حيادية “الوسيط” المتأخرة!



نبيل نايلي

”من المحزن للغاية أن أغادر المنصب وأترك سوريا في مثل هذا الوضع السيء، ولكنني واثق سيدي الأمين العام بأنك ستواصل بذل كل ما يمكن لبشر أن يفعله للعمل مع مجلس الأمن وجيران سوريا، والأطراف السورية نفسها لإنهاء هذه الأزمة..أقدّم اعتذاراتي مرة أخرى لأننا لم نتمكن من مساعدة السوريين بقدر ما يستحقون وبقدر ما كان ينبغي أن نفعل.“ الأخضر الإبراهيمي.
رسم “الوسيط” العربي والدولي السابق في سوريا، في حواره مع أسبوعية دير شبيغل الألمانية، DER SPIEGEL، لوحة قيامية لما قد تؤول إليه الأمور في سوريا، بتصريحه: “إنّها ستتحوّل الى صومال ثانية. لن نشهد تقسيما للبلاد كما يتكهّن كثيرون، بل ان سوريا ستتحوّل إلى دولة مفكّكة يسود فيها أمراء الحرب”! أما عن المضاعفات، فحذّر وأنذر: “على الأمد البعيد المنطقة بأسرها ستنفجر إذا لم يتم التوصّل إلى حل. هذا النزاع لا يقف عند سوريا…”



الحوار الذي أجرته معه الأسبوعية الألمانية، لم يقتصر على استشراف لمخرجات الأزمة وارتجاجاتها، إقليميا ودوليا، بل تضمّن أيضا رسائل إلى من بعثوا ب “ذئابهم المنفردة” إلى سوريا أو تساهلوا في التحاق شبابهم بالجماعات المسلّحة التي ساهمت ولا تزال في تدمير سوريا، فالإبراهيمي الذي صمت طويلا، قالها صراحة: “هناك ما بين 500 و600 فرنسي وإجمالا العدد ذاته من البريطانيين. وهناك آلاف الرعايا غير السوريين يحاربون هناك.”



السيد الأخضر الإبراهيمي الذي عُيّن في سبتمبر 2012 موفدا خاصا مُكلّفا من الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ب”التوسّط لإيجاد حلّ للنزاع” في سوريا، ثم استقال في ماي الماضي، كان قد شغل منصب موفد الأمم المتحدة إلى أفغانستان بعد هجمات سبتمبر 2001، ثم إلى العراق في 2003، وهو الذي تولّى الوساطة خلال المفاوضات بين الأطراف اللبنانية في مدينة الطائف، السعودية عام 1989، وجنوب أفريقيا خلال إنتخابات 1994، وإلى اليمن في خضم الحرب الأهلية، أكثر العارفين، كما كان عارفا يوم أرسل إلى العراق، وصمت على مشاريع بريمر، ودستوره.

أليس هو من قبل بتكليفه مبعوثا أمميا للعراق، لترتيب أوضاعه تحت مظلة الإحتلال الأمريكي، وصياغة مستقبله، وبالتنسيق مع الجنرال بريمر؟ أ لم يرتكب الخطيئة الكبرى، أي القبول بالمحاصصة الطائفية أثناء خروجه بفكرة مجلس الحكم في العراق، وتوزيع مقاعد المجلس على أاسس عرقية ومذهبية بين الشخصيات العراقية المعارضة التي كانت تتصدّر مؤتمر لندن، واختارها السفير الأمريكي ريتشاردوني؟ وهو المؤتمر الذي مهّد لغزو العراق واحتلاله، وأضفى مشروعية عراقية عليهم!!! مآسي العراق وكوارثه السياسية في مرحلة الغزو، وما بعدها، جاءت بسبب مجلس الحكم وتقسيماته الطائفية، بما في ذلك حلّ الجيش العراقي وتفكيك مؤسسات الدولة تحت مسمّيات اجتثاث البعث، والسيد الإبراهيمي أحد المسؤولين عن هذه الكوارث، بحسن نية او بغيرها، لا يغيّر من الأمر شيئا!! فهل ينفع إعتذاره سنة 2006 في دبي،



يدرك السيد الإبراهيمي جيدا أن ما يجري الآن في سوريا لا تغيّر في معادلاته وساطة أمم “متحدة”، ولو أمكن لكوفي عنان لفعل. كوفي الذي لم يفشل، وإنما تعمدت الولايات المتحدة والدول الغربية والعربية الأخرى إفشاله، لأنه وضع إصبعه على الجراح، عندما أراد حوارا يحافظ على وحدة التراب السوري، ويحقن الدماء، ويمنع الحرب الأهلية الطائفية، وتدخّلات القوى العظمى وصراعاتها على الأرض السورية.


أما قوله: “يا الهي، كلّ هؤلاء الناس يتدرّبون في سوريا ويعتقدون ان مهمّتهم إقامة دولة إسلامية في العالم. هذا تهديد كبير لكم، أليس كذلك؟”، فمن يحذّرهم من “بعبع دولة الإسلام العالمية” أعلم بنوايا هؤلاء الذين يتدرّبون، علم من زرع غرسا كالفطر السام وانتظر موسم الحصاد! كان الأحرى التركيز على مأساة سوريا، يا سيد إبراهمي، لا تهديد وهمي بإقامة “دولة إسلامية في العالم!” ألم يطّلع، وهو الدبلوماسي المتمرّس، على نص الحوار الصحفي الذي أجرته صحيفة لونوفال اوبسارفاتوار الفرنسية، مع صاحب نظرية أوراسيا الكبرى، عرّاب بعبع “الإسلام” الراديكالي، مستشار كارتر للأمن القومي وأحد مستشاري أوباما، زبيغنيو بريجنسكي، خصوصا ردّه على سؤال الصحفي الفرنسي، فانسون جوفار، عن التطرّف “الإسلامي” وخطر “الإسلاميين” الذين يصفهم بـ”بعض المتشنّجين” على العالم؟ بريجنسكي أجاب يومها: “أية حماقة هذه.. ليس هناك إسلام عالمي موحّد.. أيهما أهم بنظر التاريخ: طالبان أم سقوط الإتحاد السوفييتي؟ حفنة من المتشنّجين “الإسلاميين” “صنيعتنا يقصد” أم تحرير أوروبا ونهاية الحرب الباردة؟



لعل أبلغ وأصدق ما قاله، الوسيط المستقيل، في لحظة صفاء، لا علاقة لها بالوساطات، والحياد الذي وجد سبيله إليه متأخرّا، أي بعد قبول إستقالته، تصريحه في محاضرة كان ألقاها في الأردن، جاء فيه: “التغيير مطلوب في كل مكان في المنطقة العربية، لكن كيف؟ وماذا بعد؟”


إستقالته وإن تأخرّت، كان ولا يزال بإمكانه، لو أراد فعلا اعتماد نهج الحياد، توظيفها للخلاص من لعنة العراق التي تطارده لا أن يضيف لها لعنة أخرى إسمها سوريا! لقد صار بإمكانه، وهو المستقيل، كشف أسباب إستقالته وكوفي عنان وفضح من يتآمر على سوريا ويمدّد في عمر مأساتها، لتدميرها وتحويلها إلى عراق آخر، أو صومال كما يحذّر جنابه. ساعتها، وساعتها فقط يمكن أن يكون لإعتذاراته جدوى ومصداقية، لا أن يكتفي بالتعويل على أمينه العام ل”يواصل بذل كل ما يمكن لبشر أن يفعله للعمل مع مجلس الأمن وجيران سوريا، والأطراف السورية نفسها لإنهاء هذه الأزمة”، وهو الأعلم أن ذلك محض تفكير رغائبي، لا طائل من ورائه!!!!




*باحث في الفكر الإستراتيجي، جامعة باريس.