{فاوست} القرنة02/06/2014 07:10
ربما سيكون الحديث عن فاوست استرجاعاً لطبيعة التعليم في ثانويات العراق إبان الخمسينيات من القرن الماضي، فمسرحية "فاوست" التي مثلها طلبة الخامس الإعدادي في ثانوية القرنة العام 1953 كانت نقطة تحول كبيرة بالنسبة لي، هذه المسرحية التي مثلها مفكرون ونقاد وفلاسفة يعدون اليوم طليعة، من بينهم الناقد خيري الضامن الذي افتتح عهد الشعرية في النقد العربي بكتابه المبكر" في التكوين الشعري" العام 1962، والفيلسوف المرحوم
صبري هادي الذي كان يخوض بنا الحديث عن الفلسفة في مناهج وأفكار هيجل وماركس ونيتشه، وعبد العالي الصكبان الأستاذ والإنسان والطالب الذي كان يحث
الطلبة على وعي التناقضات عبر العمل بين الطبقات الاِجتماعية، إضافة إلى أساتذة اللغة العربية الذين فتحوا أعيننا على أهمية التعليم والمسرح والتشكيل والهتافات ضد حلف بغداد، وتوقيع العرائض من أجل تقديم الخدمات الصحية والاجتماعية لسكان مدينة القرنة وقراها ونواحيها. هذه الحياة المتيقظة كان معها يجري الاهتمام بالمسرح، فقدموا لنا "فاوست" غوته، المسرحية التي فتحت عيني على الثقافة والعلم، على التمثيل والوقائع، على الخيال والحقائق، وكنت مندهشاً جداً وأنا أرى فاوست أمامي بينما يخرج الشيطان من تحت الطاولة، دالا على وجوده المختفي في التفاصيل والأشياء بينما الحقيقة مبهرة ومضيئة وتحتاج دائما إلى علم ليظهرها، وما زالت رؤيتي للشيطان وهو يخرج من تحت الطاولة مرتدياً ثوباً أسود فضفاضاً وقبعة طويلة وقناعاً وهو يخاطب فاوست ويتفق معه، متمثلة لي في كل خطوة أكتب عنها أو أفكر فيها، فالحقيقة ليست اتجاها علميا فقط، إنما تحتاج في مراحل ما إلى الروح. الغرابة كانت الكيفية التي أنزل بها غوته الشيطان مفستيوفيلس من السماء ليتفق مع فاوست الأرضي على شراء مشروعه مقابل منحه روحه.
ولم يكن في بالنا ان هذا الاتفاق كان من أجل
نهوض ألمانيا في مرحلة التنوير التي شكلت الفلسفة وتطور العقل والفكر والجامعة والتعليم ميادين فكرية يومية لها. كانت مسرحية "فاوست" التي شاهدتها العام 1953 في ثانوية القرنة نقلة كبيرة في وعيي البسيط ونقلتني من استقبال المعلومة بمختلف تنوعاتها إلى صناعة المعلومة والتفكير بها، ومن يومها دخلت كلياً في عالم الدراما، وما أن حل العام 1957 حتى كتبت أول مسرحية مستلهما أجواءها من "فاوست" وخلفيتها من ثورة الجزائر، وأفقها من "مركبة غاغارين" و"الكلبة ألايكا"، مسرحية برؤية نضالية لأن مشروعنا يومذاك هو التنوير.
أين تعليمنا اليوم من تعليمنا بالأمس؟ لا أقول بصدد المسرح الذي كان يعلم عبر الثقافة العامة، إلى جوار المختبرات العلمية والرياضة والفعاليات الجماهيرية والكرنفالات الشعبية، فالمدرسة يومذاك كانت كلية المهمات، تعليم وتربية وتثقيف وتصور ورسم حدود للمستقبل. اليوم وأنا أتساءل مع أحفادي عن تحصيلهم العلمي والثقافي، لا أجد أعينهم وذاكرتهم منصرفة لغير الكتاب المدرسي ومعلوماته البسيطة التي وضعت لغرض تأدية الامتحانات، إما إذا سألتهم عن الثقافة، عن الشعر، عن القصة والرواية، عن أدباء العراق وعلمائه، لا تجد جوابا بقدر ما يقال لك أين موقع هؤلاء على الانترنت، وهل لهم حساب في الفيس بوك، أم انهم ما يزالون يجهلون هذه الحقول التي أصبحت هي الكتاب المدرسي وهي الثقافة؟. لاشك اننا لا نراهن بعد اليوم على الأجيال المقبلة من شعبنا، بقدر ما نراهن على مدى تفهمنا للتقنيات التي تضيّع الهوية الوطنية من جهة وتقدم خدمة كبيرة لفهم ما حولنا من جه أخرى، ونحن بين أن نتبع هذا أونضيّع ذاك، لا أجد ثمة من يتفهم: ان المزاوجة بين المادة والروح كما كان يفعل فاوست هي الطريق لتقدم البلاد.