عندما قرأت أن القاص الكبير محمود عبد الوهاب تعرض إلى أزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى التعليمي في البصرة، أدركت أن كتابتي عنه درء لمخاوف أتمنى أن لاتصبح واقعا ، وإن ليس لنا جميعا مهرب من هذه المخاوف، ولكني استدركت أن الكتابة في عالمها الواسع
إحدى وسائلنا السلمية لصهر أحلامنا المتخيلة بحياة إنسانية كريمة مع مخاوفنا من أعداء غير مرئيين، لكن أفكارهم تمشي على قدمين في الشارع، كما يقول عبد الوهاب: (معظم ما أكتبه على علاقة مغايرة للواقع، تقوم على التعرف على الواقع أولاً وعلى فهمه ثانياً، ثم كتابة نص تخييلي جمالي، يحمل أنساق الواقع لكنه لا يماثله)
سارعت إلى الكتابة خشية فقدان تجربة إبداعية، لم يوف حقها في الدرس الأدبي السردي، كرست نحو ستة عقود من عمرها المديد للكتابة من أجل الكتابة (مذ ولدت في دفتر إنشاء مدرسي) كما قال في حوار له في صحيفة المدى (نشأت في جدارية النشرة المدرسية ) هكذا هي شخصية نادرة الوجود، ولادتها ونشاتها ونضوجها ومن ثم ريادتها تحولات حياة كتابة، لذا آثرت العزلة واسترسال خطاها في دروب الحياة بهدوء.
كلنا عابرون في نهر الحياة إلى ضفة الموت، ولكن هناك عابرين (استثنائيين)،يجف نهر الحياة بفقدان أمطارهم الشفيفة كتأمل نديم كأس -من نافذة حانة- هطول قطرات مطر حزينة،ثم تمضي غيومها عابرة إلى جهة أخرى، ولكنها تغسل الشوارع، تلمع أوراق الأشجار، مارست تغييرها بهدوء ومضت، هكذا يهزأ بعضنا بالحياة تحديا لمخافة الموت، تقول الكاتبة الدنماركية (أناييس نن): (جلست في المقهى /كي اتخذ قرارا حول حياتي / ولكن أهذه حياة / يستحق أن يؤخذ لها قرار؟!)
أحيانا نهزأ بالموت في صناعة حياة استثنائية مولدة لخسارت مستمرة (للمنصب المريح والغنى واللهو والسفر)،تنسيك مخافة الموت، كأن نكون منشغلين بجد وصرامة، بتصوير لحظات استثنائية لعابرين لا يروننا ولكننا نراهم ، نخلدهم و نتخلد بهم، بوصفنا صانعين لعابرين(استثنائيين)، لكن هذا الخلق الإبداعي، الذي لا تمحوه مئات السنين، بحاجة إلى حياة كاملة ، إلى تأن، حكمة، إتقان، موهبة خارقة، و قارئ كبير.
في العام 2005 كنت أعمل في جريدة(الأديب)، نشرنا ملفا عن الرائد محمود عبد الوهاب في العدد59) ) الموافق 16-2-2005، أسميناه (ملف لعابر استثنائي ) عنوان إحدى قصصه المنشورة في مجموعته(رائحة الشتاء) والملف المذكور. القصة تسرد –بدقة واختزال وبساطة عرف بها عبد الوهاب في سبك عبارته السردية- رصد امرأة من نافذة بيتها لعابر كهل يسحب خطاه ببطء متأملا المارة والمباني المحيطة بجانبي الشارع، منصتا إلى ضجيج التلاميذ خلف سياج مدرسة (كان شيئا ما في داخله ينكسر. كان يجرجر قدميه مثل حيوان جريح).
ذلك العابر ثّور أسئلة في داخل تلك المرأة، طرحتها على زوجها اللامبالي (هل نحن نشيخ أيضا؟)تم ينساب حوار مقتصد جعل الزوج يلمح أول خيوط شيب في شعر زوجته، صدرت هاجس الشيخوخة إلى الزوج، لينهي الاستثنائي عبد الوهاب قصته بسؤال وجواب بينهما وعبارة مفتوحة على جميع الاحتمالات :
(-هل كان تعيسا إلى هذا الحد ؟
-إنه وحيد مهموم ، يشيخ في كل لحظة
لم يجب زوجها بشيء، كان قد ترك الحنفية سائبة يرتطم ماؤها بحوض المغسلة محدثا أصواتا مختلفة).