العمل الادبي
العمل الادبي هو موضوع النقد الادبي. فالحديث عنه هو المقدمة الطبيعية للحديث عن النقد . بل ربما كانت هي ذات الموضوع. فتحديد معنى العمل الادبي ,وغايته , وقيمه , وفنونه ,هي نفسها ((النقد الادبي )) في اخص ميادينه .
فما العمل الأدبي ؟ إنه (( التعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية )) .
ومع ان التعريفات – وبخاصة في الادب – لا تفي بالدلالة على جميع خصائص المعرف , ولا تصل إلى ان تكون مايسمى ((التعريف الجامع المانع )) فاننا نرجو ان يكون هذا التعريف للعمل الأدبي , أوفى مايكون بالدلالة على جميع خصائصه المشتركة في فنون الادب جميعا .
فكلمة ((تعبير )) تصور لنا طبيعة العمل ونوعه , و ((تجربة شعورية )) تبين لنا مادته , وموضوعه , و (( صورة موحية )) تحدد لنا شرطه وغايته .
((فالتجربة الشعورية )) تصور لنا طبيعة العمل ونوعه , و ((تجربة شعورية )) تبين لنا مادته وموضوعه , و (( صورة موحية )) تحددلنا شرطه وغايته .
(( فالتجربة الشعورية )) هي العنصر الذي يدفع الى االتعبير , ولكنها بحد ذاتها ليست هي العمل الادبي , لانها مادامت مضمرة في النفس , لم تظهر في صورة لفظية معينة فهي احساس او انفعال , لا يتحقق به وجود العمل الادبي .
((والتعبير )) –في اللغة – يشمل كل صورة لفظية ذات دلالة. ولكنه لايصبح عملا ادبيا إلا حين يتناول ((تجربة شعورية )) معينة. وبعضهم يميل الى اعتبار كل تعبير جميل – ولو عن حقائق العلوم البحته – داخلا في باب الادب .
ولكننا لا نميل الى هذا التوسع في مدلول ((العمل الادبي)) , ونحتم ان يكون تعبيرا عن ((تجربة شعورية )).
على ان الموضوع لا يحدد طبيعة العمل , ولكن طريقة الانفعال بالموضوع هي التي تحدده , فمجرد وصف حقيقة طبيعية مثلا وصفا علميا بحتا , ليس عملا ادبيا مهما تكن صيغة التعبير فصيحة مستكملة لشروط التعبير اما التعبير عن الانفعال الوجداني بهذه الحقيقة فهو عمل ادبي لانه تصوير لتجربة شعورية.
ولكن التعبير عن التجربة الشعورية لا يقصد به مجرد التعبير. بل رسم صورة لفظية موحية للانفعال الوجداني في نفوس الاخرين . وهذا شرط العمل الادبي و غايته في نفوس الاخرين .
ليست غاية العمل الادبي اذن ان يعطينا حقائق عقلية , ولا قضايا فلسفية , ولا شيئا من هذا القبيل كما انه ليس من غايته ان يحقق لنا اغراضا اخرى تجعله محصورا في نطاقها مصبوبا في قوالبها. ليس الادب مكلفا ان يتحدث مثلا عن صراع الطبقات , ولا عن النهضات الصناعات , كما انه ليس مكلفا ان يتحول الى خطب وعظية عن الفضيلة والرذيلة , ولا عن الكفاح السياسي والاجتماعي في صورة معينة من الصور الوقتية الزائلة. ذلك الا ان يصبح احد هذه الموضوعات ((تجربة شعورية )) خاصة للاديب , تنفعل بها نفسه من داخلها , فيعبرعنها تعبيرا موحيا مؤثرا.
وليس معنى هذ ان العمل الادبي لا غاية له . فالواقع انه هو غاية في ذاته , لانه بمجرد وجوده يحقق لون من الوان الحركة الشعورية . وهذه في ذاتها غاية انسانية وحيوية تدفع عن طريق غير مباشر الى تحقق اثار اخرى اكبر وابقى.
وقد يتبادر الى الذهن ان الادب محظور عليه ان يقصد الى أي غرض من اغراض الحياة العملية , او ان يلم بأية حقيقة عقلية في طريقه ..وهذا وهم , فإنما قصدنا فقط الى بيان بواعث العمل الادبي , ومناط الحكم عليه. فالباعث هو الانفعال بمؤثر ما (أي التجربة الشعورية ) ومناط الحكم هو كمال تصويره لهذه التجربة , ونقلها إلينا نقلا موحيا يثير في نفوسنا انفعالا مستمدا من الانفعال الذي صاحبها في نفس قائلها. أما الاغراض الاجتماعية والسياسية وماإليها, و أما الحقائق العقلية التي يتضمنها , فهي شئ اخر لا يحدد مكانة العمل الادبي . والعبرة هي بمدى الانفعال الوجداني بها , وامتزاجها بالشعور , بحيث تدخل في صميم التجربة الشعورية وتنطوي فيها .
وليس هناك فواصل حاسمة بين المناطق الشعورية . فعملية تحطيم الذرة مثلا حقيقة علمية , يصفها عالم المعمل وصفا علميا دقيقا , فتظل العملية كما يظل وصفها بعيدا عن عالم الادب . ولكن قد ياتي شاعر ذو حس مرهف فينفعل بهذه الحقيقة العلمية انفعالا خاصا ,لانه يرى فيها مثلا مولد عصر جديد , او لانه يلمح من ورائها وحدة الكون والكائنات , فإذا هو تأثر تأثرا شعوريا بهذه الحقيقة , وعبر عن تأثره هذا تعبيرا موحيا ((مثيرا للانفعال في نفوس الاخرين )) فذلك عمل ادبي بلا جدال.
وصراع الطبقات في المجتمع الحديث حقيقة اجتماعية يحللها الرجل الاجتماعي ويذكر اسبابها ويتتبع اطوارها ....فلا يكون هذا عملا ادبيا . ولكن قد ياتي اديب موهوب تنفعل نفسه بهذا الصراع ويعيش باحساسه في غماره فيصوره تصويرا انسانيا, او ينشئ قصة او تمثيلية يصور فيها هذا الصراع تصويرا حيا ينفعل له من يقرؤه ويعيش بشعوره مع اشخاصة وحوادثة . فهنا يصبح هذا التصوير عملا ادبيا .
فالموضوع اذن بذاته ليس مناط الحكم, وأهدافه العقلية أو الاجتماعية او السياسية او الخلقية ليست هي الغاية . انما التصوير المعبر الموحي , والانفعال الناشئ عن هذا التصوير , هما اللذان يحددان موضع التعبير : إذا كان في فصل الادب او فصل العلوم او فصل الفلسفات.
ولا يفهم من ان هذا الادب عدو للحقائق من أي لون كانت, إنما المهم أن تصبح هذه الحقائق شعورية , وان تتجاوز المنطقة العقلية الباردة الى المنطقة الشعورية الحارة . ثم يبقى بعد ذلك مجال للتفاضل بين القيم الشعورية بعد تحقق صفة العمل الادبي فيها بالانفعال الشعوري والتعبير الموحي حسب حسب تفاوتها كبرا وصغرا .
على ان للادب حقائقه الاصيلة العميقة . بل ان الادب الصحيح لا يتجاوز منطقة الحقائق ولو شط به الخيال, وكل ماهنالك هو تحديد معنى الحقائق.