إرهاصات الزمن الثالث
بانواما الشرق الاوسط
حسن شقير
لم تتأخر إرهاصات الزمن الصهيوأمريكي الثالث ( زمن التكيّف ) ، عن الظهور شيئاً فشيئاً في أدبيات كل من الساسة الصهاينة ومعهم الأمريكيين ، ولعل هذا التسارع فرضته التطورات الميدانية السياسية منها والعسكرية أيضاً ، الأمر الذي كانت من دلالاته ، أن زمن التكيّف عند هذين الحليفين ، قد تكرّس واقعا في أدبياتهم السياسية ، التي سرعان ما انعكست وتمظهرت في مجموعة من الخطوات والإجراءات التي اتخذها وسيتخذها هؤلاء .. والهدف هو هو في البحث عن الأمن الصهيوني التائه على الدوام .
نسق الأمن والعسكرة
بالأمس القريب ، صدرت من الكيان الصهيوني ، ومن ثم من أمريكا ، مجموعة من الإشارات ، على شكل تصريحات لعدد من المسؤولين لديهما ، توحي بأن خطوات وإجراءات زمن التكيّف الصهيوني – والذي أشرنا إليها في المقالة السابقة – ، قد وُضعت فعلياً على سكة التنفيذ ، فضلا ً عن أن التنسيق ما بين الطرفين قد تم بالفعل ، في الزيارات المتبادلة بينهما .. فها هو أوباما يعلن بنفسه عن تقديم الدعم المادي ” السخي ” لدول الجوار السوري ، وذلك في سبيل مكافحتها للإرهاب ، وقد خص بالذكر العراق ، والأردن ، ولبنان ،وقد أرفقها بمزيد من الوعود لدعم ما يُسمى بالمعارضة السورية المعتدلة ، وقد سبق ذلك كله الكشف عن تقرير استخباراتي تدوالته وسائل الإعلام عن تزايد المخاوف الأمريكية من تنامي القدرات العسكرية والمهاراتية لدى حزب الله بفعل اشتراكه بالحرب السورية ، فضلا ً ، عمّا تحث عنه التقرير ، بأن أمريكا ستعمل على منع ” تعدد نماذج حزب الله في المنطقة ”
لم يبتعد المقلب الصهيوني عن الأمريكي في تزايد الخشية من نتائج وتداعيات الحرب على سوريا ، حيث عبّر موشيه يعلون ، قبل فترة وجيزة ، أنه ” ليس من السعادة أن تقتل عدوك بنفسك ، إنما السعادة أن يقتل عدوك نفسه بيده ، أو بيد أخيه ، ولأجل ذلك سنعمل على تشكيل مليشيات .. فتلك هي استراتيجيتنا الجديدة في المنطقة ” .
لقد كشف مؤخراً في لبنان عن تقرير صادر عن بعض الأجهزة الأمنية اللبنانية ، عن متابعتها ورصدها لبعض الشبكات الأمنية في لبنان ، والتي يعمل الكيان الصهيوني على إحيائها وتجديد نشاطها ، وهذا بالضبط ما كنا حذرنا منه في مقالة ” ميادين العدوان على سوريا .. ما بعد النكبات ” ، وذلك في معرض تسليط الضوء الصهيوني على العلاقة ما بين اللاجئين السوريين والمقاومة ، وذلك في حديث المسؤول الإستخباراتي الصهيوني عن الملف اللبناني ، المدعو ” العقيد روعي ” ، وقد جاء ذلك ضمن مقابلة موجودة في صحيفة يديعوت أحرونوت بتاريخ 14-04-2014، والتي أجراها المحلل العسكري رون بن يشاي مع مسؤولي الجبهات في الاستخبارات العسكرية .
نسق السياسة
بعيد فشل إتفاق الإطار التي سعت إليه الإدارة الأمريكية مع الجانبين الفلسطيني والصهيوني ، وتوقف المفاوضات السياسية المباشرة بينهما ، ومع تقدم ملف المصالحة الوطنية الفلسطينية ، وعلى أبواب إعلان حكومة المصالحة والوحدة الوطنية الفلسطينية .. وبعد ذاك التأنيب الشديد لمسؤولة ملف المفاوضات في الكيان الصهيوني ، تسيبي ليفني ، عقب لقائها مؤخراً الرئيس عباس ، دون تنسيق مع نتنياهو ، الذي اعتبر الخطوة أحادية وغير مقبولة …مع كل تلك التطورات ، تعالت في الكيان الصهيوني أصوات من مواقع مقربة من نتنياهو تنادي باتخاذ المزيد من الإجراءات الأحادية الجانب مع السلطةا الفلسطينية ، وذلك لتشديد الضغط والعقوبات على السلطة بعد موقفها الأخير ، وتخييرها ما بين حماس ، أو الكيان ….
لم يبتعد الموقف الأمريكي عن سابقه الصهيوني ، فلقد كان لافتا للإنتباه تجنب الرئيس الأمريكي في خطابه مؤخراً ، لأي ذكر لعملية التسوية والمفاوضات برمتها ، لا بل أن التجاهل لدى الإدارة الأمريكية هي سمة المرحلة … على الرغم عما يُقال عن احتمال حدوث لقاء جديد بين كيري والرئيس عباس في عمان هذا الأسبوع ، والذي ربما لا يكون مضمونه ساراً للمفاوض الفلسطيني ، خصوصاً إذا ما تُوجت المصالحة بإعلان الحكومة الفلسطينية الجامعة …
لا يبتعد عن هذا النسق ، التطور الأخير الذي استجد على الموقف الأردني من طرده للسفير السوري – على الرغم من استعداد المملكة لإستقبال سفير أخر – ، وما حُكي عن ضغوط على الأردن لتعديل مواقفه من الحرب على سوريا ، أقله من الناحية السياسية ، وذلك تناسقا مع الموقفين الأمريكي والصهيوني ، ودول ما يُسمى بأصدقاء الشعب السوري .
نسق الإقتصاد
قبيل فشل جولة التفاوض الأخيرة ، وإسدال الستار الأمريكي عن مشروعه المرحلي للحل ، فيما عُرف بإتفاق الإطار ، كان التوجه الأمريكي في مرحلة التسويق تلك ، يسوّق لدى الصهاينة رافعة من روافع المكر الأمريكي ، بجعل الضفة الغربية نموذجاً إقتصادياً ، يصبح فيه مستوى المعيشة للشباب الفلسطيني ، أنموذجاً ، يمثل أمام نظرائهم الغزيين ،
مما يجعل- برأي أوباما – على حد ما نقل عنه محللين صهاينة في مؤتمر سابان الذي عقد مؤخراً في أمريكا ، الأمر الذي يفقد الشباب الغزاوي الحماسة لمنطق المقاومة ! والتوجه نحو النموذج الضفاوي ! وكل ذلك بحسب ما يراه أوباما.
مع فشل المفاوضات وتعثرها ، يبدو أن هذه الإستراتيجية ، قد وُأدت في مرحلتها الجنينية … لا بل أن النسق الحالي الصهيوأمريكي ، يتجه إلى مزيد من التشدد مع المفاوض الفلسطيني ، وذلك بالضغط عليه من خلال السير بتلك الإستراتيجية التي طرحها أوباما ، ولكن بشكل معكوس ، بمعنى نقل النموذج الغزي إلى الضفة الغربية ، وتحديداً، فيما خص الحصار الإقتصادي ، والتلويح بالعائدات المالية ، ووقف ، أو تقطير المساعدات الأمريكية لمناطق السلطة الفلسطينية ،كإجراء عقابي ، مع التمسك المطلق بمنطقة غور الأردن المحتلة ، وما يستتبع ذلك من تداعيات إقتصادية وسياسية وحتى أمنية .. فيما يبدو أنه مقدمة لتطبيق استراتيجية الأمن الغذائي في قطاع غزة ،على الضفة الغربية ، وهذه الاستراتيجية. توصل إلى الكشف عنها الباحثان رامي زريق وأن غوف ، في كتاب صدر لهما مؤخرا تحت. عنوان” السيطرة على الغذاء ، السيطرة على الشعب : الكفاح من أجل الغذاء في غزة ” ، فهل يحمل كيري ذاك التهديد معه إلى الرئيس عباس ، في لقائهما المرتقب ؟ وخاصة إذا كانت الحكومة الفلسطينية الوطنية الجامعة ، قد أبصرت النور … الأمر كفيل بالمتابعة .
نسق المذهبية والطائفية
لعله من الإنجازات الكبرى التي حققتها سوريا – الدولة ، ومعها المقاومة ومحور الممانعة بأكمله ، أن هؤلاء جميعاً قد حققوا انتصاراً باهراً وعظيماً ، لا يُستهان أبداً بأهميته ، أو بتراتبيته عن النصر العسكري في الميدان ، ألا وهو إفشال المخطط الصهيوأمريكي ، الذي حيكت خيوطه بعناية طوال مدة الحرب المفروضة على سوريا ، والمتمثل في جعل المجموعات الإرهابية جزءً لا يتجزأ من الأمة الإسلامية ، لا بل أن هذه العصابات ، ستشكل الأمل في رفع ” الضيم والغبن ” السياسي عن كاهل الشعب السوري ، وكذا الشعب العراقي ، وحتى بعض من الأطياف اللبنانية أيضاً … لقد فشل هذا المخطط ، جملة وتفصيلا ً ، وانكشف زيف تلك المجموعات ، ولفظتها الأمة الإسلامية بجميع مذاهبها ، وفي مقدمتهم من كانوا عنوانا لرفع ما سمي بالغبن والضيم عنهم .. لعل هذا الإنجاز الإستراتيجي ، جعل من هذه العصابات تفقد الغاية من بثها في جسد الأمة … مما جعل من مشغيلها الفعليين ،من أوائل المتبرئين منهم ومن أفعالهم .. في لعبة أمم لا ترحم الحلقة الأضعف والخاسرة فيها .
كلام الرئيس أوباما الأخير حول دعم المعارضة العسكرية المعتدلة بوجه الدولة السورية من جهة ، والعصابات الإرهابية من جهة أخرى ، ناهيك عن توسيع دائرة الدعم للدول المجاورة لسوريا في إطار حربها على الإرهاب ، ربما يهدف فيما يهدف إلى التعويض عن الهزيمة أعلاها، إلى تحويل استخدام هذه الجماعات لضربها بالجيوش ، أو ما تبقى منها ، ومنع هذه الجيوش – وخصوصاً تلك المحسوبة بعقيدتها على محور الممانعة – من دراسة نموذجي الجيش السوري ، الذي أعيد تشكيله ، ونموذج حزب الله ما بعد معركته في سوريا … هذه فرضية واقعة ، لأن أوباما تحدث صراحة عن منع قيام نماذج لحزب الله في المنطقة ، وذلك معطوفاً على ما ذكرناه أعلاه عن استراتيجية يعلون في تشكيل ملشيات تقاتل بعضها البعض … وربما أيضاً تهدف أمريكا – من تبرؤها من العصابات الإرهابية وإعلان الحرب الأمريكية عليها – ، إلى إعادة تعويمها في الشارع الإسلامي ، وربما تكون محاولة متجددة لتلميع مشروعها من جديد في الشارع الإسلامي ! كونها تناصب أمريكا الحرب والعداء !
تكيّفٌ صهيوأمريكي ، لا شك أنه سيقابل بتكيّف ممانع ، يحاكي أنساقه ، والذي ستظهر معالمه في القريب العاجل ، فتلك هي ليست أكثر من دورة من دورات الصراع ، إلى حين ارتسام الوجه النهائي للنظام العالمي الجديد في المنطقة والعالم .
باحث وكاتب سياسي
خاص بانوراما الشرق الاوسط