في تسارع الزمن وتلاحق الأيام تختبئ تحت الرماد ظاهرة خطيرة، ظاهرة تفتك فينا وتطعننا دون أن ندري من أين تأتي تلك الطعنات، تلك الظاهرة التي تسبب الجفاء والعنف وكثير من المشاكل التي نحياها، فتعالوا معا نضع أيدينا على هذه الظاهرة.
هناك كثير من التعريفات للفراغ العاطفي، وألخصها بأن الفراغ العاطفي هو شعور الإنسان الداخلي بفقدان من يسمعه بصدق، ويحن عليه، وافتقاده إلى علاقة حب صادقة ومشبعة، تشعر الإنسان بحقيقة قيمته، وتشكل له قوة دافعة يرقى بها.....
تعالوا بنا ننظر إلى تداعيات غياب الإشباع العاطفي: أولا كثرة الخلافات بين الأزواج، والتي تنبع من أن كل طرف، يتوقع من الآخر أن يشبعه عاطفيا، وعندما تنعدم المحبة والمودة، ويعجز الزوجين على التعبير عن مشاعرهما بصدق ولباقة، تنشأ الخلافات على أتفه الأسباب، لذلك قد يتعجب الكثيرون من تفاهة وسخافة الخلافات بين الزوجين أو حتى بين عامة الناس، ولكنها في الحقيقة تعود إلى احتياجات غير مشبعة ولا يستطيع الشخص أن يعبر عنها، لذلك يعيش في صراع داخلي مستمر، ويظهر هذا الصراع إلى السطح على شكل خصومات مع الآخرين على أشياء تافهة؛
ولو اقتصر تأثير الفراغ العاطفي على الزوجين لهان الأمر، لكنه له تداعياته الخطيرة على الأطفال الأبرياء، لتنشأ عندهم عقد نفسية تظل قابعة في نفوسهم طوال حياتهم ما لم ينتبهوا لوجود المشكلة ويسعوا إلى حلها، هذه العقد النفسية تتمثل بالخجل والخوف والانطواء والانعزال عن الناس، وتدني إحساسهم بقيمتهم، ويلجأ بعض الأطفال إلى العنف للتفريغ عن أزمتهم، وتعبيرهم عن الاضطرابات التي تنشأ من الخلافات بين الأب والأم، والتي واحدة من أسبابها الجوهرية هي الفراغ العاطفي، هل وصلت الفكرة بمدى أهمية الموضوع؟!
والإنسان إذا تعرض في طفولته لحرمان عاطفي يكون عرضة في كبره للاستغلال، ويكون سهل الانقياد، مذعنا لطلبات غيره، وقد يطلق عليه الناس بعض الألقاب الشائعة: "مسكين"، "فقير" وغيرها.
في علم النفس الحديث ربما لا يوجد شيء اسمه الفراغ العاطفي (كان موجود سابقا في أدبيات التحليل النفسي) إنما يعبر عنه بالإدمان، وهذا يشمل كل أنواع الإدمان بما فيها الإدمان على المواد نفسانية التأثير أو الإدمان السلوكي: إدمان الأكل، إدمان الشراء، إدمان النت، وحتى إدمان الجنس. لذلك إذا كنت مدمنا لشيء ما فهناك احتمال كبير أن سبب الإدمان هو الفراغ العاطفي، كيف يحدث هذا؟ إذ أن الإنسان روح تسمو، وعقل يدرك، وقلب يحب، وجسد يتحرك، وأن الروح غذاؤها الإيمان، وأن العقل غذاؤه العلم، وأن القلب غذاؤه الحب، وأن الجسم غذاؤه الطعام والشراب. فإا اهتز أحد هذه الأركان لجأت النفس للتعويض عن النقص الحاصل، وفي حال غياب الحب، غذاء القلب، يتجه الإنسان إلى الإدمان على شيء ما ليعوض ذاك الغياب.
قد يستاءل أحدكم، كيف أعرف أن إدماني بسبب الفراغ أم لا؟! فواحدة من العلامات البارزة لمعرفة ذلك هي أن تلجأ إلى شيء لا لذات الشيء إنما لإشباع شعور ما داخل نفسك، فمثلا عندما تأكل، ليس لأنك جائع بل، لتهرب من شعورك السيء.
نلخص ما قلناه حتى الآن كالتالي: إذا رأيت مجتمعا ينتشر فيه العنف والطلاق وغياب التفاهم، وتكثر الخصومات، فاعلم أن مرد ذلك هو الفراغ العاطفي، وغياب الوعي بمشاعرهم.
وبنظري فإن شيوع بعض الأغاني المائعة هو إشباع الجوع العاطفي للناس، وهذا ينطبق أيضا على المسلسلات التركية وغيرها، لذلك ترى الفتيات مهووسات بتلك الشخصيات والأبطال في ذلك المسلسل، لأنه يشبع احتياجاتها العاطفية والنفسية، التي غالبا ما تخبئها عن من حولها، كذلك لا يختلف الأمر عند الرجال المهووسين بالشخصيات الأنثوية "الرومانسية" التي تسحره وتأخذه إلى عالم الخيال.
إذن وبعد أن رأينا خطورة الفراغ العاطفي تعالوا بنا أولا ننظر إلى الحل:
٠ الاعتراف بالمشكلة: لن تحل مشكلة على وجه الأرض قبل المصارحة بوجودها، فإذا أصررنا على عدم وجود مشكلة نكون ألقينا بها إلى غياهب اللا وعي حتى تتحكم بحياتنا وتؤثر فينا من حيث لا ندري، فأول خطوة هي الاعتراف بالمشكلة، وهذا ليس عيبا، بل العيب أن ندفن رؤوسنا في الرمال، وندخل في غيبوبة طوال حياتنا، وأشبه الأمر تماما، بمرض السرطان، فإذا لم يعترف الإنسان بوجوده، ظل يتنامى الورم الخبيث حتى يقضي على الإنسان، فأهم أمر أن لا ننكر وجود أزمة، وأعترف أن هذه أصعب خطوة، وخصوصا في مجتمعاتنا العربية، لأن هذا الموضوع غائب عن ثقافتنا وحضارتنا وأدبياتنا وقليل هم من يتكلمون عنه.
٠ بعد أن صارحنا أنفسنا بوجود المشكلة تأتي أولى خطوات الحل، وهي الإيمان بقدرتنا على التغلب على هذا الفراغ، لأن بدون هذا الإيمان سنظل عاجزين عن التقدم، وأعود لمثال مرض السرطان فمن دون أن يؤمن المريض بقدرته على الشفاء (بمشيئة الله عز وجل)، لن يكون العلاج فعالا.
٠ مصارحة المقربين بالمشكلة: فإذا كان الزوج يشتكي من الفراغ العاطفي فأقصر طريق هو أن يعبر عن مشاعره لزوجته بأسلوب لبق وصريح، كذلك بين الآباء والأبناء، ويجب الحذر من الشكوى لأي إنسان، وهذه نقطة خطيرة، تسقط بها الكثير من الفتيات الساذجات، في وحل المخادعين من الذئاب البشرية، الذين يستغلون الفراغ العاطفي للفتيات خصوصا في سن المراهقة، ويوقعون بهن في وحل الرذيلة، والمجتمع لا يرحم زلة الفتيات ولا يهمه السبب، لذلك وجب على الأهل والمربين بدلا من تشديد الرقابة على بناتهم وأولادهم أن يشبعوهم عاطفيا ونفسيا، مما يساهم في تحصينهم من الانحرافات.
٠ بعد مصارحة المقربين، يرتاح الإنسان كثيرا، وتأتي حينها مرحلة البحث عن حلول معهم، وليس عندي حل مثالي، فكل شخص عنده ظروفه التي تختلف عن الآخر، لذلك الحلول تأتي من خلال مناقشته المعاناة والتنفيس عن المشاعر مع من يثق به.
٠ البدء بالعمل بهذه الحلول، وهنا تأتي أمية التدرج، فهناك احتمال أن تحصل انتكاسات في طريق الحل، لأن مشكلة دامت سنوات، لا شك أنها تجذرت وتعمقت في داخل النفس البشرية، ولا يكفي يوم أو يومين لحلها، بل الصبر ومجاهدة النفس هي الطريق الى الحل.
٠ وأولا وأخيرا، لا ننسى الاستعانة بالله عز وجل، إذ أن ما من جهة على وجه الأرض تعلم مشاعرنا وباطننا وحلنا كالخالق عز وجل، وهدية الله عز وجل لعباده المؤمنين هي السكينة والطمأنينة والراحة النفسية والإشباع العاطفي، ومن سنن الله عز وجل أن جعل هناك قوانين ونواميس في الكون تسري على الجميع، وواحدة من هذه القوانين هي الأخذ بالأسباب، فلا يتوهم أحد بأن الطمأنينة والسكينة والراحة النفسية تأتي على المؤمن وهو يتعامل بغلظة وفظاظة ويسيء الأدب مع والديه وعائلته وباقي الناس، لذلك ماذا قال الله عز وجل في محكم تنزيله لرسولنا الكريم: "....... وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ.... " (آل عمران:159)، والمؤمن إذا صح إيمانه وأخذ بالأسباب، أعطى قدوة رائعة للناس من خلال سلوكه وتعاملاته، من خلال رحمته بالناس وعدم الغلظة والفظاظة.