الكتابة الغامضة تشبه الطاعون بعوالمه السرانية، الى هذا المعنى يذهب الناقد والروائي الكبير (ميلان كونديرا) في معرض تناوله لإشكاليات الرواية حيث يشير الى أن ( نظرية الرواية نظرية خفيفة ومسلية واي روائي ينظر هكذا يحافظ بحرص على لغته الخاصة ويتجنب لغة المتبحرين الغامضة كأنها الطاعون). هذه المقولة لا تمارس دلالاتها في إطار حصرها في سياق الخطاب الروائي وحسب، بل تتعدى ذلك لتشمل لغة الخطاب الأدبي ولغة الكتابة بشكل عام باعتبار الدالة الواضحة التي تتوجه حصرا الى اللغة، وما يعنينا في هذا التشبيه ـ أي تشبيه الكتابة ولغتها الغامضة بالطاعون ـ هو المستوى العميق الذي يؤشر دلالات الهلاك والموت الرمزي ضمنه، فالطاعون يقتضي مثل هذه الدلالات، لكن المثير في الأمر والذي يظهر مفارقته ان الدلالات تتوجه للكاتب ذاته دون ان تطال دائرة التلقي، اي انها تطال المسبب للطاعون، بذلك تمارس الكتابة دلالتها المزدوجة في إطار مفهوم التورية الذي يظهر شيئا ويحفز نقيضه في الآن ذاته، بمعنى ان الكتابة الغامضة التي أريد لها أن تكون دلالة على الوجود والحياة أظهرت دلالة مضادة هي العدم والموت بمعناهما الرمزي.انها لظاهرة لافتة ان تشهد الكتابة على موت أحدهم عندما يمارسها، وهي ظاهرة حقيقية وواقعية تماما، نشعر بمصاديقها في واقعنا الثقافي، وهي ظاهرة استشعرتها بهذا المعنى عندما قرأت مقال الشاعر زاهر موسى (نحو نص ثقافي) المنشور في ثقافية جريدة الصباح بتاريخ 19/ أيلول / 2011، والمقال يصلح أن يكون أنمِوذجا تطبيقيا لهذه الظاهرة لأنه نص انقطاع عن الكتابة وعن المعنى وبالتالي عن الحياة والواقع في الكتابة ـ بالنسبة لمن يؤمن بأن للكتابة حياتها وواقعها الخاصين ـ فالواقع والحياة في الكتابة بأبسط تعريفاتهما هما ما يمكن ان نفهمه، فاذا كان الواقع والحياة كذلك فإن ما لا نفهمه سيكون بالتأكيد هو اللا واقع واللا حياة واذا كان المعنى هو هدف تحقيق حياة الكتابة فان اللا معنى هو موتها، ولذلك فانه ليس من قبيل التجني او المبالغة القول بالموت الرمزي لكاتب ينتج نصوصا بلا معنى، مقال الشاعر زاهر موسى اشتمل هذه الصفات بامتياز، وذلك ما أشار اليه الناقد حسن السلمان في مقاله المنشور في ثقافية جريدة الصباح بتاريخ 25/ ايلول / 2011، والمعنون (نحو نص ثقافي أم كارثة ثقافية؟) والذي كشف فيه عن كيفية إنتاج الكاتب للكارثة الثقافية والكارثة ايضا تمارس الدلالة ذاتها في الإشارة الى إنتاج الخراب والهلاك الثقافي، وهو كشف موفق تماما للظاهرة باعتبارها نتيجة تترتب على النص، الا ان السلمان ومن منطلق موضوعيته النقدية استل استنتاجاته من داخل نص يفتقرالى أي موجه دلالي ولذلك فانه افترض ان النص يعاني من خلل في فهم النقد الثقافي وآلياته، وبناء على ذلك فانه استعرض تاريخية النقد الثقافي وذاكراته الاصطلاحية المشكلة له، ومن منطلق المعني بتطبيقات النقد الثقافي كشف عن انعدام امكانية تطبيق لغة التجريد النقدي وتذويبها داخل نطاق لغة النصوص الشعرية التي تعتمد الانثيالات والتكثيفات الرمزية وما الى ذلك مما هو معروف عن طبيعة تشكيل لغة الخطاب الشعري وهو ما أثبته السلمان في تناوله للنص المضطرب الموسوم (سلمان المنكوب) والمنشور ضمن مقال زاهر موسى المشار اليه باعتباره أنموذجا تطبيقيا وقد جاء أسوأ حالا من المقدمة والتي افترض الكاتب انها مقدمة نظرية للنص.أشرت الى أن ما كتبه موسى كان يفتقر الى الموجهات الدلالية التي تمكن المقاربة النقدية من إنتاج قراءة موضوعية حولها، وان حسن السلمان افترض في مقاربته ان نص زاهر موسى يعاني من أزمة وخلل في فهم وتمثل مفهوم النقد الثقافي، الأمر الذي يفسر عدم قدرته على توصيل مقصدياته بشكل واضح، وهذا لا يعني ان حسن السلمان لم ينتج قراءة موضوعية حول هذا النص، بل انه كان موفقا في تشخيص جزء من الأزمة الكتابية التي يعانيها النص، وأقول جزءاً لاعتقادي بان النص يعاني من أزمة شاملة في فهم عملية الكتابة بشكل عام، وهذا ما أقصده بفقدان الموجهات الدلالية مع كل الموحيات التي استخدمها زاهر موسى لتوجيه الوعي القرائي، انه بصدد الكتابة عن النقد الثقافي بدءا من العنونة وحتى المبثوثات المضطربة داخل النص.الأمر إذن لا يتعلق بعدم فهم الكاتب للنقد الثقافي وإخفاقه في التعريف به، فلو ان الأمر كان كذلك فان الدرس المعرفي الذي قدمه السلمان كان كفيلا بدفعه في سياق إعادة صياغة فهمه وتجاوز أخطائه، لكن الأمر يتعدى ذلك الى حدود أزمة الكتابة ذاتها والى الكسر العنيف لسياق اللغة وإنتاج طاعونها والى الزج العشوائي للمفاهيم والمصطلحات والى التنافر الحاد بين الدلالات بحيث انه يندر في عالم الكتابة ان نشهد على نص تقوم كل مفردة من مفرداته وكل مفهوم من مفهوماته بتقويض ونسف ما يليها على ما شهدناه في المذبحة المريعة التي أنتجها مقال (نحو نص ثقافي) على الرغم من انه مقال مبتسر والذي كان من المفترض ان يقلل ذلك الابتسار من خساراته الكثيرة التي لم يتمكن من تفاديها.في سياق ذلك يمكن الاستنتاج وبسهولة ان هذا النوع من الكتابة يندرج ضمن الكتابات التي لا تفكر ـ باعتبار ان هنالك وجودا لكتابات تفكر حسب تصنيف كونديرا ـ والتي (اي الكتابة التي لا تفكر) توجهنا الى انتاجها لنسق خطير يتعلق بدائرة الوهم الكبير والى الطفح الطاغي لتضخمات الأنا والا كيف يمكن أن نفسر هذا العداء للترابط الدلالي وانتهاك المعنى اذا لم يكن صادرا عن كتابة لم تجهد نفسها ولو لحظة في التفكير في أن لاجدوى من الكتابة بدون معنى، وكيف نفسر إقدام أحدهم على التلويح بأنه متمثل لنظرية نقدية ومنتج لنصوصها التطبيقية كما كان يلوح زاهر موسى في مقاله المذكور ان لم يصدر هذا الإقدام عن نسق الأوهام الكبيرة وفخاخ تضخمات الأنا.إن الأوهام الكبيرة تمتلك قابلية تغذية الشعور لدى من يقعون ضحاياها بان ما يكتبونه هو شيء عظيم مهما بلغت رداءة هذا الشيء وذلك لقابلية الوهم على حجب الرؤية وعرقلة مسارات الكشف وتوجيهها توجيها خاطئا يتجسد في تخطئة أحكام الآخرين على نتاجهم وعدم الاعتبار والأخذ بهذه الأحكام لأن النصوص العظيمة في تصورات الموهمين لنصوصهم هي النصوص التي تفتتح شفراتها في المستقبل وتمانع المواجهات النقدية، ومهما توافرت على ترسانة معرفية من الكشف عن دلالاتها والوقوع على شفراتها في الراهن، بل إن الأوهام تبلغ حدودا الى درجة إنتاج تصورات ان النصوص التي تمنح شفراتها في الحاضر هي النصوص السطحية والساذجة، على هذا النحو من التصور غير المسؤول يطاح بأعمال عظيمة امتلكت عظمتها من عنايتها بالوضوح وإنتاج المعنى، والذي سيقترن أي الوضوح وانتاج المعنى عند الموهمين بأنه ارتكاب جنحة المعنى، فهذا هو شأن الوهم الذي يبرر رداءة المنتوج النصوصي واضطرابه وغموضه الذي يشبه الطاعون وهو من شأنه ايضا انه يعرفنا كيف تختل رؤية الكاتب الثقافية للعالم من حوله، وهو الذي يسمح لهذه التصورات والأعطاب من المرور للنص لتشكيل أنساقه المحتجبة والتي وقعنا عليها في قراءتنا لمقال (نحو نص ثقافي).