بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
العامل الأول :
الأحاديث الكثيرة المسلّمة بين الفريقين الإمامية وغيرهم ، والتي تدلّ على ولادة الإمام سلام الله عليه ، ولكن من دون أن ترد في خصوص الإمام المهدي وبعنوانه ، فهي تدلّ على ولادة الإمام من دون أن تنصب على هذا الإتجاه ، وأذكر لكم في هذا المجال ثلاثة أحاديث :
الحديث الأول : حديث الثِقْلين أو الثَقَلَين ، الذي هو حديث متواتر بين الإمامية والإخوة العامة ، ولا مجال للمناقشة في سنده ، قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مواطن متعدّدة : في حجّة الوداع ، في حجرته المباركة ، في مرضه ، وفي ... ، فإذا رأينا اختلافاً في بعض ألفاظ الحديث فهو ناشئ من اختلاف مواطن تعدّد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذا الحديث :
« إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، أحدهما أكبر من الاخر ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (١).
لاحظوا : « ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » ، يعني أن الكتاب مع العترة ، من البداية ، من زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يردا عليه الحوض.
وهذا يدلّ على أنّ العترة الطاهرة مستمرة مع الكتاب الكريم ، وهذا الاستمرار لا يمكن توجيهه إلاّ بافتراض أنّ الإمام المهدي عليه السلام قد ولد ولكنه غائب عن الاعين ، إذ لو لم يكن مولوداً وسوف يولد في المستقبل لافترق الكتاب عن العترة الطاهرة ، وهذا تكذيب ـ استغفر الله ـ للنبي ، فهو يقول : « ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض » هذا لازمه أنّ العترة لها استمرار وبقاء مع الكتاب إلى أن يردا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا لا يمكن توجيهه إلاّ بما قلت : إن الإمام المهدي سلام الله عليه قد ولد ولكنه غائب ، وإلاّ يلزم الأخبار على خلاف الواقع.
وهذا حديث واضح الدلالة ، يدل على ولادة الإمام سلام الله عليه ، لكن كما قلت هذا الحديث لم يرد ابتداءاً في الإمام المهدي ، وإنّما هو منصبّ على قضيّة ثانية : « وإنّهما لن يفترقا » ، لكن نستفيد منه ولادة الإمام بالدلالة الالتزامية.
وقد يقول قائل : لنفترض أن الإمام عليه السلام لم يولد ، ولكن في فترة الرجعة التي ستقع في المستقبل يرجع الإمام العسكري عليه السلام ، ويتولد آنذاك الإمام المهدي عليه السلام ، إن هذه فريضة ممكنة وعلى أساسها يتم التلائم بين صدق الحديث وافتراض عدم ولادة الإمام عليه السلام.
أن لازم هذه الفريضة تحقق الافتراق بين العترة الطاهرة والكتاب الكريم في الفترة السابقة على فترة الرجعة ، ففي هذه الفترة لا وجود للإمام المهدي عليه السلام ولا وجود للعترة وقد تحقق فيها افتراق الكتاب الكريم عن العترة الطاهرة.
الحديث الثاني : حديث الإثني عشر ، وهذا أيضاً حديث مسلّمٌ بين الفريقين ، يرويه البخاري ومسلم وغيرهما من طرق أهل السنة ، ومن طرقنا أيضاً قد رواه غير واحد كالشيخ الصدوق مثلاً في كمال الدين والحديث منقول عن جابر بن سمرة يقول :
دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته يقول : « إنّ هذا لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة » ، ثم تكلّم بكلام خفي عليّ ، فقلت لأبي ما قال ؟ قال : كلّهم من قريش (2).
وهذا الحديث من المسلّمات أيضاً ، وليس له تطبيق معقول ومقبول إلاّ الأئمة الإثني عشر عليهم السلام .
وجاء البعض وحاول تطبيقه على الخلفاء الراشدين واثنين أو ثلاثة من بني أميّة واثنين أو ثلاثة من بني العباس.
إن هذا تطبيق غير مقبول ، وكلّ شخص يلاحظ هذا الحديث يجده إخباراً غيبي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قضية ليس لها مصداق وجيه ومقبول سوى الأئمة صلوات الله عليهم الإثني عشر.
وهذا الحديث بالملازمة يدلّ على ولادة الإمام المهدي سلام الله عليه ، إذ لو لم يكن مولوداً الآن ، والمفروض أنّ الإمام العسكري توفي ، ولم يحتمل أحد أنه موجود ، إذن كيف يولد الإمام المهدي من أب هو متوفى.
فلابدّ وأن نفترض أنّ ولادة الإمام عليه السلام قد تحقّقت ، وإلاّ هذا الحديث يعود تطبيقه غير وجيه.
فهذا الحديث بالدلالة الإلتزامية يدل على ولادة الإمام صلوات الله وسلامه عليه.
الحديث الثالث الذي أريد أن أذكره في هذا المجال ، حديث أيضاً مسلّم سنداً بين الفريقين ، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة » (3) ، هذا أيضاً يرويه أهل السنة ، ويرويه الشيخ الكليني في الكافي ، فهو مسلّم عند السنّة والشيعة.
فإذا لم يكن الإمام المهدي عليه السلام مولوداً الآن ، فهذا معناه نحن لا نعرف إمام زماننا ، فميتتنا ميتة جاهلية.
فالحديث يدلّ على أنّ كلّ زمان لابدّ فيه من إمام ، وكلّ شخص مكلّف بمعرفة ذلك الإمام ومكلّف بأن لا يموت ميتة جاهلية ، فلو لم يكن الإمام مولوداً إذن كيف نعرف إمام زماننا ؟.
هذه أحاديث ثلاثة ، وإن لم تكن منصبّة على الإمام المهدي صلوات الله عليه مباشرة ، ولكنّها بالدلالة الإلتزامية تدلّ على أنّ الإمام سلام الله عليه قد ولد وتحققت ولادته.
العامل الثاني
إخبار النبي والأئمة صلوات الله عليهم بأنّه سوف يولد للإمام العسكري ولد يملا الأرض قسطاً وعدلاً ويغيب ، ويلزم على كلّ مسلم أن يؤمن بذلك.
هذه الأحاديث كثيرة ، فالشيخ الصدوق في كمال الدين جعلها في أبواب :
باب ما روي عن النبي في الإمام المهدي ، ذكر فيه خمسة وأربعين حديثاً.
ثم بعد ذلك ذكر باب ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في الإمام المهدي.
ثم باب عن الزهراء سلام الله عليها وما ورد عنها في الإمام المهدي عليه السلام ، ذكر فيه أربعة أحاديث.
ثم عن الإمام الحسن عليه السلام ، ذكر فيه حديثين.
ثم عن الإمام الحسين عليه السلام ، ذكر فيه خمسة أحاديث.
ثم عن الإمام السجاد عليه السلام ، ذكر فيه تسعة أحاديث.
ثم عن الإمام الباقر عليه السلام ، ذكر فيه سبعة عشر حديثاً.
ثم عن الإمام الصادق عليه السلام ، ذكر فيه سبعة وخمسين حديثاً.
وقد جمعتُ الأحاديث فكانت مائة وثلاثة وتسعين حديثاً.
هذا فقط ما يرويه الشيخ الصدوق في الاكمال (4) ، ولا أريد أن أضمّ ما ذكره الكليني في الكافي ، والشيخ الطوسي ، وغيرهما (5) ، وربما آنذاك يفوق العدد الألف رواية.
وتبرّكاً وتيمّناً أذكر حديثاً واحداً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحديثين عن الإمام الصادق سلام الله عليه.
أمّا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
فهو ما رواه ابن عباس قال : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « ... ألا وإنّ الله تبارك وتعالى جعلني وإيّاهم حججاً على عباده ، وجعل من صلب الحسين أئمة يقومون بأمري ، ويحفظون وصيّتي ، التاسع منهم قائم أهل بيتي ومهدي أمتي ، أشبه الناس بي في شمائله وأقواله وأفعاله ، يظهر بعد غيبة طويلة ... » إلى آخر الحديث (6).
وبهذا المضمون أو قريب منه أحاديث كثيرة ، وبعض الأحاديث تذكر أسماء الأئمة صلوات الله عليهم.
وأمّا عن الإمام الصادق عليه السلام :
فهو ما رواه محمد بن مسلم بسند صحيح متفق عليه قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : « إن بلغكم عن صاحبكم غيبة فلا تنكروها » (7).
وحديث آخر عن زرارة يقول : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : « إنّ للقائم غيبة قبل أن يقوم ، يا زرارة وهو المنتظر ، وهو الذي يشك في ولادته » (8).
فمسألة التشكيك في الولادة أخبر بها الإمام الصادق عليه السلام من ذلك الزمان ، فكان أوّل من شكك في الولادة جعفر عمّ الإمام المهدي عليهالسلام ، لعدم اطلاعه على الولادة ، ووجود تعتيم إعلامي قوي على مسألة ولادة الإمام المهدي عليه السلام ، نتيجة الظروف الحرجة المحيطة بالإمامة في تلك الفترة ، حتى أنّه لم يجز الأئمة التصريح باسم الإمام المهدي ، فجعفر ما كان مطّلعاً على أنّ الإمام العسكري عليه السلام له ولد باسم الإمام المهدي ، لذلك فوجئ بالقضية وأنكر أو شكّك في الولادة ، فهو اوّل من شكك.
ثم تلاه في التشكيك ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والاهواء والنحل ، شكّك في مسألة الولادة فقال : وتقول طائفة منهم ـ أي من الشيعة ـ أنّ مولد هذا يعني الإمام المهدي الذي لم يخلق قط في سنة ستين ومائتين ، سنة موت أبيه (9).
وتبعه على ذلك محمد اسعاف النشاشيبي في كتابه الإسلام الصحيح ، يقول : ولم يعقب الحسن ـ يعني العسكري سلام الله عليه ـ ذكراً ولا أنثى (10).
على أي حال مسألة التشكيك في الولادة أخبر بها الإمام الصادق عليه السلام ، وكانت موجودة من تلك الفترة ، فالإمام يقول لزرارة : « وهو المنتظر وهو الذي يشك في ولادته ، منهم من يقول مات أبوه بلا خلف ، ومنهم من يقول أنّه ولد قبل موت أبيه بسنتين ... » إلى أن يقول الإمام : « يا زرارة إذا أدركت ذلك الزمان فادعوا بهذا الدعاء : « اللّهم عرّفني نفسك فانّك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيّك ، اللّهم عرّفني رسولك فانّك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف جحتك ، اللّهم عرّفني حجتك فانّك إن لم تعرّفني حجتك ضللت عن ديني » (11).
واقعاً الإنسان والعياذ بالله فجأةً يضلّ عن الدين من حيث لا يشعر ، فالدعاء بهذا ضروري للبقاء بالتمسّك بهذا المذهب الصحيح : « اللّهم عرّفني حجتك فانّك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني ».
ومن الأشياء التي لا تنبغي الغفلة عنها الأدعية المعروفة عن أهل البيت صلوات الله عليهم ، ومنها هذا الدعاء : « اللّهم كن لوليك الحجة ابن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كلّ ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً » (12).
ومن الطبيعي أنّ الأئمة صلوات الله عليهم يذكرون هذا الدعاء ليعلّموا شيعتهم ، ومِنْ تعبيرهم بالحجة فقط يعلم مدى حالة الكتمان والتكتم ، حتى أنّ الوارد في الدعاء المتقدم « اللّهم كن لوليك فلان ابن فلان » كتماناً للاسم المبارك.
هذه جملة من الأحاديث ، وهي بهذا الصدد كثيرة ، رواها الكليني في الكافي والشيخ في الغيبة وغيرهما ، وهي تشكّل في الحقيقة مئات الأحاديث في هذا المجال.
وبعد هذه الكثرة فهي من حيث السند متواترة لا معنى للمناقشة فيها ، وهي واضحة غير قابلة للاجتهاد ، وإلاّ لكان ذلك اجتهاداً في مقابل النص.
هذا هو العامل الثاني من عوامل نشوء اليقين بولادة الإمام المهدي سلام الله عليه.
العامل الثالث
رؤية بعض الشيعة للإمام المهدي عليه السلام ، كما حدّثت به مجموعة من الروايات الأخرى ، وهذه الروايات التي سأذكرها هي غير الروايات التي ذكرها الشيخ الصدوق في كمال الدين.
فرغم التعتيم الإعلامي بالنسبة إلى اسم الإمام وولادته عليه السلام الذي قام به الأئمة عليهم السلام ، السلطة اطلعت من خلال إخبار النبي وأهل البيت أنّه سوف يولد شخص من ذرّية الإمام العسكري يملأ الأرض قسطاً وعدلاً وتزول على يده المباركة السلطات الظالمة ، انهم كانوا مطلعين ويراقبون الأوضاع ، كما اطلع فرعون على مثل هذه القضية وكان يراقب الأوضاع ويراقب النساء ويراقب القوابل ، ونفس القضية اتبعها بنو العباس في زمان المعتمد العباسي ، فكانوا يراقبون الأوضاع ، ولذلك كانت القضيّة تعيش كتماناً شديداً من هذه الناحية.
حتى أنّ الإمام الهادي سلام الله عليه يروي عنه الثقة الجليل أبو القاسم الجعفري داود بن القاسم الرجل العظيم الثقة الجليل ويقول : سمعت أبا الحسن ـ يعني الإمام الهادي عليه السلام ـ يقول : « الخلف من بعدي الحسن ابني ، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف ؟ » فقلت : ولم جعلني الله فداك ؟ فقال : « إنّكم لا ترون شخصه ولا يحلّ لكم ذكره باسمه » ، فقلت : فكيف نذكره ؟ قال : « قولوا الحجة من آل محمّد » (10).
على اي حال ، رغم هذا التعتيم الإعلامي الذي حاول الأئمة عليهم السلام أن يقوموا به رأى الإمام المهدي عليه السلام جماعة من الشيعة.
ينقل الشيخ الكليني عن محمد بن عبد الله ومحمد بن يحيى جميعاً عن عبد الله بن جعفر الحميري.
وهذا السند في غاية الصحة والوثاقة ، فالشيخ الكليني معروف إذا حدّث هو مباشرة بكلام يحصل من نقله اليقين ، ومحمد بن عبد الله هو محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري من الثقات الأجلّة الأعاظم ، ومحمّد بن يحيى العطار هو استاذ الشيخ الكليني من الأعاظم الأجلّة ، فاثنان من أعاظم مشايخ الكليني الكبار ينقل عنهم ، وعبد الله بن جعفر الحميري معروف بالوثاقة والجلالة.
يقول عبد الله بن جعفر الحميري : اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو (11) عند احمد بن اسحاق (12) ، فغمزني أحمد بن اسحاق أن أساله عن الخلف ، فقلت له : يا ابا عمرو إني أريد أن أسالك عن شيء وما أنا بشاك فيما أريد أن أسألك عنه ، فإنّ اعتقادي وديني أنّ الأرض لا تخلو من حجّة ، ... ولكن أحببت أن أزداد يقيناً ، فانّ إبراهيم عليهالسلام سأل ربه عزوجل أن يريه كيف يحيي الموتى فقال : أولم تؤمن ؟ قال : بلى ولكن ليطمئنّ قلبي ، وقد أخبرني أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن ـ يعني عن الإمام الهادي عليه السلام ـ قال : سألته وقلت : من أعامل ؟ وعمّن آخذ وقول من أقبل ؟ فقال : « العمري ثقتي ، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع ، فإنه الثقة المأمون » ، وأخبرني أبو علي أنّه سأل ابا محمّد عليه السلام ـ يعني الإمام العسكري عليه السلام ـ عن مثل ذلك ؟ فقال : « العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك فعنّي يؤدّيان وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنهما الثقتان المأمونان » ، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك ، قال : فخرّ أبو عمرو ساجداً وبكى ثم قال : سل حاجتك ، فقلت له : أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمد ؟ ـ يعني من بعد العسكري ـ فقال : « إي والله ... فقلت له : فبقيت واحدة ، فقال لي : هات ، قلت : الاسم ؟ قال : محرّم عليكم أن تسألوا عن ذلك ، ولا أقول هذا من عندي ، وليس لي أن أحلّل ولا أحرم ، ولكن عنه عليه السلام ، فإنّ الأمر عند السلطان أنّ أبا محمد مضى ولم يخلّف ولداً وقسّم ميراثه ... فاتقوا الله وامسكوا عن ذلك » (13).
فهل هذه الرواية قابلة للاجتهاد من حيث الدلالة ؟
انها من حيث الدلالة صريحة ، ويتمسّك بها الأصوليّون في مسألة حجيّة خبر الثقة ، وقد ذكر السيد الشهيد الصدر في أبحاثه أنّ هذه الرواية لوحدها تفيدنا اليقين ـ وقد ذكر ذلك لا بمناسبة الإمام المهدي ، بل بمناسبة حجية خبر الثقة ـ اذ هناك إشكال يقول ان هذه الرواية هي خبر واحد فكيف نستدل بها على حجيّة خبر الواحد ؟ ما هذا إلاّ دور في هذا المجال ، وكان السيد الشهيد يريد أن يثبت أنّ هذه الرواية تفيد اليقين ، لأنّ الشيخ الكليني كلّما ينقل ويقول : أخبرني ، فلا نشك في اخباره ، والذي أخبره هو محمد بن عبد الله ومحمد بن يحيى العطار ، وهما من أعاظم الشيعة لا نحتمل في حقّهم أنّهم كذبوا أو أخطأوا ويحصل القطع من نقلهما ، وهما ينقلان عن عبد الله بن جعفر الحميري الذي هو من الأعاظم ، وهو ينقل مباشرةً عن السفير الأول للإمام سلام الله عليه ، والسفير يقول : أنا رأيت الخلف بعيني.
فهذه الرواية لوحدها يمكن أن يحصل منها اليقين ، وهي واضحة في الدلالة على أنّه قد رئي الإمام صلوات الله وسلامه عليه.
وهناك رواية أخرى تنقل قصة حكيمة بنت الإمام الجواد سلام الله عليه ، وهذه القصة مشهورة ، ولكن لا بأس أن أشير إلى بعض مقاطعها ، وهي مذكورة في كتاب كمال الدين وغيره.
تنقل حكيمة : بعث إليّ أبو محمد سلام الله عليه سنة خمس وخمسين ومائتين في النصف من شعبان وقال : يا عمّة اجعلي الليلة إفطارك عندي فإنّ الله عزوجل سيسرّك بوليّه وحجّته على خلقه خليفتي من بعدي ، قالت حكيمة : فتداخلني لذلك سرور شديد وأخذت ثيابي عليّ وخرجت من ساعتي حتى انتهيت إلى أبي محمد عليه السلام وهو جالس في صحن داره وجواريه حوله ، فقلت : جعلت فداك يا سيدي الخلف ممّن هو ؟ قال : من سوسن ـ في بعض الروايات سوسن ، وفي بعضها نرجس ، وفي بعضها شيء آخر ـ وقلت أنّ هذه الاختلافات لا يمكن أن يتشبّث بها شخص ويقول هذه الروايات مردودة لأنها مختلفة ، فان هذا ليس له أثر ـ فأدرتُ طرفي فيهنّ فلم أرَ جارية عليها أثر غير سوسن ، قالت حكيمة : فلمّا صلّيت المغرب والعشاء أتيت بالمائدة فأفطرت أنا وسوسن وبايتّها في بيت واحد ، فغفوت غفوة ثم استيقظت ، فلم أزل مفكرة فيما وعدني أبو محمد من أمر ولي الله ، فقمت قبل الوقت الذي كنت أقوم في كلّ ليلة للصلاة ، فصلّيت صلاة الليل حتى بلغت إلى الوتر ، فوثبت سوسن فزعة وخرجت فزعة واسبغت الوضوء ، ثم عادت ـ يعني امّ الإمام المهدي عليه السلام ـ فصلّت صلاة الليل وبلغت الوتر ، فوقع في قلبي أنّ الفجر قد قرب ، فقمت لانظر فإذا بالفجر الأول قد طلع ، فتداخل قلبي الشك من وعد أبي محمد عليه السلام فناداني من حجرته : « لا تشكّي وكأنّك بالأمر الساعة » ، قالت حكيمة : فاستحييت من أبي محمد وممّا وقع في قلبي ورجعت إلى البيت خجلة ، فإذا هي قد قطعت الصلاة وخرجت فزعة ، فلقيتها على باب البيت فقلت : بأبي أنت وأمي هل تحسّين شيئاً ؟ قالت : نعم يا عمّة إنّي لاجد أمراً شديداً ، قلت : لا خوف عليك إن شاء الله ، وأخذت وسادة فألقيتها في وسط البيت وأجلستها عليها وجلست منها حيث تقعد المرأة من المرأة للولادة ، فقبضت على كفي وغمزت غمزةً شديدة ثم أنّت أنّة وتشهّدت ونظرت تحتها فإذا أنا بولي الله صلوات الله عليه متلقّياً الأرض بمساجده (14).
ونقل الشيخ الطوسي أيضاً في الغيبة حديثاً ظريفاً فقال :
جاء أربعون رجلاً من وجهاء الشيعة اجتمعوا في دار الإمام العسكري ليسألوه عن الحجة من بعده ، وقام عثمان بن سعيد العمري فقال : يابن رسول الله أريد أن أسالك عن أمر أنت أعلم به منّي ، فقال له : إجلس يا عثمان ، فقام مغضباً ليخرج ، فقال : لا يخرجنّ أحد ، فلم يخرج منّا أحد ، إلى أن كان بعد ساعة فصاح عليه السلام بعثمان فقام على قدميه فقال : أخبركم بما جئتم ؟ قالوا : نعم يا بن رسول الله ، قال : جئتم تسألوني عن الحجة من بعدي ؟ قالوا : نعم ، فاذا غلام كأنّه قطعة قمر أشبه الناس بأبي محمد ، فقال : هذا إمامكم من بعدي ، وخليفتي عليكم ، أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم ، ألا وانّكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتى يتمّ له عمر ، فاقبلوا من عثمان ما يقوله ، وانتهوا إلى أمره ، واقبلوا قوله ، فهو خليفة إمامكم والأمر إليه » (15).
هذه اربع روايات نقلتها لكم ، والروايات في هذا الصدد كثيرة جدّاً ، وحسبنا ما روي في رؤية الإمام الذي هو في الحقيقة يمكن أن يشكّل مقدار التواتر.
العامل الرابع
وضوح فكرة ولادة الإمام المهدي عليه السلام بين الشيعة ، فالذي يقرأ التاريخ ويقرأ الروايات يفهم أنّ الشيعة من الزمان الأول كانوا يتداولون فكرة الإمام المهدي وأنّه يغيب ، وكانت قضية واضحة فيما بينهم ، ولذلك نرى أنّ الناووسية ادعت أنّ الإمام الغائب هو الإمام الصادق عليه السلام ، ولكن بعد وفاة الإمام الصادق اتضح بطلان هذه العقيدة ، والواقفيّة ادعوا أنّ الإمام المهدي الذي يبقى هو الإمام موسى بن جعفر سلام الله عليه ، والفت النظر إلى ان هذا لا ينبغي سبباً لتضعيف فكرة الإمام المهدي ، بل بالعكس ، هذا عامل للتقوية ، لأنّ هذا يدل على أنّ هذه الفكرة كانت فكرة واضحة بين الأوساط ، ولذلك ينسبون إلى بعض الأئمة نسبة غير صحيحة وان هذا هو الإمام المهدي أو ذاك.
وإذا راجعنا كتاب الغيبة للشيخ الطوسي نجده يذكر بعنوان الوكلاء المذمومين عدّة ، منهم : محمد بن نصير النميري ، أحمد بن هلال الكرخي ، محمد بن علي بن أبي العزاقر الشلمغاني ، وغير ذلك إلى عشرة أو أكثر من الذين أدعوا الوكالة والسفارة عن الإمام كذباً وزوراً وخرجت عليهم اللعنة وتبّرأ منهم الشيعة.
وهذا العامل أيضاً لا يكون سبباً لتضعيف فكرة الإمام المهدي وولادته وغيبته ، بل هذا في الحقيقة عامل للتقوية ، اذ يدلّ على أنّ هذه الفكرة كانت واضحة وثابتة ، لذلك ادعى هؤلاء الوكالة كذباً وزوراً ، وخرجت البراءة واللعنة في حقهم.
إذن هذا العامل الرابع من عوامل حصول اليقين بفكرة الإمام المهدي عليه السلام.
العامل الخامس
ان قضية السفراء الاربعة وخروج التوقيعات بواسطتهم قضيته واضحة في تاريخ الشيعة ، ولم يشكك فيها أحد من زمان الكليني الذي عاصر سفراء الغيبة الصغرى ووالد الشيخ الصدوق علي بن الحسين وإلى يومنا ، انه لم يشكك أحد من الشيعة في جلالة هؤلاء السفراء ولم يحتمل كذبهم ، وهم أربعة :
الأول : عثمان بن سعيد أبو عمرو ، الذي قرأنا الرواية المتقدمة عنه ، وكان عثمان بن سعيد السمّان يبيع السمن في الزقاق ، وكانت الشيعة توصل له الكتب والأموال فيضعها في الزقاق ، حتى يخفي القضية ثم يوصلها إلى الإمام ، وكان هذا وكيلاً عن الإمام الهادي وعن الإمام العسكري وبعد ذلك عن الإمام الحجة صلوات الله عليهم.
الثاني : محمد بن عثمان بن سعيد.
الثالث : الحسين بن روح.
الرابع : علي بن محمد السمري.
هؤلاء أربعة سفراء أجلّة ، خرجت على أيديهم توقيعات ـ استفتاءات ـ كثيرة ، نجد جملة منها في كمال الدين ، وفي كتاب الغيبة ، وكتب أخرى.
ان هذه السفارة والسفراء الذين ما يحتمل في حقّهم الكذب ، وخروج هذه التوقيعات الكثيرة بواسطتهم هو نفسه قرينة قويّة على صحة هذه الفكرة ، أي : فكرة ولادة الإمام المهدي ، وعلى أنّه غائب صلوات الله وسلامه عليه.
العامل السادس
تصرّف السلطة ، فان تاريخ الإماميّة وغيرهم ينقل أنّ المعتمد العباسي بمجرّد أن وصل إلى سمعه أنّه ولد للإمام مولود أرسل شرطته إلى دار الإمام وأخذوا جميع نساء الإمام واعتقلوهنّ حتى يلاحظوا الولادة ممّن ؟ طبيعي بعض التاريخ ينقل أنّ القضية كلها كانت بإرشاد جعفر عمّ الإمام المهدي ، وهذا غير مهمّ ، فان نفس تصرّف السلطة قرينة واضحة على أنّ مسألة الولادة ثابتة ، وإلاّ فهذا التصرف لا داعي إليه.
العامل السابع
ان كلمات المؤرّخين وأصحاب التاريخ والنسب من غير الشيعة واضحة في ولادة الإمام المهدي ، منهم :
ابن خلكان قال : أبو القاسم محمد بن الحسن العسكري ، ثاني عشر الأئمة الإثني عشر على اعتقاد الإمامية ، المعروف بالحجة ، كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين (16).
والذهبي قال : وأما ابنه محمد بن الحسن الذي تدعوه الرافضة القائم الخلف الحجة ، فولد سنة ثمان وخمسين ، وقيل : سنة ست وخمسين (17).
وابن حجر الهيتمي قال : ولم يخلّف ـ يعني الإمام العسكري ـ غير ولده أبي القاسم محمد الحجة ، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين (18).
وخير الدين الزركلي قال : ولد في سامراء ، ومات أبوه وله من العمر خمس سنين (19).
إلى غير ذلك من كلمات المؤرخين العامة ، وهي تشكّل قرينة على صحة هذه القضية.
العامل الثامن
تباني الشيعة واتفاقهم من زمان الكليني ووالد الشيخ الصدوق وإلى يومنا هذا على فكرة الإمام المهدي عليه السلام وغيبته ، وفي كل طبقات الشيعة لم نجد من شكك في ولادة الإمام وفي غيبته ، وهذا من أصول الشيعة وأصول مذهبهم.
---------------------