تنطوي مفردة تحطيم على قساوة غير معهودة في السياق التقويمي للنصوص، ذلك أنها غير مترادفة مع مفردات من قبيل استبدال أو اختلاف أو مخالفة أو تغيير.. الخ، إنها كما يبدو مدفوعة بقوة لإزالة شيء ما عن محيطه، خاصة بامتزاجها بمفردة القناع، الأمر الذي يمنحها صفة الصدمة الأولى في القراءة.. لكن المقدمة المختزلة للناقد حسن الكعبي تعمل على فض الالتباس عندما تفيد بمُكتشف شعري تمثله نصوص بعينها شاركت بعملية التحطيم من خلال استدعاء الأنا الأخرى المنفصلة عن ذوات منتجيها.، فضلا عن تسليط الضوء على " المسكوت عنه " في النقدية العراقية " تلك التي غالبا ما يختلط فيها الغث بالسمين والمنتج بغير المنتج، فيمتدح مختاراته من النصوص عادا إياها ذات قيمة معرفية بسبب سعيها لاستدماج الثقافي والمعرفي بالجمالي، بل انه يراهن على أن النقد الثقافي سيقوم بإزاحة النموذج الآخر من الشعرية العراقية الضاجة بنصوص النواح والهذيان والاسترسال غير المنتج..
ينطلق حسن الكعبي في كتابه المهم " تحطيم القناع " من قاعدة احتجاجية بامتياز تسعى للفرز بين ما هو ساكن في مدونة الشعر العراقي وبين ما هو فاعل ومتحرك ومنتج بالضرورة، تلك القاعدة التي أشّـرها النقد الثقافي منذ تسعينيات القرن الماضي على يد الغذامي الذي يشير في ذات الصدد إلى سكونية نصوص بعينها واصفا إياها بـالتي تخضع لنظام انضباطي بتشاكلها مع نصوص أخرى بوصفها " واقعا مقررا سلفا " فيكون النص تابعا أو ثانويا أو محاكيا باعتبار " العالم سابقاً على النص " الخ، يقول الغذامي : انه لمن نعم الله أن هذا المفهوم لم يتغلغل في التجربة الإبداعية بوصفها ابتكارا وإنشاء، ولو شاكل النص واقعه الخارجي لتحول إلى وثيقة وصفية وصار خطابا علميا أو تاريخيا مؤكدا إن هذا الإجراء يختص بالنقد والفكر العربيين أيضا وان كثيرا من المفكرين وبسبب المشاكلة وسواها قد " افسدوا النشاط القرائي ".. بذات المنحى الذي ينطوي على تحد كبير يسلط الكعبي الضوء على مختلفات جديدة في خطاب الشعرية العراقية محددا اشتغالها وفق آلية لم يولها النقد عندنا اهتماما كبيرا، تلك هي آلية القناع التي تعمل من خلال الاستعارة أو التورية، أو من خلال كليهما بدواع فنية وموضوعية يتحكم فيها الوعي الشعري الذي يشير إليه الناقد في أكثر من موضع في الكتاب.
إن الباحث هنا يجد نفسه مشتبكا مع طروحات شعرية معرفية من قبيل العدم والعنف واللاجدوى والموت من خلال إعادة إنتاجها في انساق معرفية مضمرة في النصوص، أي إن الكتابة في " تحطيم القناع " كانت معنية بخلخلة العلاقة بين النسق الشعري والمعرفي باشتباك نظري وتطبيقي ازعم انه مهم للغاية في التركيز على غيبيات ومضمرات الأنساق الثقافية، الأمر الذي سيمكـّننا من وسم اشتغاله في تحطيم القناع بالاشتغال الاستكشافي في ماهيات شعرية تبدو لفاحصها في قراءة أولى اقرب لليوميات أو نصوص وقائع يومية، نظرا لنزوحها نحو انعكاس حياتي مرير كعلامة فارقة للحياة العراقية.. إذ إن المختارات الشعرية في الكتاب تشتغل في تلك المنطقة المهملة من حياتنا / محنتنا / إذا جاز التعبير.. فضلا عن تنوع اتجاهات منتجيها وهو الأمر الذي لم يعره الكعبي اهتماما كبيرا بسبب اهتمامه بموضوعة القناع وحدها..
لقد تركزت الرؤية الاستكشافية لديه في الولوج بعمق المضامين النصوصية في المختارات بعيدا عن الأسلوب وطريقة الأداء الشعري التي ستختلف حتما عند شاعرين مثل كريم جخيور ورعد زامل، أو عند احمد عبدالحسين وعبدالعظيم فنجان، وأيضا عند احمد عبدالسادة
وعلي الاسكندري.. الخ، ذلك أن مؤشرات الأداء الشعري وأسلوب الكتابة تختلف إلى حد بعيد عند أي منهم، حتى إن المضمون غالبا ما ينصاع مرغما لكليهما، أي – الأسلوب وطريقة الأداء – الأمر الذي سيشكل خطورة التعامل نقديا في اجتراح بنية اشتغال متشابهة أو متناظرة في جهد شعري متنوع برره الناقد الكعبي باعتبارات الوعي مرة والتغاير في تقنيات كتابية متساوقة في الشعر العراقي في أخرى، وللبرهنة على ما نذهب إليه في تحليلنا هذا، سنأخذ أنموذجا للمقارنة بين نصي الشاعرين عبدالعظيم فنجان ونصه ( كتاب النبوءات ) واحمد عبدالحسين ونصه ( قربان ) للوصول إلى قناعة مفادها : من منهما يصلح لدراسة تطبيقية بسبب استثماره لآلية القناع في النص / قصيدة النثر تحديدا / ولماذا يسقط الباحث آلية استخدام القناع على نص لم يستخدمه، فضلا عن مقارنة أسلوبية موجزة تتيح لنا معرفة الخطوط العامة التي اشتغل في ضوئها نصا الشاعرين :
القناع عند عبدالعظيم فنجان (السارد ) بطبيعة الحال، ينبثق عن الفنتازيا، فتنتج مسرودة، أي إن الناقد يسبغ على " الفنتازيا " صفة القناع..، فيما تظهر الأنا عند فنجان بقوة دون أن تختفي بسبب من أن حضورها التدريجي والمتحول يتيح لها الوجود الفعلي : المسرودة تشير إلى وجود جندي حالم لا يشارك الجنود في شيء وهو بالنتيجة خارج السرب على حد تعبيره، وفي الحلم يتحول ذلك المفلس من جندي إلى ملك غير مطاع وبلا سلطة ويبقى فعل التحول المهيمن على الرؤية / الحلم، بوجود متصل إلى أن ينتبه إلى كتاب النبوءات الخ.. بمعنى عدمية القناع واستحالة وجوده في نص ( كتاب النبوءات) لعبدالعظيم فنجان .
والملاحظ في بعض مقاطع النص وجود الأنا العالية والمتحولة بتواتر حضورها القوي في النص برمته، والطارد لفرصة وجود قناع حقيقي يستتر خلفه فنجان أو سارد مرويته الحلمية الجميلة..، بينما يتمرآى القناع عند احمد عبدالحسين من خلال التخفي والظهور بوصفه حضورا شفافا يتيح للانا الحضور والغياب بشكل متتالي ( أنا الشاعر التي تصغي لأنا العنف اللاهوتية ) وهو قناع سارد يكشف عن إيديولوجيا الإرهابي ( الخبيثة والدموية ) والتي يقوم الشاعر بإطلاق العنان لها وفق منظومة التنظير اليقينية المعتمة كما يفهمها عبدالحسين، وبالنتيجة فالقناع عنده سارد وكاشف ولا يظهر إلا ليختفي، ولعبة الظهور والغياب في النص يتحكم فيها وعي شعري تستدعيه ضرورات موضوعية وشعرية، أي إن القناع عند احمد عبدالحسين حقيقة نصية بالغة الأهمية، بينما عند فنجان نجدها بمثابة إسقاط نقدي مبعثه الرؤيا، رؤيا التحول الصادم وحصاد الخيبة في بلد يذوي وفق تشكلات فنجان الشعرية وعليه فان القناع موجود عند عبدالحسين كضرورة فنية جعلت من نصه مركـّبا شعريا باحتمالات المعرفي والايديولوجي فيما يغيب على نحو واضح وجلي أو لا وجود له في نص فنجان..
أما في ما يخص الأداء الشعري بمرتكزات المضمون فيمكننا إيجاد فوارق متعددة ينتجها النصان وفق آلية الاحتجاج، أي أن الاحتجاج أو شفرات الضد تكاد تكون العامل المشترك الأساس في النصين وفي قراءة فاحصة لهما يمكننا استنتاج ما يلي :
-1يتطابق النصان في رؤيتهما للاحتجاج ويفترقان في توصيف محنة الوطن ونزفه الطويل وعتمته الكبيرة.
-2يستثمر الشاعر في نص ( قربان ) تقنية القناع للبوح بجوانيات الإرهابي منذ انبثاقها تاريخيا الأمر الذي يحيل إلى خلاف عقائدي مضمر في النص يتأسس لدينا بمجرد التوصيف لقناعاته المستترة بتزييف " الله والعالم "، وما اصطدام القارئ بقباب كربلاء الذهبية والفضية إلا إشارة على ظهور الأنا الأخرى " أنا الشاعر " بطبيعة الحال. بينما يفيض الحلم والتداعي غير الحر عند الشاعر في نص (كتاب النبوءات ) ويبقى في إطار أناه الموجعة بفعل المحنة الطارئة التي حولت كل شيء في حياتنا العراقية إلى لا جدوى متضخمة / تحول الأنا المفلسة لديه بوصفه جنديا ومن ثم ملكا، حتى انتباهته الصادمة من الكابوس..
-3عمل الشاعر في نص (قربان ) إلى تمازج حي بين المعرفي والشعري، الأمر الذي سوغ لنا نعته بالنص المركب، فيما سعى أداء الشاعر في نص كتاب النبوءات إلى إحالات من قبيل تجاور الغنائي والفجائعي وهو ما يميز أداء فنجان في اغلب نصوصه، بل هو سمتها المميزة.
-4في نص " قربان " يختزل احمد عبدالحسين المحنة كلها بمبرر ضمور للقيم الإنسانية عند فكر محدد ويستشعر خطورته ووحشيته من خلال استنطاقه على نحو واسع..، بينما اختزلت الفكرة المحبطة في " كتاب النبوءات " بمشهد شخصي يقترب كثيرا من اليومي والذاتي.
في التحليل والكشف أعلاه لأهمية ووجود القناع من عدمه، اختلفنا مع الباحث واتفقنا في مشتركات عدة، وربما تكون سمة الكتاب هذه " أمرا مقصودا " من الناقد في جعلها " مرنة " وذات أفق إشكالي لا تتم قراءته إلا من خلال المحاججة والاختلاف، وبالنتيجة إعادة إنتاج فكرة القناع من جديد بالنفي أو الإثبات، الأمر الذي يرسخ أهمية الكتاب في النقد العراقي لسببين رئيسين أولهما ما نوهنا به في الفقرة السابقة وثانيهما سعيه إلى ترسيخ قيم نقدية جديدة تعمل على الفرز والكشف والتحليل، وما تخريجته الذكية بـ " المسكوت عنه " إلا دليل على رصانة ما ذهب إليه وفي أكثر من موضع في الكتاب..
يختتم الناقد الكعبي كتابه " تحطيم القناع " بخلاصة توجز وتبرر جهده المميز في توخي الموضوعية واستثماره التطبيق في النصوص إلى أقصى مدياتها، فضلا عن برهنته الحاذقة للمختارات بوصفها نصوصا "ناقدة" احتجاجية ومهمة وليست شاعرة وحسب.. يمكننا أن نضيف أيضا ان حسن الكعبي يصطف مع الغذامي وتيري ايغلتون في الكشف عن أوهام الشعر والأدب، بوصفهما أكثر النقاد سعيا لهذا الأمر، يقول الكعبي : إن الشعر ما لم يسعى لإدماج السياقات المعرفية بالأطر الإنتاجية فانه محكوم بالموت في ظل هيم