الشعر الحر أم شعر التفعيلة؟ ملاحظات11/06/2014 08:47
"بعدما أنزلوني سمعت الرياح
في نواح طويل
تسف النخيل
والخطى وهي تنأى اذن فالجراح
-والصليب الذي سمروني عليه طوال الأصيل-
لم تمتني
وأنصت كان العويل
يعبر السهل بيني وبين المدينه
مثل حبل يشد السفينه
وهي تهوي الى القاع
كان النواح
مثل خيط من النور بين الصباح
وبين الدجى في سماء الشتاء الحزينه
ثم تغفو على ما تحس المدينه
هذا مقطع من قصيدة المسيح بعد الصلب – للشاعر بدر شاكر السياب نشرت القصيدة العام 1957.
1
منذ أن علقت القصيدة العمودية في عظمة المتنبي وزمنه بقي الشعر العربي رهينا للتقليد، ولم يغير الجواهري وأحمد شوقي وبدوي الجبل من المعادلة، فقد كانوا ثلاثة أصداء مميزة لذلك الصوت العظيم وزمنه (..أنا الطائر المحكي والآخر الصدى)، وبمجيء السياب والبياتي، تأسس صوت آخر وزمن مختلف وتغيرت القواعد القديمة، وأثبت الشعر إخلاصه لخط العقل الذي ظهر في العراق على يد الزهاوي، الإيمان بالعقل مصدر هداية، وليس بالروح الغامضة المجهولة، وتحرير الشعر من شروطه القديمة القاسية (تجربة الزهاوي الأولى في الشعر المرسل)، وفي الشام على يد الكواكبي (كتاب طبائع الاستبداد) وفي مصر على يد لطفي السيد، الذي دعا إلى التمسك بالتعليم الحديث سفينة نجاة من الغرق في الخرافة التي يبرع المتعصبون في نشرها على نطاق واسع.في العراق وفي خطين متوازيين تم تطبيق دعوة الزهاوي، الخط الأول جيل السياب الشعري والخط الثاني جيل علي الوردي الأكاديمي.
2
في قصيدة السياب تم تكسير السطور الموزونة، وبذلك ألغيت القاعدة العروضية (نظام الصدر والعجز) وتحركت القافية بحرية بعد أن كانت ثابتة في مكان واحد مايقرب من ألف سنة، أعطى هذا التحلل من القيود القديمة حرية ذات مساحة مريحة لحركة القصيدة الجديدة، وأتاح لها إمكانية إدخال (السرد والاقتباس والجمل الاعتراضية والانتقال من بحر الى بحر)، كما فعل السياب في هذه القصيدة التي تعد من بواكير إنجازات الحداثة الشعرية في العالم العربي.والشعر الحر تسمية أطلقتها نازك الملائكة على هذا الشكل وهي متطابقة معه- كما أعتقد- وما قاله أمين الريحاني العام 1910 عن قصائد النثر (هتاف الأودية) التي نشرها آنذاك "أنها شعر حر"، فهذا القول يفتقر إلى تدقيق ومقارنة بين شكل وآخر، كذلك الأمر مع أحمد زكي أبو شادي العام 1926 الذي سمى ديوانه -الشفق الباكي- شعرا حرا ولم يكن كذلك.
3
الشعر الحر، شكل ابتكره شعراء عراقيون في أوائل خمسينيات القرن الماضي، وفي مقارنة مع الشعر الانكليزي نلاحظ أن هناك ثلاثة عناصر أساسية في العروض (الوزن، التفعيلة، القافية)، (ميتر)(فوت)(رايم) Metre-foot-rhyme.
طبعا الكلمة هي الوحدة الأولى الأساسية التي تقوم عليها التفعيلة، وفي العربية الكلمة تتكون من حروف، وكل حرف ممسوك بحركة وتحتوي الكلمة العربية في الأغلب على ثلاث حركات (الضم، الفتح، الكسر) والكلمة الانكليزية تختلف عن العربية فهي تتكون من مقاطع، ربما من مقطع واحد أو مقطعين أوثلاثة، وهذه المقاطع تصنف إلى مقطع منبور ومقطع غير منبور، لذلك فالسطر الشعري العربي يحسب بعدد حروفه، بينما السطر الشعري الانكليزي يحسب بعدد مقاطعه، وفي المحصلة النهائية تعمل الحروف العربية والمقاطع الانكليزية على توليد الموسيقى في الجملة، في الشعر الإنكليزي يتألف السطر الشعري من خمسة مقاطع منبورة وخمسة غير منبورة، وهكذا تتساوى بقية الأسطر وفي نهاية كل سطر قافية.
في الشعر الحر الانكليزي ألغيت المقاطع الخمسة المنبورة وألغيت القافية من نهاية السطر وأصبح المقطع المنبور حرا في انتقاله من سطر إلى سطر، وحرا في عدده، ولم يتقيد في العدد خمسة، كذلك القافية أيضا تحررت، فهي ممكن أن تكون في وسط السطر أو في نهايته، وفي كثير من الأحيان لا تحتوي السطور على مقاطع منبورة أو قواف.
ويعد شعر والت ويتمان أنموذجا للشعر الأميركي الحر، شعره يسمح لمقاطع منبورة وقواف في بعض الأحيان.
أيضا الشعر العربي الحر امتاز بالسمات ذاتها، فهو شعر يمتد فيه السطر وينكمش بحرية، فحركته غير منتظمة في الطول والقصر، والمقطع أعلاه من قصيدة السياب ( كله سطر واحد طويل جدا) لكن الشاعر قطع السطر الطويل إلى سطور صغيرة، وصفها بهذا الشكل لإبراز تأثير القافية، ستلاحظ هنا أن السطر حر تستطيع أن توقفه تبعا لإبراز التفعيلة أو توقفه تبعا لإبراز المعنى، والقافية هنا حرة في اختيار مكانها من السطر وعدد التفعيلات لا يتساوى في الأسطر، كل هذه الحرية في الشكل تجيز لنا العودة الى مصطلح (الشعر الحر).
4
سمى جبرا ابراهيم جبرا قصائد النثر التي كتبها ونشرها العام 1957 شعرا حرا ( تموز في المدينة)، وأنا ممن يميلون إلى وصف قصيدة النثر (بالنثر) وانها ليست ( قصيدة تم تصنيعها من لغة شعر) إنما هي (قصيدة صنعت من لغة النثر) لكنها خرجت على إطار شروط وقواعد النثر، وأصبحت كائنا فريدا، إنها تشبه نفسها، فقصيدة الشعر لاتنتج إلا داخل نظام لغة الشعر المعروفة شروطه وقواعده، ولغة النثر المعروفة أيضا شروطه وقواعده، لا أتحدث هنا عن الشعرية ونظام الإزاحة الموجود حتى في الكلام اليومي بين الناس، لكن أتحدث عن الشعر والنثر كنظامين منفصلين في إجراءات اللغة، فالشعر يخلق قصيدته من لغة الشعر، والنثر يخلق قصيدته من لغة النثر، فالأساس المشترك هنا كلانا نكتب (قصيدة) قصيدتك تجمع أجزاءها من لغة الشعر، وقصيدتي تجمع أجزاءها من لغة النثر، ان القصيدة والشعر في الانكليزية كلمتان مشتقتان من بعض poetry –poet في المقابل كلمتا (قصيدة وشعر) في العربية بعيدتان عن بعضهما ومنفصلتان.
شخصيا أعتبر قصيدة النثر (شكلا ماصا) للأشكال المجاورة له، قصيدة النثر تندس في وصلات السرد حتى كأنها قصة قصيرة مضغوطة، وفي الحوار أو تغرق في فائض من الصور الشعرية المتلاحقة، فشكلها الحقيقي أميبي لهذا فهي اكتشاف هائل في الأخص، إذا وضع هذا الاكتشاف في يد مهرة وموهوبين، لذلك لا أتفق مع رأي جبرا، فقصيدة النثر ليست شعرا حرا، ولا أجد ضيرا من إبقاء مصطلح (الشعر الحر) تسمية لشعر التفعيلة وشعر التفعيلة تسمية جانبية– فرعية للشعر الحر.
5
ابتداء من إنجاز السياب والبياتي ونازك الملائكة وبلند الحيدري دخل الشعر العربي زمنا جديدا مختلفا وحقق عظمته بعيدا عن عظمة المتنبي، ثم توالت التحولات الشعرية صعودا بعد ذلك، لكن في هذه القصيدة وقصائد غيرها للسياب ومعظم شعر البياتي ونازك وأدونيس في (هذا هو اسمي، والتحولات في أقاليم الليل والنهار) وصلاح عبد الصبور في (مأساة الحلاج)، وحتى قصيدة (مرثية للعمر الجميل) لحجازي، ثمة مشكلة في عمق الحداثة، وكأن الحداثة الشعرية ثورة حدثت على السطح ولم تلامس الداخل العميق، ثورة على الشكل الخارجي للقصيدة (أما حركة موضوعها، زاوية الرؤية، الرؤيا، بصيرة الشاعر الحديث) مازالت قديمة، تعيد إنتاج الخرافة، كما مبثوثة في كتب العماء والجهل.