وأخيرا ً رأيت ُ ….
… صاحبة ذاكـ َالصوت الذي كثيرا ً ما كنت ُ أذوب ما بين همساتهِ، والذي كنتُ أستمد منه أحلامي التي تنحصر ما بين جمال الصوت وما بين غنجٍ يسكنه، لن أنكر بأنه إحساس مختلط بالرقى والرغبة ، كانت أمنية ً فريدة من نوعها تسكنني أن أراها، وأنا الذي كنت أرسم لها كل ليلةٍ لوحةً جماليةً مختلفة متوائمة مع طبقات صوتها الذي ينبعث منه رقة غير معهودة، لن أنسَ الحظ الذي ساقني في بداية الثمانينات من هذا القرن في الوقت الذي أتيت ُ متحمّسا ً كي أتخذ مسكنا ً لي قريبا ً من الجامعة التي ساقني إليها التنسيق …….. وأخذت ُ أرتّل طيلة وجودي في(التاكسي) تلكـ المبادئ والنصائح التي يمليها كل الآباء على أبنائهم، ولم أنسَ الجملة الأخيرة التي قالها لي والدي الذي يحمل بين عينيه تجاعيد الريف المحمومة بالمعانآه
( عايزك ترجع مرفوع الراس يبنى محليتناش فى الدنيا غير تعليمك ) هذه الجملة التى أتذكرها دائما ً، وهى العبارة التى تشحذ لدى كل( توربينات) الحماس بالإلتزام والإحساس بالمسئولية، ووقتما وصلت لتلك المنطقة التى كانت اقرب شىء للجامعه، بحثتُ عن مسكن يناسبنى من حيث السعر، ومن حيث الهدوء لأنى من عشّــــاق الهدوء ،وجدت ضآلتى فى غرفةٍ ذات سرير واحد، وسجّادة نصف قديمة ،ومكتب يبدو أنه مرهق ٌ من كثرة روّاد الأقلام عليه من قبل …..وحيث ان الوقت كان متأخرا ً والهدوء يعم المكان، تمددتُ على السرير محاولةً منّى فى الإسترخاء بعد عناء السفر، وحاولت الخلود إلى النوم الذى ربما جافانى لحداثة المكان وكأننى أحاول عقد مصالحة نفسية مع أركان الغرفة ومع سريرها ومع جدرانها العتيقة …وبينما أنا فى تلكـ الحالة الإستلهامية لسلطان النوم الذى إستجديته أن يأخذنى برفق ٍ بين أحضانه، فما أصعب حالة الغريب الذى أتى من الهدوء إلي الضجيج، ومن البـــــــراح إلى الحدود، ومن الشعور بالأمان إلى الترقّب والخوف قليلا ،ً فى خضم كل تلكـ الأحاسيس…،تسلل إلى مسمعى ذاكـ الصوت الذى إخترق أذنى بل تسلل وتسربل بتؤدة إلى مشاعرى، التى ربما كانت ممهدةً بشكل ٍ لا إرادى لصوتٍ جميلٍ رقيق يقيم ثورة ًهادئةً على زخم الأصوات الشبه أنثوى الذى كان سمةً فى قريتنا هذا إن سمعته بالفعل ، سمعتها تقول (ألووو …أيوة انا رجــــاء ….) وبعد لحظة صمت ٍ قصيرة تحوّل صوتها إلى شبه عصبية وهى تقول ( حضرتك عايز مين …..وعرفت اسمى منين …..أنا معرفش حد بالاسم دا ) وصمتت برهة ليست بالقصيرة وأسهبت بعلو صوت ٍ تدريجى ( طيب عشان متخلنيش اقول الفاظ مش كويسة من فضلك اقفل …..ايه الرخامة دى …..متتصلش هنا تانى يا ……..ولا بلاش ) وأغلقت سمّاعة الهاتف ،كان لا يهمنى الحوار فأنا عرفت ُ أنها نوع ٌ من معاكسات منتصف الليل، كل ما يهمّنى هو الإستمتاع بذاكـ الصوت الذى بدا جميلا ً رقيقا ً هادئا ً فى بدايته، ووقتما علا قليلا بدا أجمل وأسحر ربما لحرمانى من تلكـ الأنوثة الكامنة فى هذا الصوت . وبعد حوالى ما يقرب من ربع ساعه سمعتها تقول ( ألووو…. أنا رجاء …انت تانى……. باى ) وأغلقت السمّاعه مرّة أخرى لن انكر أن كل ما بداخلى من حماس هدأ قليلا ً وأصبح بداخلى حماس من نوع ٍ آخر هو التقرّب لصاحبة تلكـ الصوت فهى تبدو محترمة وفى نفس الوقت صاحبة صوت ( ملائكــيّ ) واثق، جميل، رائع، ينبعث من خلاله أنوثة طاغية، وبدأت ُ أفكر فى المقولة التى تقول الأذن تعشق قبل العين أحيانا ً وقلت فى نفسى، ربما الصوت جميل ولكن الوجه يعلمه الله . وبعدما إستغرقت فى النوم لإجهادى بعد محاولة منّى للرجوع فى قرارى الذى كان إستلهاماً لسلطان النوم وصار إستلهاماً بأن يبتعد عنّى كى أستمتع بهذا الصوت ولكن دوما ً ما يعاندنا ذاكـ السلطان ليأت ِ الصباح سريعا ً وإنتظرت ُ أن أرمقها ولكن باء إنتظارى بالفشل، و ذهبت إلى الجامعه وبعدما عدت ُ صرت ُ مدمنا ً لصوتها الذى كان يسعدنى كل ليلة ٍحتى وهى تقسو على من (يعاكسونها) ولكن ُ كان بينى وبين صاحبة الصوت شبّاكا ً عليه ستارة فرحت أزيح تلكـ الستارة رويدا ً رويدا وكأنى لص مُهاب ٌ من شىء ٍ ما،
علّنى ألمحها ولكن كل ما لمحته صورة رائعة لفتاة ٍ بدت من الوهلة الأولى أنها فى منتصف العقد الثاني من عمرها ، ذات شعر ٍكأنه ليل حالكـ السواد، وعينين سوداوين وبشرة بيضاء، وأنف ٍ تبدو قيصرية، وتسائلت بينى وبينى كيف تضع تلكـ الفتاة هذه الصورة لها وهى تعلم بأن من يسكن بجوارها يمكنه أن يلمح تلكـ الصورة إن كانت على هذا القدر من الإحترام…؟ ولكن لم أفكر فى الأمر كثيرا ً وحلمت بأن يكون بينى وبينها لقاء، ورحت ُ أرتّب كيف يكون اللقاء وأخذنى الوقت وأنا أفكر فى الأمر وجاء الليل سريعا ً وتقريبا ً فى الوقت المعتاد سمعتها تتحدث ( ألووو …..أهلا اهلا حبيبى …..وحشتنى …..بقالك كتير مش بتتصل ) وصمتتْ قليلا ولن أنكر أن كلمة حبيبى نزلت على أذنى كالصاعقه وحاولت إستجماع قوتى لأسمع ما تقول وبعد صمتها القليل قالت ( يا سلام ….يعنى وحشتك اوى للدرجادى …..أحلف كدا ….بتحلف بحياتى هى حياتى غالية عندك كدا ……طيب ليه أتاخرت عليا ………..أووووف الخط قطع ) هنا برغم جمال صوتها وغنجها مع هذا المدعو حبيبها شاب إحساسى برقّة صوتها وغنجه إحساسٌ بالغيرة من هذا الحبيب فلربما ساورنى إحساس بأنها ستصبح يوما ً لى أنا، وعلى حين غرّة سمعتها تقول ( ألووو …إيه يا حبيبى الخطوط وحشة عندكم ولا ايه ….. ولا يهمك يا حبى …..إيه بتقول إيييييييييييه ……….سمعنى تانى معقووووووووولة هتوصل بكرة ……يااااااااااه استنيتك كتير يا حبيبى …….لا يا روحى مش بحب الفساتين بتاعة بلا د برا ….أنا بحب فستان فرحى يكون محلّى …..بتقول ايه …..لا متخافش أنا هشتريه بكرة ……هههههه يا سلام مستعجل أوى كدا…طيب يا روحى أنا هستناك بكرا يارب توصل بالسلامه …باى يا حبيبى ) حينها فقط عرفت ُ أنه لا فائدة من أية محاولات وتم إجهاض أية محاولة منّى للتقرب منها .وما أصعب الإجهاض حينما يمسى الجنين مضغة ً فى بدايته ….وجاء الصباح التالى ورحت أزيح الستارة ،علّنى أغتنم نظرة أخيرة منها ولكن ما رأيته أيضا ً تلكـ الصورة، وكدت أسأل عم ( أمين ) البوّاب عن هذه الفتاه، ولكن بالطبع طباعى القروية منعتنى من التدخل…. وبعدما باءت محاولاتى بالفشل فى الإنتظار بأن أراها ذهبت إلى الجامعه وبقيت ُ فى خيالاتى وأحاسيسى تارة بالخزى وإنكسار القلب الذى أرهقه ذاكـ الصوت وتارة بالتزمّـــرمنها ، وبعدما عدت ُ من الجامعه رأيت ُ شقّتها مفتوحة على مصراعيها وبها مجموعة كبيرة من أهل المنطقة تأكدت بانهم يباركون إرتباطها ، وكان كل همّى أن أراها حقيقة ، تُري كيف ستبدو طقوس السعادة عليها …؟؟ …وكيف تبدو بالفستان الأبيض ؟؟ بالطبع ستبدو أكثر جمالا ً …..وهل سأتحمل أنا تلكـ الصدمة …؟؟ بل ما هى ملامح حبيبها …..؟؟ هل هو أوسم منّى ……؟ كيف لي أن أتحمّل كم ّ السعادة ما بينها وبينه ……؟؟ وكيف كانت حرارة اللقاء فيما بينهما ..كل هذى الأسئلة دارت فى ذهني …وربما جعلتني مذبذبا ً ما بين التراجع وما بين الإقدام وفي نهاية الأمر قررت ُ التقــدّم ورويدا رويدا ً إقتربت وأنا أزاحم كى أحظى بنظرة لمحيّـــاها ….فوجدت ُ سيّدة ً ناهزت الخمسين من عمرها ترتدى فستانا ً أبيضا ً بالياً تلطّخه دماءا ً سالت من معصمها وهى ممدة وبجوارها تلكـ الصورة التى لمحتُ كلاما مكتوبا ً بخط ّ ٍ صغير ٍ.ً عليها ( إهداء لعمتى رجاء ) فلقد كانت صدمتي بالغة حين عرفت أنها وجدوها هكذا ميتة وهى تحتضن تلك الآلة الجامدة" التليفون " " فى مشهد يبعث فى النفس عشرات الأسئلة حين علم الجميع أن هاتفها الأسود القديم كان مجرد "عــــــــــــدّهـ " بدون أسلاكـ بالمـــــــرهـ ……….!!!!!