شاركت الحكومات العراقية والصحافة والوزراء العراقيون في مذكراتهم والادباء والشعراء العراقيين في كتاباتهم، مؤامرة صمت طويلة حول احداث مذبحة "الفرهود" في بغداد التي وقعت في يومي 1-2 من حزيران 1941 بعد فرار رشيد عالي الكيلاني والمفتي الحاج أمين الحسيني والعقداء الاربعة وغيرهم من انصار النازية في العراق، لفشل الجيش العراق في الصمود أمام القوات البريطانية في الحبانية وتراجعه الى بغداد. وتبعه الجيش البريطاني الى أن عسكر حول السفارة البريطانية في بغداد لكي لا يتدخل في المذبحة التي كان السفير البرطاني السير كينهان كورنواليس، أو كما كان العراقيون يسمونه: مختار محلة الكريمات، يسمع صراخ الضحايا ورصاص المعتدين وطوابير المفرهدين وهي تعبر من الرصافة الى الكرخ محملة بغنائمها في هوسات صاخبة، "حلو الفرهود كون يصير يومية". وعندما أخبر الأديب القاص اسحق بار-موشيه صديقه الأديب عدنان رؤوف من مؤسسي جماعة الوقت الضائع، بعزمه على كتابة ذكرياته عن الفرهود "يومان في حزيران"، (2004، ص 1)، نصحه صديقه أن ينسى ما حدث وان يلتفت الى الأمام فقط، ويظن أديبنا أن شعور صديقه الوطني، أبى عليه ان يقوم صديق له برواية ما شهده وسمعه في "يومان من حزيران" وفيه "ما يلطخ بعار الأبد حكومات العراق في تلك الفترة وما سبقها وما تلاها. ولكن التاريخ كما قال كونراد اديناور، هو بعد كل شيء، سلسلة من الأخطاء التي ما كان يجب أن تقع".
لم يكف المفرهدون عن القتل والاغتصاب والحرق والتدمير الا بعد ان أمر الوصي الذي عاد الى بغداد باطلاق النار على المفرهدين بعد ان اصبحت ممتلكات المسلمين في خطر النهب أيضا. ثم شكلت لجنة تحقيق عن حوادث يومي 1 و2 حزيران 1941 بقرار من مجلس الوزراء الصادر بتاريخ 7 حزيران 1941 برآسة السيد محمد توفيق النائب، ولم ينشر التقرير الذي قدمته لجنة تقصي الحقائق عن الفرهود الى الحكومة العراقية، سوي بعد 17 عاما من الاحداث الأليمة في كتاب المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني (1903-1997)، "الأسرار الخفية في حوادث السنة 1941 التحررية"، وذلك في صيدا، اي في لبنان، عام 1958،. أما الادباء اليهود الذين طردوا من العراق في الهجرة الجماهيرية الاولى في العهد الملكي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي من امثال اسحق بار-موشيه وسمير نقاش وسامي ميخائيل، وأدباء الهجرة الثانية في مطلع السبعينات من القرن الماضي في العهد البعثي، من امثال أنور شاؤل والدكتور سلمان درويش ومير بصري، وعزت ساسون معلم، فلم يكتبوا باللغة العربية عن الفرهود سوى بعد استقرارهم في اسرائيل وبعد تأسيس رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق عام 1980. والوحيد الذي كرس رواية كاملة باللغة العبرية عن الفرهود هو الكاتب الكبير سامي ميخائيل في كتابه "عاصفة بين النخيل"، ثم تلاه الاديب إيلي عمير في بعض فصول ثلاثيته عن يهود العراق. ثم تلاهما الاستاذ الأديب والصحفي الكبير سليم فتال الذي كان خاله اول ضحايا الفرهود، في روايته الرائعة "في دروب بغداد"، وكتابه التاريخي "صنم في حرم الاكاديمية الاسرائيلية" ردّ فيه على الادعاء الكاذب بان 200 من المسلمين قتلوا في الدفاع عن جيرانهم اليهود في الفرهود، وفي سيرة حياة الدكتور نسيم قزاز الذي قتل والده مع خال سليم فتال في نفس اليوم بعد ان أُنزلا عنوة من الباص في محلة باب الشيخ وذبحا على قارعة الرصيف.
أما الشعراء من يهود العراق فقد نظموا القصائد عن الفرهود باللغة العبرية كالشاعر شالوم (سالم) الكاتب والتوأمين هرتصل وبلفور حكاك اللذين انتخبا رئيسين لجمعية الأدباء العبريين بصورة متوالية، والشاعر يحزقيل موريئيل (معلم) من مواليد بغداد والشاعر عزرا مراد من مواليد العمارة، ولم ينس جميع هؤلاء الشعراء الإشادة بحماية جيرانهم المسلمين الأُباة في الدفاع عنهم وحمايتهم من القتل والنهب. كما نشر كل من الأستاذ نسيم رجوان والبروفيسور يحزقيل حداد والدكتور دافيد قزاز ابحاثهم ومذكراتهم عن الفرهود باللغة الانكليزية والاديب نعيم قطان باللغة الافرنسية. أما ادباء العراق فلم يكتب عنها سوى الكتاب اليساريين الهاربين الى أوروبا وفيها يستنكرون وقائع الفرهود، وخاصة الاديب حمزة الحسن، والدكتور رشيد الخيون. أما الوحيد الذي كرس لها دراسة تاريخية جادة مدعومة بالوثائق والابحاث ونشرها فهو المؤرخ والباحث العلامة أ.د. كاظم حبيب من زعماء اليسار في العالم العربي ونزيل برلين، في كتابه الموضوعي الشامل "اليهود والمواطنة العراقية، أو محنة يهود العراق بين الأسر الجائر والتهجير القسري"، في طبعتين اصدرتهما مؤسسة حمدي للطباعة والنشر في السليمانية في عامي 2007 و2010 . ولعل أفضل كتاب يشير إلى جذور النازية في العراق منذ جلوس الملك غازي على عرش العراق هو كتاب من أوراق الملك غازي، وهو مجموعة من الوثائق بخط الملك، جمعها وحققها ونشرها القاضي زهير كاظم عبود، (شرق غرب للنشر، 2010)، لا غنى للباحثين عنه.
وفي ذكريات كاتب هذه السطور التي نشرتها جريدة "ايلاف" الغراء واعيد نشرها في مجلة الأخبار الالكترونية، تحت عنوان "يهود العراق: ذكريات وشجون" والتي نشرت في طبعة خاصة في بغداد 2010، وستصدر هذه الذكريات قريبا، مزيدة ومنقحة تحت عنوان "بغداد، حبيبتي: يهود العراق – ذكريات وشجون" عن "دار النشر كل شيء" في حيفا لصاحبها الأستاذ صالح عباسي. وقد كتب الأديب خضير طاهر في مجلة "إيلاف" الغراء في 24 ابريل، 2010، مقالا عن هذه الذكريات تحت عنوان: "شموئيل موريه يعذبنا بعار وحشيتنا ضد اخواننا يهود العراق" يبدي فيه أسفه لما وقع ليهود العراق من اجحاف ونكران الجميل.
وأخيرا صدر كتابان باللغة الانكليزية وثـّقا للفرهود بصورة مفصلة عن اسبابه ونتائجه، الكتاب الاول ويقع في 382 صفحة، يضم مقالات علمية تاريخية ووثائق يكشف النقاب عنها لأول مرة، عن الفرهود بقلم كبار الباحثين في العالم، وهما كتاب "الفرهود، مذبحة 1941 في العراق"ِ، اعداد شموئيل موريه و تصفي يهودا، اصدار مركز فيدال ساسون العالمي لدراسة اللاسامية، مطبعة ماغنيس التابعة للجامعة العبرية، ومركز تراث يهود العراق، يونيو 2010:
Al-Farhud: The 1941 Pogrom in Iraq, ed. S. Moreh & Zvi Yehuda, Jerusalem, The Vidal Sassoon International Center for the Study of Antisemitism at the Hebrew University, Magness Press & The Babylonian Jewry Heritage Center in Or-Yehuda, 2010,
والكتاب الثاني هو للباحث الامريكي ادوين بلاك (Edwin Black): بعنوان "الفرهود، جذور التضامن العربي – النازي اثناء الهولوكست"، تحدث فيه عن الدور الذي لعبه الحاج أمين الحسيني في الحرب العالمية الثانية بالتعاون مع هتلر وزبانيته: The Farhud, Roots of the Arab-Nazi Alliance in the Holocaust, Washington, DC, Dialogue Press, in 448 pages.
الحاج امين الحسيني في لقاء له مع هتلر في برلين بعد هروبه من العراق الى المانيا 1941
واليوم فقط أخذ المثقفون العراقيون يدركون مدى المأساة التي مرت بيهود العراق في مذبحة الفرهود ويدركون أنها كانت أحد الأسباب التي أدت بيهود العراق إلى الهجرة الجماهيرية عام 1950 بالإضافة إلى الخوف من تكرارها بعد قيام دولة إسرائيل. ولعل الأديب والمثقف العراقي الوحيد الذي صور فظاعة الفرهود في قصة له لم تنشر بعد، هو الأديب المحامي عدنان نور الدين في قصته التاريخية "هتلر في الإبريق" التي رفضت نشرها الصحف والمجلات العربية.
يقول الأديب عدنان نور الدين في هذه القصة في يقظة من ضميره المسلم الحي الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم، متحدثا عن الفرهود كشاهد عيان مصورا فظاعته بقلم نزيه لم يستطع بلوغ مستواه التصويري الكثير من يهود العراق الذين أرخوا لهذه الأحداث في إسرائيل وإن بالغ في عدد الضحايا من القتلى من الجانبين:
" واستغـّل الناس فقدان السلطة وعدم وجود جيش أو شرطة في البلاد فخرجوا إلى الشوارع والأسواق والساحات مسلحين بالخناجر والعصي والسكاكين ليقوموا بعمليات (الفرهود) التاريخية وينفذوا ضد اليهود حملة قتل ونهب واغتصاب قلما شهد لها تاريخ العراق مثيلا، أجل كان اليهود في العراق يتعرضون لعمليات (البوغروم) الفوضوي البدوية بين حين وأخر أما (فرهود) اليوم الثاني من حزيران 1941 فكان مجزرة وحشية رهيبة حقا.
هب المسلمون يهاجمون دور اليهود ومحلاتهم التجارية ويفتحونها فيسرقون ما كان فيها ويحطمون ما لا يقدرون على حمله ويبقرون بطون النساء الحوامل ويقتلون الأطفال ويذبحون الرجال ثم يعمدون إلى أثاث الدار ومحتوياته أو إلى ما في المحل من بضائع فيسرقونها بأسلوب النهب البدوي المتوارث، كان الجار المسلم يقتحم دار جيرانه من اليهود الذين ترعرع معهم منذ الطفولة وعاش معهم العمر بسلام وصداقة ليسبي بناتهم ونساءهم وينتزع منهن مصاغاتهن الثمينة من الذهب والفضة ويغتصبهن بضراوة جنسيا ويقتل من أهل البيت من يشاء بكل قسوة ..... فشهدت أزقة بغداد والاعظمية وبيوت اليهود فيها مآسي ظل الناس يَرْوُونها بتلذذ غريب.
وبعد أن تمكنت السلطة الشرعية ممثلة بالملك الصغير وخاله الوصي على عرشه الأمير عبد الإله والداهية نوري السعيد من السيطرة على العاصمة وفرض الأمن بواسطة الشرطة وبعض وحدات الجيش التي انهزمت من معارك مايس، ووضع حد قاطع لعمليات البوغروم الرهيبة، توقف نشاطات (الفرهود) كما يسمى البوغروم في العراق وشرعت الحكومة في إحصاء الخسائر البشرية والمادية التي تكبدها يهود بغداد خلال ست وثلاثين ساعة من غياب السلطة : ثلاثة ألاف قتيل [؟؟؟]، ألاف من حالات الاغتصاب منها الكثير مما وقع ببنات قاصرات بل طفلات وبصبيان أيضا، أملاك سرقت وقدرت بملايين الدنانير ومنها أربعة ألاف دراجة هوائية وثلاثمائة سيارة ... تلك كانت حصيلة الفرهود الخاطف المريع...
والأمر الذي أثار دهشة التاريخ هو أن جموع الشعب العراقي أجمعت على التلذذ بالفرهود واعتباره ملحمة قومية إسلامية مجيدة وظلت تتغنى به لعدة سنوات بعد العام 1941 وشاعت بين الناس اهزوجة شعبية تقول:
الله اشحلو الفرهود يا أسلام يا ريته يعود كل سنة وكل عام
وأدى سكان شارع العشرين دورهم النشيط في الملحمة الدموية حتى النساء من ذوات العباءات الصوف السوداء ساهمن مع الرجال والصبيان في عمليات النهب والسلب وكان ثمة في الحي بضع دور لليهود منها دار البقال شلومو حيث يسكن مع زوجته رفقة أم عاشير زميل بشير في المدرسة وصديقه في أيام الطفولة وأخت عاشير روزا وأختاها الصغيرتان ... وقد اقتحم بعضهم بيت شلومو وسلبوا ما كان فيها من أثاث حتى آخر ستارة ووسادة وقدر ثم حطموا باب الدكان الملحق بالدار وأفرغوه مما كان فيه من أقمشة وخيوط وابر وماكنات للخياطة ومقصات وغير ذلك ، كما اغتصبوا نساء الدار جميعا حتى الجدة العجوز، إلا رفقة التي التجأت إلى دار الحاج محمود قارئ القرآن في الإذاعة، فحماها واعتدى ثلاثة على الشاب عاشير وقتله الرابع حين حاول المسكين المقاومة ولم ينج أبوه من القتل بهجوم وحشي وجده رجال الشرطة بعد يومين وقد هشم رأسه بيد الهاون الثقيل مطروحا كالشلو إلى جانب ابنه على الأرض وسط بركة من دم جاف اسود وقد جرد جثماناهما من الملابس....
وبعد يومين من الفرهود التاريخي تمكنت السلطة العائدة من سيطرتها على البلد وأخذت تتحرى حالات القتل والاغتصاب والسرقة وثم توقيف أكثر من ألف إنسان وأعلن الراديو بيانا شديد اللهجة دعت فيه الحكومة جميع المواطنين الذين سلبوا اليهود إلى إعادة الممتلكات التي سرقوها إلى مراكز الشرطة بأقرب فرصة واتبعت الإنذار بحملات تفتيش عشوائية على الدور والمحلات واضطر بشير وخلدون تحت ضغط أبويهما إلى التخلص من الدراجتين فحطماهما ما أمكنهما التحطيم والقيا بهما إلى نهر دجلة حيث ابتلعتهما أمواج الفيضان وغاب أثرهما .
ومرت شهور الحرب وسنواتها تترى حاملة المفاجئات السارة والتحولات المؤلمة فكان بشير يفرح ويهنئ نفسه إذ تحقق ألمانيا انتصاراتها الباهرة الأولى وقد احتسى البيرة لأول مرة مع خلدون عند شاطئ دجلة يوم بدأت معركة ستالينغراد وتهيأ الجيش الألماني لقهر الروس واحتلال منحنى نهر الفولغا والاندفاع إلى القفقاس.
- جماعتنا على أبواب إيران وعما قريب سيتدفق جيش هتلر عبر حدود العراق ليتم له الاتصال بالقوات الألمانية التي تدق أبواب القاهرة والإسكندرية.
- آه لو أنهم يزيحون ستالينغراد جانبا ويهزمون الروس الحمر إذن لقرب يوم النصر.
- انه سيكون نصرنا نحن العرب يا أخي يومئذ سنتحرر من الاستعمار وسنتقاسم الدنيا كلها مع حلفائنا الألمان.
- سمعت أن مفتي فلسطين أمين الحسيني ورشيد عالي وعزيز علي المصري قد قابلوا هتلر واخذوا منه عهد التحالف والصداقة.
- ومقابل ذلك أكد هتلر على المفتى بان يكثف من نشاطه في صفوف مسلمي البوسنة والهرسك للالتحاق بصفوف الجيش الألماني والمساهمة في قمع الحركات التخريبية لمن يسمون أنفسهم بالأنصار وقائدهم الشيوعي تيتو.
- هل علمت أيضا أن مسلمي يوغسلافيا الذين عبأهم المفتي في القوات المسلحة الألمانية هم أنشط حراس المعتقلات واشد ضراوة من الألمان أنفسهم في إبادة اليهود والشيوعيين بالحمامات الغازية ثم حرق جثثهم النتنة في محارق خاصة لاستخلاص الزيوت من أجسامهم كمادة ممتازة لإنتاج الصابون.
- عظيم ... رائع ... إبادة اليهود نصر للعرب وللمسلمين حيا الله مسلمي يوغسلافيا الأبطال.
- أنسيت أننا ساهمنا في هذا الواجب المقدس يوم الفرهود....."
هذا ما رواه المحامي عدنان نور الدين بالحرف الواحد وهو وثيقة نادرة ودقيقة في وصفها لفظائع الفرهود، إذ لم يرض ضميره الأبيّ إلا رواية ما شاهده وما سمعه من أحداث تقشعر لها الأبدان ارتكبت ضد أقلية مسالمة خدمت العراق خلال مئات السنين وكانوا من بناة صرح العراق الحديث، فكان جزاؤهم هذا الاضطهاد الشنيع الذي أدى فيما بعد إلى هجرتهم إلى إسرائيل.
يا وادي الرافدين "حياك الحيا وسقى الله رباك ورعى
فيك ناغينا (المجد) في مهده ورضعناه فكنت المرضعا"