطع قصير نسبيا ً، لكنه يؤشر سمات وأفعال عديدة.
    لا شك أننا مع السارد نعيش أجواء الحرب، وما يلحق الأشياء والوجود بكل تفاصيله من أذى وتدمير. وهذا يعني أن الحساسية التي يتحلى بها السارد مضغوطة ومحاصرة بكل ما هو ملحق بالحرب بتفاصيل يومية يحاول المؤلف عكسها بطريقته في السرد دون أن يكون هناك ما يبعث على الملل جرّاء التكرار. فلكي يصف طبيعة الحياة بين الموت والوجود، يعمد إلى الإشارة السردية التي تؤكد صراع هذين القطبين، قطب النزوع نحو الحياة، وقطب الانقضاض على مباهج وحيوية الحياة. غير أنه يستخدم نفس الأسلوب الذي اعتاد التقديم بواسطته مثل هذه المواقف أو المشاهد (داخل المدينة المتوجسة لزمت البيوت صمتها. غير أن بيتا ً صغيرا ً ينأى قليلا ً عن مصدر الدوي، كانت الحركة لا تهدأ فيه) ولو تفحصنا هذا المقطع من السردية لواجهتنا مجموعة من المفردات حققت وظيفة فائضة مثل (المتوجسة، صمتها، صغيرا ً، ينأى، لا تهدأ ) فإذا كانت مفردة المتوجسة تعني حال من في المدينة عموما ً جرّاء القصف المعادي، فأن المفردة تتواءم كاستجابة لها في صمتها، لكي يكون التقابل بين (المتوجسة وصمتها) فيه تخاطر يمنحنا صورتين تستجيب كل واحدة كظواهر للأخرى. في حين ينكسر النمط التعبيري الذي يوحي بالموت البطيء في مفردات تجمعها جملة اعتراضية، وهي (صغيرا ً وينأى) وفي هذا تتغيّر الحالة تماما ً، ويتكشف حجاب المدينة، في كونها لا تستسلم للدوي وقسوة الحرب. ولا يؤكد هذا التحدي البريء إلا مفردة (لا تهدأ) التي تكشف عن موقف مناقض ومتحد لقسوة الحرب اليومية. إن الكاتب يثري النص بالمشاهد كما ذكرنا، وهذه المشاهد هي السدى واللحمة التي تـُشكـّله. وهو لا يعني بإشاراته السردية نمطا ً معينا ً يحكمه التسلسل المنطقي، بقدر ما يتحكم به سيلان محتوى الذاكرة، التي تحاول أن تبني معمار النص على هذا النحو أو ذاك. فمرة يؤكد طبيعة الحياة، في إثبات رجولة الرجل في (فتحت باب الثلاجة، فانبعث مصباحها الداخلي يكشف عن ساقيّ الشابّة المتناسقين ومفاتن جسدها) وهذا لم يكن ذكره لذاته، بل هو جزء من حالة التحدي، فالروح التي يمتلكها الرجل ــ الذكورة ــ تتوفر على إمكانياتها الانبعاثية في أحرج الظروف ونعني بها الحرب. فهو نوع من تحقيق موازنة أن يكون الإنسان أو لا يكون أمام النوايا التي تحاول انمحاء وجوده، عبر إسكات ذكورته وعقرها. في حين نجده يقدّم صورة دالة على بشاعة الحرب(اهتزازات من كل جانب، شعلة حمراء تتقد، قرقعة حادّة وثقيلة كالرصاص تنفجر من حولهم. ظلمة قاتمة حالكة السواد ومثل فحمة محروقة بدا كل شيء)
    في مقطع (14....) نكون وجها ً لوجه أمام مشهد الحرب، ولكن من خلال مشاهدة شخصيتين للوقائع. وهو مشهد مستل روحا ً وقوة سردية من إحدى قصص الكاتب . غير أنه تصرف بها بروح جديدة، وتأثير تتوفر فيه قدرة إثارة الحس الإنساني. فالمشاهدة لما تعرضه شاشة التلفزيون مادة المشهد، والتي وردت عبر إحساس الأم وهي تنتظر صورة ولدها من خلال الصورة ، حيث أكد الكاتب على قوة الاحتمال، وتوازن الإحساس مع الواقع وعلى النحو التالي:
    (ــ هل رأيته يا أمي؟ هل كان بينهم؟
    ــ لم أره. لعله في مكان آخر.)
    ولكي يستكمل المشهد المثير يذكر تعليقا ً على ما دار ضمن سياق السرد: (عدلت الشابّة من جلستها، وهي في مقعدها الخيزران، وهمست كعادتها حين تريد أن تسرّه بهمهما: ــ كم أتمنى أن أراك) هذه العبارة تـُفرغ كل إحساس الأم إزاء ولدها المقاتل. وهي خاصية سردية يعمد الكاتب أن يستخدمها في نصوصه معرضا ً عن التفاصيل المربكة لجمالية النص كما يراها دائما ً. فالشفرة في نصوصه أهم الأبنية التعبيرية لديه. فهو في نهاية الفصل يُعيد وبنفس الأسلوب ليرمم ما انكسر من ذات الأم المنتظرة، لكنه بعبارات مقتضبة فتح آفاقا ً واسعة في السرد الذي لم يقله: (لمحته ُ من بعيد، يتقدم برفقة عدد من الجنود متوجهين إليها. استدار نحوها وحالما اقترب من مقعدها لمحت شبح رجل ملتبس). ولعل الحكمة لتي تتحكم في رأس الأم العجوز التي أنهكتها الحرب ، تـُثيرالموقف من مثل:
    (ــ إننا نكره أن نكون مفرطي التفاؤل في هذا العالم.
    ــ هذا مكاني، أنني الشجرة التي تفرّعت منها هذه الأغصان الخاملة)
    وبهذا يكون استنطاقها للصورة الفوتوغرافية، بمثابة الأداة الشعرية التي تعالج بها المشاهد التي تتداعى في ذهنها وهي تنتظر، وكعادة الكاتب وهو يؤكد على دور المفردة في تعميق ما يريد أن يعكسه في المشهد السردي:
    (حاولت أن تقاطعه، غير أنه ظل يواصل كلامه ونظراته مثبتة في الصورة ، وكأنه يتحرك في مكان ما. بدا لها واهنا ً يكاد يسقط من الإعياء. وبحركة
    سريعة احتضنته شيخا ً. كان يهرم بين يديها في كل لحظة)
    إن سرد (عبد الوهاب) في نصوصه القصصية، وفي نص روايته هذه يثير جملة مشاعر إنسانية بجمالية فائقة، يتحكم بها البناء اللغوي، كذلك الاقتصاد بالمشاهد. فالمفردة التي هي جزء من اللغة، والحركة التي هي جزء من المشهد، تتواءم صيرورتهما، لتمنحنا بعداً تراجيديا ً واضحا ً، تتحكم ى به الشعرية السردية. كما أنه شديد الولع في نصوصه بالنوافذ، فهي المؤشرات من المكان التي تمنح أنموذجه فرصة التطلع على العالم. فهي المجال الحيوي الذي يراها شخوصه وهم ضمن أزمة نفسية البؤرة التي يمكن الخروج من تزاحم المشاعر الضاغطة .
    مجتزأ من دراسة مطولة


    المزيد من الأخبار



  2. #2
    باقية في قلوبنا ما حيينا
    ☜ no LOVE no PAIN ☞
    تاريخ التسجيل: September-2011
    الدولة: Rented house in Mars
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 8,463 المواضيع: 692
    صوتيات: 2 سوالف عراقية: 9
    التقييم: 559
    مزاجي: Not ur business
    موبايلي: sgh-c270 & HTC HD2
    مقالات المدونة: 5
    شكرا جزيلا ع المقاله

    بس كلش طويله ههههههههه

    كل الود

  3. #3
    من أهل الدار
    تاريخ التسجيل: October-2011
    الدولة: في دفتر ذكرياتي
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 994 المواضيع: 72
    صوتيات: 0 سوالف عراقية: 5
    التقييم: 43
    مزاجي: حزين
    المهنة: nurse
    أكلتي المفضلة: اكل امي
    موبايلي: NOKIA C6
    آخر نشاط: 8/August/2018
    الاتصال: إرسال رسالة عبر Yahoo إلى حمود سطو
    مقالات المدونة: 2
    شكرا

  4. #4
    صديق فعال
    البرنسيسة
    تاريخ التسجيل: October-2011
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 784 المواضيع: 10
    التقييم: 10
    مزاجي: وية الج ــــــو
    موبايلي: NOKIA
    آخر نشاط: 9/December/2011
    لو أنني أوتيت كل بلاغة ****** وأفنيت بحر النطق في النظم والنثرلما كنت بعد القول إلا مقصرا ***** ومعترفا بالعجز عن واجب الشكر

تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال