الناس كما تعلمون عندما يريد ان يكتب رسالة الى حاكم او سلطكان فانه يكتبها بعد تمعن وتفكير او يستعين بمن يعرف كيفية كتابة الرسائل الرسيمة حيث انها تحتاج الى لفاظ مهذبة وموزونة وكلام مضبوط ، والائمة ( عليهم السلام ) يعلموننا كيفية التخاطب مع الله ومناجات الرب سبحانه وتعالى ، فلنتدبر فيها ، فانها تكرس في نفوسنا حب الل وتقديره.
2 ـ النوافل وقيام الليل :
اواخر الليل وقرب الفجر من الذ اوقات النوم والراحة ، فحتى الذين يسهرون اوائل الليل لا يستطعيون مقاومة جاذبية النوم اواخره ، اما النائم فعمق نومه وذروته يكون في هذه الفترة ...
ولا يغادر الانسان فراش نومه ويتخلى عن راحته في هذا الوقت الا لامر لازم ومهم كالام التي تهب لارضاع طفلها ورعايته مقاومة اغراء الراحة وجاذبية النوم ويعتبر ذلك من المظاهر المهمة لعطف الامومة والتضحية من اجل الولد .. او حينما يحدث شيء طارئ للانسان يضطره للسهر في ذلك الوقت ..
ولكن الانسان المؤمن يقوم من طوعه واختياره تاركاً نومه وراحته ليس استثناء وفي بعض الليالي وانما هو برنامجه الليلي الثابت .. فحين يغط الناس في سبات عميق ويلف الظلام الحياة والاشياء ويسيطر الهدوء والسكون على الاجواء وقبل ان تبدأمعركة خطيوط نور الفجر مع ظلمة الليل يكون المؤمن على موعد مع الله للخلوة به ومناجاته ..
انه لقاء الهي خاص لا يحظى به الا المحبون لله الصادقون في حبهم .. وهل يكون صادقاً في حبه من يرفض اللقاء والخلوة بحبيبه .. يقول الله تعالى في حديث قدسي اوحاه الى نبيه موسى بن عمران ( عليه السلام ) :
« يا ابن عمران! لو رأيت الذين يصلون لي في الدجى ، وقد مثلت نفسي بين اعينهم ، وهم يخاطبوني ـ وقد جليت عن المشاهدة ـ ويكلمونني ـ وقد تعززت عن الحضور ـ.
يا ابن عمران! كذب من زعم : انه يحبني ، فاذا جنه الليل نام عيني ، اليس كل محب يحب خلوة حبيبه ؟ (1).
ولصلاة الليل وقيام السحر فضل كبير وشأن عظيم تتحدث عنه الايات والروايات وهذه لقطات منها :
ـ قال تعالى : ( ان ناشئة الليل هي اشد وطأ واقوم قيلا ) (2) ،
فقد يكون سهلاً على الانسان في غمرة نشاطه اليومي اداء عدة ركعات ولكن ان يفارق فراش نومه في اعز اوقات الراحة والنوم ليؤدي صلاة الليل انها اشد وطأ على النفس وهي بذلك اصدق مظهر للايمان.
ـ ومن ابرز صفات المتقين التي استحقوا بها نعيم الجنة احياء الليل بالعبادة ومناجاة الله في السحر يقول تعالى :
( ان المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم انهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالاسحار هم يستغفرون ) (3).
ـ وعن النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « خير وقت دعوتم الله فيه الاسحار » (4).
-----------------------
1 ـ كلمة الله : ص 270.
2 ـ سورة المزمل : ـ 7.
3 ـ سورة الذاريات : 15 ـ 18.
4 ـ سفينة البحار : ج 1 ص 604.
ـ وعنه ( صلى الله عليه وآله ) : « ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل خير له من الدنيا وما فيها ولولا ان اشق علي امتي لفرضتها عليهم » (1).
ـ وقال ( صلى الله عليه وآله ) : « عليكم بقيام الليل فانه دأب الصالحين قبلكم وان قيام الليل قربة الى الله تعالى وتكفير للذنوب ومطردة للداء عن الجسد ومنهاة عن الاثم » (2).
فالله الغفور الرحيم ينظر الى عبده قائماً بين يديه في جنح الظلام يسأله العفو عن ذنبه الا يغفر له ؟ بلى ان قيام الليل تكفير للذنوب وخلافاً لما يظنه الانسان من اصابه جسمه بالتعب والعناء لقيام الليل فان الحديث الشريف يعتبره سبباً للصحة وازالة المرض « مطردة للداء عن الجسد » ومن يغسل قلبله بالتوبة كل ليلة بين يدي الله ويحاسب نفسه على ماعمل هل يقترب نحو الاثام والذنوب ؟ كلا ان قيام الليل منهاة عن الاثم.
وفي وصيته ( صلى الله عليه وآله ) لابي ذر الغفاري ( رضوان الله عليه ) قال : « وصل ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور » (3).
ان يعمر ظلام الليل بعبادة الله ويشق سكونه الموحش بمناجاة الله فان الله الكريم سيكافئه بانارة قبره ورفع الوحشة عنه هناك .. فهل فكرنا في ظلمة قبورنا ووحشتها ؟ وهل نسعى لاضاءة الشموع في لحودنا ؟ ولتوفير اجواء المسرة والانس فيها ؟ ان كل ركعة نصليها في جوف الليل في حياتنا نوقد بها شمعة نور في قبورنا .. وان كل مناجاة تخشع بها قلوبنا في عتمة السحر ستصبح منبع راحة وهناء لنا تحت طبقات الارض بعد الموت ..
ـ ولمحبة الله لعبده المؤمن ورغبته في لقائه فانه يوجه له العتاب الشديد ان
--------------------------------------------------
1 ـ المحجة البيضاء : ج 1 ص 388.
2 و 3 ـ المصدر السابق : ص 389.
تغيب ليلة عن حضور اللقاء .. كما يعاتب الواحد منا صديقه العزيز عليه ان تأخر عن اجابة دعوته .. فقد روى ان نبي الله يحيى بن زكريا ( عليه السلام ) شبع ليلة من خبز شعير فنام عن ورده حتى اصبح فاوحى الله اليه : يا يحيى اوجدت داراً خيراً لك من داري ؟ اوجدت جواراً خيراً لك من جواري ؟.
فوعزتي يايحيى لو اطلعت الى الفردوس اطلاعة لذاب شحمك ولزهقت نفسك اشتياقاً ، ولو اطلعت الى جهنم اطلاعة لذاب شحمك ولبكيت الصديد بعد الدموع ولبست الحديد بعد المسوح » (1).
ـ ولا يكفي المؤمن بقيامه هو وحده بل يشجع عائلته على قيام ليشركهم في برنامجه الروحي ، وليريبهم على العبادة والخضوع يقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « من استيقظ من الليل وايقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات » (2).
ـ واذا كان مقياس الوجاهة والشرف في دنيا المادة القدرة المالية للانسان وقربه من مواقع السلطة والحكم فان مستوى شرف المؤمن ووجاهته عند الله مدى تبتله لله في جوف الليل فقد قال جبرئيل ( عليه السلام ) في موعظته لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « شرف المؤمن صلاته بالليل » (3).
ـ روى فضيل بن يسار عن الامام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : « ان البيوت التي يصلي فيها بالليل بتلاوة القرآن ، تضيء لاهل السماء كما تضيء نجوم السماء لاهل الارض » (4).
ما اعظم كرم الله واجل لطفه انه يدعونا لعبادته ثم يوفقنا لاداء تلك العبادة ثم يجعل لتلك العبادة التي دعانا لها ووفقنا بمنه اليها قيمة وفضلاً عظيماً فسبحان الرب الكريم ..
----------------------------------------------------
1 و 2 و 3 ـ المصدر السابق : ص 390.
4 ـ المصدر السابق : ص 392.
اما لماذا يكون لقيام الليل هذا الفضل العظيم والعطاء الكبير فيمكننا استنتاج النقاط التالية :
اولاً : ان قيام الليل يوفر للانسان افضل فرصة لمحاسبة ذاته ولمراجعة اعماله ولاتخاذ القرارات الصائبة.
ثانياً : هدوء الليل وسكونه يساعد الانسان على الخشوع والتوجه الخالص لله دون ان تستقطب اهتماماته المشاغل الاخرى.
ثالثاً : انه انتصار لارادة الانسان على شهواته التي تدعوه الى الراحة والكسل وتدريب للنفس على الاستجابة لاوامر الله مهما كان الظروف.
ولكن كيف يتوفق الانسان للحصول على هذا الفضل والشرف وما هي العوامل التي تساعد الانسان لكي ينال هذا الوسام العظيم ؟
1 ـ التوجه الالهي : حينما تسيطر المادة على نفس الانسان وتفكيره ويهيم بمكاسبها ولذاتها فان ذلك سيكون على حساب الجانب المعنوي والروحي مما يضعف اندفاع الانسان نحو العبادات اما اذا كان قلبه مطمئناً بذكر الله ونفسه متوجهة الى عظمته فان العبادة وقيام الليل سيكون جزءاً لا يتجزأ من برنامج حياته بل تصبح اعز برامج حياته لديه.
فالمؤمنون الذين اطمأنت قلوبهم بذكر الله وانشرحت لانوار قدسه يجدون في العبادة وقيام الليل لذة لاتعد لها لذة ومتعة تتضاءل دونها كل شهوات الدنيا ومتعها.
قال احدهم : اذا غربت الشمس فرحت بالظلام لخلوتي بربي واذا طلعت حزنت لدخول الناس علي.
وقال آخر : اهل الليل في ليلهم الذ من اهل اللهو في لهوهم ولولا الليل ما احببت البقاء في الدنيا.
وقال بعض العلماء : لذة المناجاة ليس في الدنيا ، انما هو من الجنة اظهرها الله لاوليائه لايجدها سواهم.
فلنتوجه الى الله ولنعمر قلوبنا بحبه وعشقه والشوق الى رضوانه. ولنهتف دائماً وابداً بالفقرات الواردة في اواخر دعاء كميل :
« واجعل لساني بذكرك لهجا ، وقلبي بحبك متيما ».
2 ـ معرفة فضل صلاة الليل وقيامه من خلال الايات والروايات وكلمات الاولياء وسيرة الصالحين .. ففي قضايانا المادية نحن ندرك اثر الدعاية والتشجيع في ايجاد الرغبة نحو الامور والاشياء وكذلك الحال في القضايا الروحية المعنوية على الانسان ان يرغب نفسه بالاطلاع الدائم على الاحاديث والنصوص التي تذكر فضل الاعمال الروحية والعبادات الالهية .. ويجب الاستفادة من مختلف الوسائل لتشويق الناس الى العبادة ..
3 ـ خفة المعدة : فاذا تناول الانسان طعاماً كثيراً او ثقيلاً فان سيطرة النوم عليه ستكون اكثر .. اما اذا نام خفيف المعدة فيستطيع النهوض واليقظة بسهولة .. قال احد العباد لتلاميذته : « لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً فترقدوا كثيراً فتخسروا عند الموت كثيراً ».
4 ـ قراءة حياة الاولياء ومواقف تهجدهم في جوف الليل لتشجيع الانسان على الاقتداء بهم وتقليدهم في عبادتهم ومناجاتهم ولنذكر موقفاً واحداً من المواقف التي سجلتها لنا ذاكرة التاريخ لعبادة احد الاولياء الطاهرين وهو الامام زين العابدين علي بن الحسين ( عليه السلام ) :
يقول طاؤوس الفقيه : « رأيت علي ابن الحسين يطوف بالكعبة من العشاء الى السحر ويتعبد ، فلما لم ير احدا رمق السماء بطرفه وقال :
« الهي غارت نجوم سماواتك ، وهجعت عيون انامك ، وابوابك مفتحات للسائلين ، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمد ( صلى الله عليه وآله ) في عرصات القيامة.
ثم بكى وقال :
« وعزتك وجلالك ما اردت بمعصيتي مخالفتك ، وما عصيتك اذ عصيتك وانا بك شاك ، ولا بنكالك جاهل ، ولا لعقوبتك متعرض ، ولكن سولت لي نفسي ، واعانني على ذلك سترك المرخي به علي ، فالان من عذابك من يستنقذني ؟ وبحبل من اعتصم ان قطعت حبلك عني ؟ فواسوأتاه غداً من الوقوف بين يديك ، اذا قيل للمخفين جوزوا ، وللمثقلين حطوا ، امع المخفين اجوز ؟ ام مع المثقلين احط ؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم اتب ، اما آن لي ان استحي من ربي ؟!
ثم بكى وانشأ يقول :
اتحرقني بالنار ياغاية المنى اتـيت باعمال قباح زرية فاين رجائي ثـم اين محبــتي ومافي الورى خلق جنى كجنايتي
سبحانك تعصى كأنك لاترى ، وتحلم كأنك لم تعص ، تتودد الى خلقك بحسن الصنيع كأن بك الحاجة اليهم ، وانت ياسيدي الغني عنهم. ثم خر الى الارض ساجداً.
قال طاؤوس : فدنوت منه وشلت برأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتى جرت دموعي على خده ، فاستوى جالساً وقال :
من الذي اشغلني عن ذكر ربي ؟
فقلت : انا طاؤوس يا ابن رسول الله ماهذا الجزع والفزع ؟ ونحن يلزمنا ان نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون ، ابوك الحسين ابن علي ، وامك فاطمة الزهراء وجدك رسول الله ؟ !!
فالتفت الي وقال : هيهات هيهات يا طاؤوس دع عنك حديث ابي وامي وجدي خلق الله الجنة لمن اطاعه واحسن ، ولو كان عبداً حبشياً ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشياً اما سمعت قوله تعالى : ( فاذا نفخ في الصور فلا انساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) ؟ والله لا ينفعك غدا الا تقدمة تقدمها من عمل صالح (1).
-------------------------------
1 ـ البحار : ج 46 ص 81.