هناء عليان:في 23 شباط (فبراير) 1942، أقدم الكاتب النمسوي ستيفان تسفايغ وزوجته الشابة على الانتحار معاً في منزل ريفي في البرازيل.
كان في أبعد مكان ممكن عن وطنه الأم. وقد شعر بالإقصاء التام عن عالمه بعدما وقعت أوروبا تحت الاحتلال، وأحرق النازيون كتبه، ليجد نفسه هائماً بين دول وجنسيات متفرقة بحثاً عن ملاذ. فقدت هذه «الروح الكوزموبوليتانية» الرغبة في البقاء على قيد الحياة. ولم يكن باستطاعة أحد أن يغيّر قناعته التامة بأن «الحضارة التي ولدنا فيها أصبحت على وشك الانقراض»، فآثر الرحيل عن هذه الدنيا مع محبوبته «لوت».
كان تسفايغ واحداً من الكتّاب الأكثر شهرة في جيله. ترجمت أعماله إلى ما يقرب من خمسين لغة واعتبر من الكتاب النمسويين الأكثر تأثيراً. في اليوم التالي لوفاته، نظمت الحكومة البرازيلية جنازة رسمية رفيعة المستوى، حضرها الرئيس جيتوليو فارغاس شخصياً ومجموعة كبيرة من الأدباء والمثقفين. لكن انتحاره أسفر عن موجة ردود فعل متضاربة بين التعاطف والاستنكار. صديقه توماس مان، أحد أهم الكتاب الألمان في المنفى، لم يخفِ غضبه على ما اعتبره «عملاً جباناً». وكتب في رسالة إلى صديق: «لم يكن ينبغي أن يمنح النازيين هذا النصر. لو أن كراهيته وازدراءه لهم كانا أقوى لما أقدم على فعلته قط».
لماذا لم يتمكن تسفايغ من إعادة بناء حياته من جديد؟ وما السر الذي جعله غير قادر على احتمال منفاه؟. هذا ما يركز عليه الكاتب جورج بروشنيك في كتابه «المنفى المستحيل، ستيفن تسفايغ عند نهاية العالم»، الصادر عن دار «أوذر برس»، محاولاً توضيح الدوافع وراء انتحار صاحب «بناة العالم» فيما كان لا يزال يتمتع بشعبية نادرة، وبعدما كان أنهى للتو كتابة ثلاثة من أعماله الرئيسة، مذكراته بعنوان «عالم الأمس»، و «البرازيل: أرض المستقبل»، و«قصة الشطرنج» التي تناول فيها أهوال العصر. في ذلك الوقت أيضاً، تزوج من امرأة محبة تصغره بنحو ثلاثين عاماً. و اختار بمحض إرادته مغادرة بريطانيا ومن ثم الولايات المتحدة واللجوء إلى البرازيل، التي وصفها بأنها دولة مضياف أطلقت العنان لخياله. فمن أين أتى قرار الانتحار المزدوج؟!.
وفق الكاتب، لم يختبر تسفايغ مطلقاً لحظات الرعب القاتلة، ولم يضطر إلى اتخاذ قرارات مصيرية على وجه السرعة، لطالما كان لديه الوقت الكافي لحزم حقائبه واختيار وجهة الرحيل، ولطالما شعر بالأمن المادي لكونه ينحدر من عائلة فاحشة الثراء. لكنّ وصول هتلر إلى السلطة كان له عواقبه الخطيرة والمباشرة على حياة الكاتب المعروف، لا سيما بعد فقدانه ناشره الألماني، دار إنسل للنشر، وشعوره بـ «اليتم الوطني أينما حلّ ضيفاً» لأنه فقد «موطنه الروحي للأبد».
في رحلة بحث متروّية، يتتبع بروشينك تنقلات تسفايغ بين دول عدة بحثاً عن ملجأ آمن، من لندن إلى باث ومانهاتن وصولاً إلى بلدة بتروبوليس البرازيلية الوادعة التي أمضى فيها أيامه الأخيرة وهو يكتب رسائل وداع لمحبيه قبل أن يبتلع وزوجته كمية من الحبوب المهدئة ويناما جنباً إلى جنب بانتظار الموت.
وفق بروشنيك، تغيرت الأمور جذرياً في 3 ايلول (سبتمبر) عام 1939، عندما أعلنت بريطانيا العظمى الحرب على ألمانيا في أعقاب غزو بولندا، وبالتالي أصبح تسفايغ عدواً أجنبياً بنظر البريطانيين. نفسياً، شكل ذلك صدمة قاسية عليه. بطبيعة الحال، كان البريطانيون أذكى من القيام بخطوة ساذجة كالإقدام على وضع كاتب شهير بحجمه في معسكر للاعتقال. مع ذلك، خضغ تسفايغ لضغوط وقيود لم يستطع تحملها طويلاً. كان عليه التقدم بالكثير من الأوراق للحصول على الإقامة، ومُنع أيضاً من السفر أبعد من خمسة أميال عن مكان إقامته، وأكثر ما أثار سخطه حرمانه من لغته الأم. كان من المستحيل أن ينشر أي شيء باللغة الألمانية، ونصحه مسؤولون بريطانيون بعدم التحدث بالألمانية في الأماكن العامة. وبالتالي «وجدت نفسي أسيراً للغة أحبها ولا يمكنني استخدامها». وسرعان ما بدأ يضيق ذرعاً من منفاه الاضطراري.
لاحقاً، هزه سقوط فرنسا، وأصابه خطر غزو إنكلترا بالرعب، وكعادته في اختيار المنفى مقدماً، غادر إلى نيويورك مع زوجته عام 1940. عندما وطئت أقدامهما الولايات المتحدة، كان تسفايغ رجلاً مختلفاً. شعر بالمرارة والبؤس وعدم الانتماء. أصابه بريق نيويورك وروعتها بالتوتر حتى أنه مقت تقدمه بالسن وحاول محاربة الشيخوخة من خلال علاج تجديدي يقوم على حقن الهرمون. لم يكن العلاج ناجعاً فضاعف انزعاجه من نفسه رغم أنه لم يكن يتجاوز الرابعة والخمسين من العمر.
بعدما قام النازيين بإحراق كتبه جنباً إلى جنب مع كتب فرويد وإينشتاين، ذاع صيته في الولايات المتحدة كإحدى الشخصيات الأدبية الألمانية الأكثر تأثيراً. ومع أن كتبه منعت من العرض على أرفف المكتبات في ألمانيا، ومنع كذلك التطرق إليها في الصحف ووسائل الإعلام، إلا أن مبيعاته فاقت كل التوقعات وبقيت تسجل معدلات عالية للغاية. حتى أنه كتب الى صديقه ريتشارد شتراوس «يبدو أن التضييق والتعتيم لهما نعمة على أي عمل فني».
بدأت شهرته بالتضاؤل لا سيما بعد رفضه إدانة نظام هتلر في العلن. لم يطلق أي موقف سياسي ضد النازيين على رغم إصرار أصدقائه وزملائه وناشره عليه لفعل ذلك. ظل يحتفظ بكرهه للنازيين لنفسه لا بل إنه قال في احدى المرات «يستحيل أن أتحدث ضد ألمانيا... أو ضد أي دولة أخرى». قد يعود ذلك بجزء كبير منه إلى شخصية تسفايغ التي تنشد السلام والهدوء وترفض الصراعات والخلافات أياً كانت.
كان تسفايغ على النقيض تماماً من توماس مان، الذي وصل الى الولايات المتحدة في الوقت نفسه تقريباً، وأطلق كل التصريحات الممكنة ضد النازيين، معلناً بقوة أنه يمثل «أفضل ما في ألمانيا. حيثما أكن تكنْ ألمانيا. أحمل الثقافة الألمانية في داخلي، ولدي اتصالات مع كل العالم ولا أعتبر أن بلادي قد سقطت». اما تسفايغ فافتقر إلى مثل هذه الثقة بالنفس مع أنه كان يتمتع بعلاقات طيبة مع أصدقائه وأقاربه وناشريه في مختلف دول العالم، وهؤلاء كانوا على استعداد تام لمساعدته ساعة يشاء.
كل هذه الاتصالات والعلاقات أثبتت أنها عديمة الجدوى في وجه واقع سياسي وحشي. في مذكراته، يكتب تسفايغ عن نهاية العالم حيث يمكن التنقل بين الدول من دون جوازات سفر، و»من دون أن يتوجب عليك تبرير وجودك». وفي رسالة انتحاره التي شكر فيها حكومة البرازيل وشعبها على استضافته كتب يقول: «لكن الذي ناهز الستين من العمر يحتاج إلى طاقات غير اعتيادية كي يبدأ بداية جديدة بحق. ما لدي من طاقات استنزفتها أعوام التشرد المديدة، لذلك من الأفضل في اعتقادي أن أختتم حياتي في الوقت المناسب، وأنا منتصب القامة، حياة كان العمل الفكري فيها يعني الفرح الصافي، والحرية الشخصية النقية، والخير الأسمى على الأرض. تحياتي إلى كل أصدقائي، عسى أن تتسنى لهم رؤية الفجر بعد هذا الليل الطويل، وها أنا ذا أتقدمهم وقد فرغ صبري تماماً
كاردينيا