الوزير والبرلماني السابق مفيد الجزائري: ساعدني طالب فلسطيني في خوض معركة اللغة التشيكية الغريبة (الحلقة 6)

كل الاراء والمعلومات الواردة في الحوارات المنشورة في هذه الصفحة تعبر عن وجهات نظر قائليها وعن المعلومات التي يفيدون بها وبالتالي فهي قابلة للنقاش والاختلاف والحوار في فضاء حر تتبناه الجريدة وتتعهد بتأمينه لجميع المناقشين والمختلفين.
قابله: توفيق التميمي
تجاوز السبعين من عمره ولكنه يعتقد بان موعد كتابة مذكراته وتسجيل احداث سيرته المثيرة لم يحن بعد، يسكنه شعور بانه مازال قادراً على اداء ادوار مهمة لبلاده وان كان خارج مواقع المناصب الحكومية .
وزير الثقافة والبرلماني السابق مفيد الجزائري، الذي ولد في قرية عراقية نموذجية على ضفاف الفرات في جنوب مدينة الحلة يتوسطها مرقد الامام الحمزة وتحيطها البساتين واشجار النخيل من كل صوب، كانت معاناة الفلاحين وصعوبة حياتهم الصدمة الاولى التي تلقاها لتكون رافدا من روافد الهامه الثقافي والادبي ومن ثم السياسي لاحقا، اطلع عن كثب على احوال هؤلاء الفلاحين والظلم الذي وقع عليهم، لان اغلبهم زبائن على دكان ابيه الحاج محمد ذلك الأب الذي كان له الدور الاستثنائي في توجهات اولاده نحو الثقافة والتسامح والالتزام بقضايا الوطن والتضحية من اجلها، لتفرده عن اقرانه القرويين بالكثير من الخصال والمزايا، فهو اول قروي يدخل ابنته في المدرسة واول من ادخل الغرامفون الى منزله في حادثة سوف لاتنساها ذاكرة الجزائري الطفولية كما منحهم اسماء لم تألفها القرية من قبل كمفيد ومفيدة وحياة وغيرها.
السنوات التي قضاها في قرية المدحتية تلقن فيها الدروس الاولى للتعاطف مع آلام الفلاحين الذين استوحى منها ثيمة قصته الاولى التي فاز بها بالجائزة الاولى لمجلة فنون وهي اشهر مجلة في ذلك الوقت ،وكانت هذه الجائزة بوابة دخوله الى عوالم العاصمة بغداد والتعرف على وجوهها الثقافية والأدبية.
النشأة التربوية الاولى الميالة للتسامح وحب الثقافة والانفعال باحداث العالم السياسية وطقوس العزاء الحسيني كانت من اهم
المحركات لوعي سياسي مفارق للسلطة القائمة والسلطات التي ستعقبها.
واقعتان تاريخيتان لهما حضورهما الكبير في سيرته وتوجهه السياسي لاحقا:
الاولى فيضان بغداد، والثانية تزوير الانتخابات من قبل الحكومة السعيدية والتي وقعتا في العام 1954.
بدأت الملاحقة والمطاردة تضلل حياته منذ كان طالبا في المرحلة الثانوية وكاد يدخل معسكرات اعتقال فتخفى هاربا وهو لم يبلغ العشرين من عمره .
مع فجر الرابع عشر من تموز بدأ فصل جديد من حياته وتحقيق احلامه في العام الاول من الثورة رشح في وفد اعلامي لزيارة الصين الشعبية وكان اصغر اعضاء الوفد سنا كما يذكر ذلك صالح دكلة في مذكراته عن تلك الزيارة ، ومنذ ذلك التاريخ وقبله بقليل كان الجزائري يشيد سيرة اعلامية خصبة مع نخبة الصحافة العراقية وروادها .
انقذته الاقدار من قبضة الحرس القومي الهمجية التي طالت رفاقه واصدقاء حزبه الذي انتمى اليه بمفارقة غريبة وهو في بلاد الجيك التي وصلها للعمل كمذيع في القسم العربي باذاعة براغ ،وكانت مرحلة الجيك مرحلة خصبة ومهمة وفاصلة في حياة مفيد الجزائري.
قضى فيها من السنوات اكثر مما قضاه في بلاده ولذا هو يشعر بانه ثنائي المواطنة فهو جيكي من ناحية وعراقي من الناحية الثانية .
شعوره بالذنب لبقائه طويلا خارج بلاده وعدم الاسهام باحداثها جعله ينتظر الفرصة المناسبة للعودة الى بلاده للتحرر من هذا الشعور بالتقصير فكانت رحلة العودة الى اقليم كردستان التي وصلها مقاتلا ضد الدكتاتورية الصدامية مطلع ثمانينيات القرن السابق ضمن فصائل الانصار والتي عمل فيها اعلاميا ومقاتلا في نفس الوقت ،كانت تجربة فريدة في حياة عدها الجزائري من اهم التجارب التي عرفها رغم سيرته المليئة بالمغامرات والمخاطرات والتغرب.
كانت تجربته في الوزارة والبرلمان ما بعد سقوط الدكتاتورية جزءا من سيرته الثقافية والاعلامية ومنسجمة مع هويته التي تشكلت عبر مخاضات طويلة من السنوات في العراق وخارجه
اعتبرت فترة وزارته للثقافة ما بعد سقوط الدكتاتورية مباشرة ،فترة استثنائية في تاريخ وزارات الثقافة العراقية ولكنها لم تستمر طويلا بسبب نظام المحاصصات الذي حكم العملية السياسية ما بعد الدكتاتورية
محطات متعاقبة ومتحولة من الآلام الى الفرح ومن عذاب المطاردة ورعبها الى مشوار الغربة الطويل ،ستكشف ذاكرته جزءاً منها في هذه الشهادة وسيدخر القسم الاخر منها لمذاكرت ينوي كتابتها مستقبلا:

حياتي في بلاد الجيك
اثنتان وعشرون سنة، بين خريف 1960 وخريف 1982، ما كان اطولها .. وما كان اقصرها! تعاقبت سنواتها وئيدة مديدة، تفاجئ القادم مثلي من عراق ذلك الزمن المضطرب والمتأرجح بين بواعث الأمل والقلق، والذي كان يصارع لمجرد ان يضع قدما على بداية طريق الالف ميل نحو تجاوز التخلف والسعي الى التقدم .. تفاجؤه كل يوم بالجديد والغريب والمثير والمحيّر، حتى ليعجز عن المواكبة والرصد والاستيعاب!
كل ما هو معتاد ومألوف صار آنذاك، في السنة الاولى لحياتي الجديدة في براغ، في عداد الماضي. في الطقس، في الأكل، في اللغة، في السلوك، في العمل، في طريقة العيش واسلوب الحياة، في تنظيم الامور، في العلاقات بين الناس، في القيم، في اللباس، في النظر الى الامور، في الموقف من المرأة، في التعامل مع الاشياء والظواهر .. وفي كل شيء.
كم يحتاج الانسان من الوقت ليعيد تكييف نفسه ويتأقلم مع واقع جديد مغاير تماما؟ سنة؟ سنتين؟ اكثر، او اقل؟ الاجابة اصعب مما كنت اتصور. واتذكر اني كنت اكتشف في كل مرة خطأ اعتقادي قبل ذلك بأشهر او بسنة، اني قطعت شوطا كبيرا في مقاربة البيئة الجديدة والتعرف على وجوهها وادراك جوانبها الأعمق نسبيا. ولا اتحدث هنا بالطبع عن تقبل تلك البيئة، اوالتواؤم معها.

اللغة الغريبة
اصطدمت، اول ما اصطدمت، بجدار اللغة. التشيكية التي تنتمي الى عائلة اللغات السلافية، اسوة بالروسية والاوكرانية والبلغارية والبولونية والصربية والكرواتية والسلوفاكية والسلوفينية وغيرها، هي حقا جدار عال بالنسبة الى العراقي الذي لا يجيد سوى لغته الأم - العربية، ولا يعرف بجانبها سوى القليل من الانجليزية. فهي غريبة عليه تماما، وليس فيها ما يمكن ان يذكره بالانجليزية سوى حروفها اللاتينية، كما ان نطق بعض حروفها صعب حقا على من لم يتعلمه منذ الصغر. فضلا عن ان نحوها معقد وثقيل، يجعل دارسه يترحم على سيبويه وسواه من النحاة العرب الرواد!

عربيد كان السبب
واعترف انني لم اكن لاحاول تجاوز هذا الجدار لولا ذلك الرجل الغريب ذو الاسم الاغرب، الذي وجدته امامي في القسم العربي لاذاعة براغ، وقد قدموه لي باعتباره العربي الذي يجيد التشيكية، والذي بوسعي الاعتماد عليه في اداء واجبي اليومي، المتمثل في ترجمة الانباء ا