أوغستو مونتيروسو... الكتابة بمزايا إضافية
أوغستو مونتيروسو15/06/2014 06:56
باسم المرعبي
ان كتابة بالمواصفات التي تحوزها نصوص الكاتب الغواتيمالي اوغستو مونتيروسو تحقّق شرطاً إضافياً آخر إلى جانب ماهو مسلّم به أو متعارف عليه من شروط الكتابة الإبداعية. ويمكن تعريف هذا الشرط أو تسميته بـ "طاقة" المفارقة.صحيح انّ النزعة إلى المفارقة في الكتابة توجد ضمناً، كتفصيل، في الأعمال الكبيرة،عادة، إلا أنها لدى مونتيروسو تكون عماد أعماله، ويمكن عدّها ثيمة موازية للثيمات التي تتضمنها نصوصه وهو ما أدّى إلى صنع أساطيره الخاصة، لاسيما ان الكاتب يؤمن "انّ العبرة كلها في الأسلوب، حيث العمل الفني يتفوق على مادته"، كما يقرّر ذلك على لسان بطل واحدة من قصصه المسمّاة ليوبولدو (أعماله).
هذه القصة التي تعبّر في جانب منها عن حيرة الكتابة والتردّد بين أكثر من خيار أو مقترح للأسلوب والمعالجة لما تريد إيصاله، وإن قيل كلّ ذلك بإطار المفارقة والسخرية مدعوماً بقدرة هائلة على الملاحظة.
هذه المزيّة التي تجلّت منذ كتابه الأول الصادر في مكسيكو العام 1959 وبما حمله من عنوان ينطوي على مفارقة بيّنة: "الأعمال الكاملة وقصص أخرى".
غير أن السخرية التي طبعت أعماله وميّزتها لم تقده إلى العدوانية، كما يشير إلى ذلك الكاتب والمترجم العراقي يحيى علوان في مقدمته لكتاب "أيها القناع الصغير أعرفك جيداً" ـ دار كنعان، الذي ضمّ 37 نصاً متنوعاً، هي عبارة عن مختارات مترجمة عن الألمانية.. فعبر منظور السخرية يعمد الكاتب إلى تحليل الطبيعة البشرية.
وإذا كانت شهرة مونتيروسو قائمة على كونه قاصاً، إلا أنّ نصه، في ذات الوقت، يفيد من كل معطيات الأدب وحتى ما يتعدّى ذلك، بحيث "يستعصي معه النص المفتوح، الذي يجمع التأمل الفكري والأسطورة والنكتة البلاغية وقصيدة النثر، على أي محاولة للتصنيف" كما في تقديم نهى أبو عرقوب لـ "الأعمال الكاملة وقصص أخرى" ـ مشروع كلمة، أبو ظبي. وإذا كانت واحدة من قصصه القصيرة جداً والأشهر في العالم وهي "الديناصور"، المُحاكة من سبع كلمات، التي كرّسته إلى جانب قصصه القصيرة الأخرى رائداً لما يُعرف بالقصة "المينيمالية" أي القصيرة جداً، التي أشار إليها ماركيز في كتابه الشيّق"غريق على أرض صلبة"، على ما أتذكّر.
هذه القصة مترجمة ومنشورة في ثلاث ترجمات عربية على التوالي:
1 - أيها القناع الصغير أعرفك جيداً
-2 بحثاً عن الديناصور لسعيد بنعبد الواحد وحسن بوتكي
3ـ الأعمال الكاملة وقصص أخرى لنهى أبو عرقوب. ونصها: "حين استيقظَ، كان الديناصور لا يزال هناك". هذه الكلمات المعدودة قد أضحت عرضة لقراءات وتأويلات شتى منذ نشرها أول مرّة. وعلى الرغم من أهمية وخصوصية مثل هذا الاتجاه، فإن إنجاز أوغستو مونتيروسو يتجاوز الريادة بمعناها الزمني المجرّد، كما قد يُنظر إليها أحياناً، يتجاوزها إلى ما تمثله هذه الأعمال في حد ذاتها بعمقها وموقفها الإنساني وبمعالجة الكاتب الجذرية لمادته وفي استلهام المنجز الأدبي العالمي وتوظيفه كما في قصة "حلم جُعَل"، التي تستعيد "مسخ" كافكا بطريقة فذّة:"كان ثمة جُعَل اسمه غريغور سامسا، رأى في منامه ذات مرّة أنه جُعَل اسمه فرانز كافكا وكان يحلم أنه أصبح كاتباً يكتب عن موظف اسمه غريغور سامسا، الذي رأى في منامه بدوره أنه جُعَل".
ومن نص "مونولوج الشر"، كتاب "أيها القناع الصغير"، نجتزىء: "في يوم من الأيام وقف الشر قبالة الخير وجهاً لوجه، وأراد أن يلتهمه لينهي النزاع المضحك بينهما مرة وإلى الأبد....".مع أوغستو مونتيروسو لابدّ من الإقرار بأنّ كتابته تُفصح عن الذكاء الذي يجب أن تتصف به الكتابة. لهذا ولما تقدّم من مزايا احتل موتيروسو مكانته سوية مع كبار كتاب أميركا اللاتينية، وعُدّ رقماً مهماً في ما أُصطلح عليه بجيل "البوم" الذي عرفته القارة خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، وكان من أقطابه الرئيسيين كارلوس فوينتس، خوليو كورتاثار، ماريو فارغاس يوسا وغابرييل غارسيا ماركيز(حول ذلك، يُنظر مقالنا المترجم في إيلاف:خوليو كورتاثار جذور في ثقافتين).
وربما تكون كلمة غارسيا ماركيز، التي صدّر بها علوان ترجمته، أفضل تعريف موجز لأدب مونتيروسو: "أنصحكم أن تستسلموا وترفعوا أيديكم عند قراءة هذا الكتاب. فخطورته تكمن في الحكمة المتلصصة خلف كلماته، وروعته القاتلة في الجد المتلبّس لبوس الفكاهة والهزل". هذه الكلمة قيلت أصلاً بحق كتاب "الخروف الأسود وخرافات أخرى" حسب موقع سيَر وحيوات،(بالإسبانية)، إذ ليس بين كتب مونتيروسو من كتاب يحمل هذا الأسم، حسب ببلوغرافيا الكاتب. ومن بين هذا الهزل الملتبس بالجد حدّ الكابوس ما يرويه الكاتب عن نفسه وعن عمله في مطلع شبابه لدى قصّاب، والذي كان يحتمّ عليه الاستيقاظ فجراً للعمل، وفي أوقات النهار كان يختلس الوقت للقراءة، يقول، في مقابلة معه،لا أزال حتى الان أستيقظ من نومي في بعض الأحيان مفزوعاً، لأني أرى في منامي القصاب يداهمني أثناء القراءة.وهو ما يذكّر بتعليل الكاتب لروح الفكاهة وسلاسة الأسلوب التي يتمتع بها بردّ ذلك إلى الخوف.
متخذاً من نهجه هذا نوعاً من تمويه على حدّ قوله. لكن بالمقابل فإنّ مواقف الكاتب الأساسية من الإنسان عموماً وإنسان قارّته، خاصة، ومالحق به من عسف وحيف ساطعة.
هذه المواقف التي دفع ثمنها نفياً طوال حياته، وهي التي حدت بالسلطات الأميركية إلى اعتقاله وطرده، عندما كان مدعواً في العام 1972 من جامعة مشيغان لإلقاء محاضرات، حتى قبل أن يطأ الجامعة.
* شاعر وكاتب عراقي مقيم في السويد
رد مع اقتباس
