زمن "الماليبو"
01/06/2014 07:35
حميد المختار

أحلام الأجيال متنوعة وكبيرة ومتوزعة في أكثر من مكان وزمان، فثمة مكان وحدائق ومؤسسات وحانات ومكتبات صارت مقراً لجماعات أدبية تحاول من خلال تواجدها في تلك الأماكن أن تؤرخ للمكان والزمان وتؤسس لها منطلقاً وأرضاً صلبة للبدء في مشاريعها الإبداعية.

ومن بين هذا كله استطعنا أن نتخذ من عربة ثمانينية مكاناً متنقلاً بين المدن والمحافظات وشوارع بغداد، إنها "الماليبو" التي حصل عليها القاص حسن متعب بعد ان تطوع في الجيش العراقي برتبة ضابط، هذه " الماليبو" أمست مكاناً ومحترفاً وقناعاً لمجموعة مثقفة جمعت حسن متعب وحميد المختار وشوقي كريم وعلي حميد عودة والفنان المسرحي أحمد عباس وكان يطلق على نفسه اسم "احمد المنسي"، وهناك ايضاً شابان صغيران هما مازن وثامر يقربان لحسن متعب، وعلى الرغم من انهما لايمتان بصلة إلى الكتابة والأدب لكنهما ظريفان، وقد استطاعا أن يؤسسا لنفسيهما مكاناً لائقاً بيننا وحين افترق الجميع اختفى هذا الشابان ولا أدري أين هما الآن.

كنا ثلة ضائعة في دروب الظلام العراقي ابان فترة الثمانينات الحربية التي أحرقت الكثير من معالم البلد الجميلة وسدّت المنافذ على رؤى وأحلام وتطلعات الأدباء والفنانين العراقيين. أصبحت "الماليبو" وطناً بديلاً لنا، فيها ننطلق إلى أماكن أخرى لم نرها من قبل، وفيها نأكل وننام ونمارس حياتنا نقرأ ونكتب وننشد ونستمع إلى بعضنا البعض، وصولاً إلى حد الخصام والزعل، ولكن "الماليبو" تعود وتجمعنا من جديد حتى صارت ملاذاً آمناً بعيداً عن الأخطار المحدقة بنا: أخطار الحرب والجبهات المستعرة وكتاب الحرب اللائذون بسدود المؤسسات الحكومية الهشة، وبعيداً عن رقابة المتلصصين والطفيليين والمتسلقين والفضوليين، إنها نوع من يوتوبيا مصغرة ابتكرها حسن متعب وصارت مآوانا في حلنا وترحالنا..

أما الأسماء المنحوسة آنذاك. فقد اجتمعت أيضاً تحت مظلة "الماليبو" تلك، فأحمد المنسي سيد

المنحوسين فضلاً عن شوقي وأنا، ويوم نلتقي في "الماليبو" يضع حسن متعب يده على قلبه، وهو يسوق بتؤدة لئلا يحدث حادث للماليبو ويتفرق الشمل وهذا ماحصل.

فقد اجتمعنا ذات يوم تموزي ساخن وكانت

الشمس تصب جام غضبها وجحيمها على

رؤوسنا، كما لو انها تشارك نار الحرب في ذلك

الغضب لتحرق العراقيين، وقد زارنا شخص آخر لا أتذكر اسمه الآن فأضاف نحساً على نحس، وما ان

دخلنا شارع السعدون وبعد ان اجتزنا ساحة النصر

قرب فندق بغداد وقعت الكارثة، حين اصطدمت "الماليبو" بسيارة كانت واقفة في منتصف الشارع بسبب حادث مرور وقع قبل وصولنا فتهشمت "الماليبو" وتهشمت أحلامنا ، فتغيرت الوجوه وعم الوجوم ودخل حسن متعب في صمته الكبير، في تلك اللحظات أحس الجميع بوخز الضمير وخصوصاً تلك الأسماء المنحوسة التي اجتمعت في ذلك اليوم المشؤوم.. كان ذلك اليوم حداً فاصلاً بين عهدين مترعين بالضياع والصخب والكآبة، عهد "الماليبو" الثري بكل صفاته وما يكتنزه من ثراء سردي وشعري وسفر مجنون ،عهدا المابعدا بكآبته وسخطه وغضبه وخطره الذي مازال محدقاً بنا ويطاردنا كلعنة لاتريد أن تنتهي، لقد استطاعت "الماليبو" تلك ان تؤسس لنا زمناً مسروقاً من متاهة السنوات، زمن حافل بالإبداع والتألق، انه زمن "الماليبو" الذي ابتكر "جماعة الماليبو" السردية والشعرية والفنية بروحها الفانتاسية والغرائبية.. تحية لحسن متعب وهو في منفاه الاسترالي وتحية لزملائي الذين صحبوني زمناً جميلا في تلك "الماليبو" العجيبة.