TODAY- Sunday, 16 October, 2011
حكايات من ارباخا: أسطورة أميرة ميديا والأسد
طبائع البشر منغرسة تحت أرواحهم لا تفارقهم الا بعد رحيل الروح" "حكمة توركمانية"
عندما يحل المساء ويتجمع أصحاب الشأن والأمراء حول الملك ارباخا النبيل يحلو له سماع قصص وحكايات الزمن القديم، وأساطير الأولين، ففي هذا مساء بدأت حكاية شيخ الحكماء كاكا مندى الذي قد قضى جل عمره بالتجوال والترحال راكبا البحر أو سائرا في صحراء شاسعة مع قوافل البدو التي تهتدي بالنجوم المتلألئة في السماء، فعرف أهوال البحر، وعرف وقت هبوب الرياح الصفراء، أهوال كثيرة خرج منها كاكا مندى يضنيه الظمأ إلى قطرات ماء أو قطعة رغيف تسد جوعه، فزار سمرقند وبلاد الصين، ثم طاف أفريقيا وبلاد الجرمان، وأبحر في البحر العظيم الأسود والأبيض، وجاب ديار الواق واق والسند والهند. وكان عندما يروي الحكايات يتقمص شخصياتها الرئيسية، وهو يغير في نبرات صوته، ويداعب لحيته الصفراء الطويلة التي تتدلى على صدره، فيأخذ بالمستمع إلى عوالم مختلفة، ويخرجه مندهشا منبهرا في عجائب وغرائب، يرافقه في ذلك صوت عازف الناي حيث يدخل البهجة في قلوب المستمعين أحيانا، وأحيانا أخرى ينفخ بمزماره بلحن حزين، فيجهش المستمعين في البكاء. أجل، بدأت حكاية المساء في حضرة الملك الرشيد الجالس على كرسي العرش، وبجانبه زوجته أم ولي العهد الأمير الصغير قهرمان توفه الذي كان دائما من أوائل الحاضرين للاستماع إلى حكايات كاكا مندى، لكن قبل
أن تبدأ الحكاية بلغتها الرشيقة الحسنة، فلابد أن يأمر الملك بالبدء حينئذ يفتوه كاكا مندى بالكلمات، لم تمر لحظات، وتنهد الملك، وقال بصوته الوقور:
ـ ابدأ حكايتك يا كاكا مندى في خريفنا هذا، ليمتلئ قلبنا بالسعادة.
عندئذ قال كاكا مندى بصوت خفيض:
ـ سمعا وطاعة يا ملكنا الرشيد.
وبدأت حكاية اميرة ميديا والأسد:
كنت أجوب بلاد الأرمن، فوجدت نفسي على جبل شاهق، وأنا أنظر إلى أسفل، إذ أرى وادي عميق أجرد، لا شجرة فيه، لا طير يحلق فيه، فاصابتني الدهشة حينما وقع بصري في قاع الوادي على قبرين متقاربين، فالتفت إلى مرافقي، وسألته باستغراب:
ـ ما اسم الوادي، وما هذين القبرين ؟!
فأجاب، والدموع تترقرق في عينيه:
ـ اسم الوادي ارتفين... أما القبرين فهو لشابين عاشقين رميا نفسهما من هنا منتحرين، ويداهما متشابكتان.
ثم رمى بصره بعيدا، وأشار بإصبعه إلى الطرف الآخر من الوادي حيث جبل آخر، تقع قرية على سفحه الذي يفصلنا عنها الوادي، ثم أردف قائلا:
ـ أولئك القوم في القرية ليسوا من قومنا، لكنهم عندما سمعوا دوي سقوط في الوادي، هرعوا إلى مكان الحدث، فوجدوا شابين متعانقين، ثم مرت برهة من الزمن وهم يتطلعون متأسفين إلى الجثتين المهشمتين الغارقتين بالدماء، فجأة اهتز الوادي وارتجت الصخور، فأصابهم الهلع والرعب لما يحدث حولهم، لكن بعد لحظات، حدثت معجزة، إذ حلقت حمائم بيضاء فوق رؤوسهم، وانبثق من باطن الأرض نبع ماء غرير.
تعالت أصوات المستمعين في قاعة العرش، فتلك تتمتم، وتلك تهمس، وتلك تردد دعاء، فاختلطت الأصوات، حينئذ رفع الملك يده، فخيم صمت في القاعة، وهو يقول:
ـ هذا ليس شيئا غريبا فالنفس الزكية كالماء الزلال يتدفق من باطن البشر.
فترنمت أصوات الحاضرين مرددة:
ـ صدقت أيها الملك الرشيد.
ثم وجه كلامه إلى كاكا مندي:
ـ حدثنا عن حكاية أخرى في العشق ترددها ألسن البشر.
تململ كاكا مندى في مكانه وواصل حديثه، وهو يمسد لحيته:
قي ذلك الزمان كانت الأميرة خاتو زين آية في الحسن والجمال بعينيها اللوزيتين ووجها الدائري النوراني وبشرتها البيضاء وشعرها المسترسل على كتفيها... وشاءت الأمور أن توعدت بابل العظيمة بحرب مملكة ميديا لاحتلالها، وكان ملكها يريد تجنب الحرب، فلم يجد وسيلة إلا إرضاء ملك بابل الشهير نبوخذنصر بإهداء ابنته له حقنا للدماء وإنقاذا لأرواح شعبه من بطش جيوش بابل الجرارة التي كانت تهدد الملكة، و أرواح الناس، وممتلكات العباد.
لكن الأميرة الجميلة كانت قد وهبت قلبها خلسة عن أبيها الملك للفارس آزا الذي عينه الملك أن يكون أمير أمراء كرميان، واليد اليمنى للملك كردوخ ملك الميديين.
في هذه الإثناء كانت الأعمال تسير بسرعة في بناء قصر الملكة خاتو زين في بابل حيث قرر نبوخذنصر بناء زقورة شاهقة الارتفاع كي تظهر من بعيد للعيان بحدائقها المعلقة وخرير مياه النافورات وأحواض الماء. كل ذلك كي تدخل البهجة إلى قلب الأميرة التي تعودت على الحياة الجبلية ومناظر الغابات الكثيفة في بلادها.
هاج وماج كبير قواد الملك آزا حينما سمع بخبر زواج الأميرة. لكن لا حول له ولا قوة أمام أوامر الملك ومصلحة البلاد العليا. بقي على حاله هذا ودخل القنوط إلى فؤاده وهو يرى حبيبته تتهيأ للسفر ومغادرة الديار، وهكذا تم زواج الأميرة من نبوخذ نصر في وسط أفراح دامت أسبوعا كاملا، ثم غادر نبوخذ نصر ليواصل فتوحات بلدات، ويقهر جيوش، ويتوسع في الأرض شرقا وغربا، بينما توجه آزا متخفيا إلى بلاد بابل، ليرى بأم عينيه المدينة وساكنيها. نزل فيها مساءا، فوجد بعض الشموع المشتعلة التي تبعث بضيائها أمام احد معابد عشتار، فدخله. آنذاك وجد المعبد يتصاعد فيه دخان أبيض، وتفوح فيه رائحة بخور يمنية. آنئذ رأى عجوز تتعبد إلى الإله مردوخ كبير آلهة بابل عند مذبح الآلهة، فقطعت صلاتها، ونادت:
ـ تعال يا آزا يا شجاع... تعال واقترب مني.
استغرب آزا، وقال بتعجب:
ـ كيف عرفتيني...
فقالت بصوت خشن أبح متقطع:
ـ صيتك يا ولدي يملأ الدنيا، يا كبير قواد ميديا.
ثم أردفت قائلة:
ـ ما جاء بك إلى بابل.
ثم راحت تحرق البخور في مبخرة راقدة فوق المذبح، فأزاد الدخان في المعبد، وصار وجهها كالسراب وراء غمامة الدخان.
في هذه اللحظة بالذات، كان المستمعين يسحبون أنفاسا عميقة، ويتنهدون، وهم يصغون باهتمام فائق إلى حكاية كاكا مندي، وهو يواصل حكايته:
ـ همومك كثيرة يا آزا... البلاء قادم لا محال...
هذا ما قالته العجوز بحسرة، وهي تتطلع إليه بقلق، عندئذ أصاب آزا القلق، وانتابته الحيرة، ونفد صبره، وهو يسأل العجوز:
ـ ماذا علي أن أفعل ؟!
رمت العجوز حفنة من مسحوق أبيض في المبخرة، فانبثقت نار حمراء، ثم تغيرت إلى لون أزرق، ثم قالت بصوت حازم:
ـ لكل عقدة حل يا ولدي، ولكل ضال طريق...
فضجت قاعة الملك بالأصوات، وهم يرددون:
ـ إنها ساحرة بابل.
فدق الملك بعصاه الأرض، حينئذ خيم صمت حذر ثقيل في القاعة، وخاطب كاكا مندى بصوت آمر:
ـ واصل حكايتك...
كان يقف آزا في المعبد ضجرا، وقد انتابه الشك بأقوال الساحرة البابلية التي حسبها إنها تريد أن توقعه في مصيدة سحرها، وإنها تضمر له الشر، فحاول التراجع إلى الوراء، والخروج من المعبد، غير أنه حسب نفسه في ساحة معركة، وهو لم يعرف على الإطلاق التراجع إلى الوراء، وكان يصرخ دائما في جنوده:
ـ الموت أو النصر.
فكانت تتعالى أصواتهم لتتردد صدى قبل بداية الهجوم:
ـ النصر... النصر...
أما وهو يقف قبالة الساحر البابلية ارتأى أن ينتظر ويرى، وأن يتحلى بالصبر، وهو يستمع إليها:
ـ هناك عند البئر ماء مسحور من أيام ياجوج وماجوج.
ـ نعم، وماذا... ؟!
ـ انه ماء مسحور، إذا شربه بني البشر فيتحولون إلى حيوانات كاسرة.
ـ ما لي أنا، والماء الساحر...
وها مرة أخرى ساد سكون مهموم في حضرة الملك الرشيد، وقد أومأ لعازف الناي أن يبدأ عزفه لتترنم الأنفس بأنغام المساء، وتتحرك الرؤوس يمينا ويسارا يقودها صوت الناي إلى عالم الأحلام، سواء كانت أحلام فرح أو أحزان، ثم تلته ضربات خفيفة على الدفوف، هكذا كانت طقوس المساء، حكايات وألحان، ثم غناء:
أنت تعيش قرب الحبيب
في أيام الربيع الرحيب
في بستان أخضر وفير
ماء عذب وعيون الحبيب
نور تشع من قريب وبعيد
وقبلات خفيفة في ليل أثير
من الحبيب للحبيب
أنت تعيش قرب الحبيب
وهناك في بابل القديمة كانت تلتقي العيون في معبد طقوسي آخر، تحكي لنا عن أشياء كثيرة، فعينا الساحرة الغائرتان في محجريها في وجه أكلته التجاعيد، والبقع الشاحبة كأنهما ينطقان:
ـ سوف تستطيع تعيش قرب حبيبتك.
ـ نعم، وبربي هذا ما أريد، أعطي حياتي مقابل ذلك.
ثم بدأت الكلمات تأخذ طريقها إلى مسمع العجوز:
ـ وماذا بعد، أيتها العجوز، ماذا ؟!
ـ اشرب هذا الماء.
عندئذ تقدم بخطوات جريئة إلى العجوز، وقرر شرب الماء الساحر ليكون فرب حبيبته الأميرة خاتو زين، فامتدت يده، وتناول كوب خشبي، ورفعه إلى فمه، وشربه دفعة واحدة، والعجوز تتمتم بدعاء، وتردد كلمات لم يفهم منها آزا كلمة واحدة، فساد ضجيج أصوات مختلطة مرعبة في المعبد، وتطايرت من المبخرة صورا مرعبة حمراء وزرقاء وخضراء لأشكال حيوانات وطيور لم ير مثلها، ثم شعر نفسه يقصر، وجسده يتغير، إذ مسخ شبل أسد.
ثم بعد المساء، وقد توقف الغناء، وأخذ الليل يفرش أجنحته على مدينة النار، وامتلأت السماء بالنجوم المتلألئة، لتحاكي حكايات الليل الأثير، من يدري، قد تكون الحكايات تقص في كل دار، تأخذ صبايا وصبيان إلى عوالم مجهولة، وقد يقص الكبار على الصغار حكايات العنكبوت الأبيض الذي يعانق زهرة حمراء، أو طائر منسي يحلق بجناحين فوق السحب، ويرى مندهشا باب كركر، ويصيح، هذه مدينة النور تشع بالضياء، كل شيء ممكن في مدينة النار، وهنا في صلب حكاية كاكا مندى خرج ولي العهد عن طوره، وقال بصوت عال:
ـ أكمل حكايتك الآن يا شيخ مندى.
فانسابت الحكاية بترو وحسرة هذه المرة من فم كاكا مندى:
إذ في الصباح الآتي كانت الشمس قد أشرقت على بابل، وتسللت أشعتها من خلل أشجار المعلقات السامقة، وسعف النخيل لتملأ الأرض دفئا، والفرات يهدر كعادته في جريانه، سارت العجوز متلفعة بالسواد تحمل في يدها سلة من خوص النخيل يقبع فيها الشبل، منحنية الظهر، تدق الأرض بعصاها، ثم توقفت متوكئة على العصا لحظات لتسحب أنفاسا طويل، وقد اقتربت من قصر نبوخذ نصر، واتجهت إلى أحد الحراس الذي حاول أن ينهرها ويطاردها لكنه تسمر في مكانه بعد أن سمع كلماتها:
ـ هذه هدية إلى أميرتنا الجميلة خاتو زين.
عندئذ دخل الحارس إلى القصر بينما افترشت العجوز الأرض، وهي تداعب الشبل، ولم تمض لحظات حتى ظهرت وصيفة الحارس وهي فتاة حسناء، واقتربت من العجوز، وأخذت السلة، وهي تستمع إلى كلمات العجوز:
ـ إنها هدية من جبال قنديل إلى أميرتنا.
فقالت الوصيف بصوت حسن:
ـ هذا سيسر الملكة كثيرا.
لقد فرحت الأميرة خاتو زين بالشبل، وأمرت أن يهيأ له فراش خاص قرب سريرها، إلا إنها فوجئت بنظراته، وتحديقه المتواصل إليها، وكان يا ما كان عندما حل الليل الأثير، وغلقت الأميرة باب غرفتها، إذ مس من جديد رجلا، وكان آزا يقف ببدنه وطوله يواجه الأميرة، وهي تفتح فمها، وتضع يدها عليه، لتكتم صرختها، وتتراجع إلى الوراء عدة خطوات من فرط المفاجأة، وتنطق بكلمات متلعثمة:
ـ حبيبي آزا....
وهو يتجه إليها بلهفة، ويردد بصوت خفيض:
ـ حبيبتي...
ثم يلفها بذراعيه، ويحتضنها إلى صدره، ويتعانقان بحرارة وشدة، وهكذا كان آزا في النهار شبل يتجول في القصر مربوطا إلى سلسلة حديدية، وفي الليل رجل يشارك فراش الأميرة. كانت العيون تلتقي في قاعة الملك، وقد تغيرت تقاسيم الوجوه مستغربة مندهشة لأحداث الحكاية، وتطورها، فهذا يهز رأسه بامتعاض، وذاك قد نكس رأسه إلى صدره، ثم فجأة نهض الملك من كرسي الحكم، والعين تتجه إليه، تقدم إلى أحد شبابيك قاعة القصر المطلة على مدينة بابا كركر فانعكست ضياء النيران القرمزية على وجهه، ثم هبت نسمة عليلة تداعب ستارة الشباك، لم تمر لحظات وهو يتفكر في شيء، ثم عاد إلى مكانه، وأمر بفترة استراحة لتهدأ النفوس، ثم أكلوا وشربوا من نعمة الملك، ثم أخذ كاكا مندى ينشد:
شارع الموكب في ربيع
سعف نخيل وغار من فلسطين
ومحار خليج و دانة يمن
وأميرة بابل أتت من آماد
من جبال آماد
وبساتين كروم
ميدية من آماد
تحن دوما للجبال
وشدو بلابل
وقرقرة جداول
وخرير بي خال
ميدية من آماد
جدائلها ذهبية
عيناها لوزيتان
في جنائن معلقة
بثياب مزركشة
ميدية من آماد
توقف القوال من الإنشاد وكادت الدموع تطفر من عينيه فأوعز الملك إلى الموسيقيين بالعزف، فامتزجت موسيقى هادئة خفيفة مع الإنشاد وهو يترنم بالكلمات:
مهرها شبل أسد
في الليل والنهار
عرينه قصر
وسماءه قمر
وماءه نهر
وخضرته شجر
ميدية من آماد
عشقها سهر
قدر... قدر...
خطر... خطر...
أسد يعتلي صدر الأميرة
ميدية من آماد
رعد في السماء
برق في السماء
وشاء القدر..القدر
لبوه في عرين الأسد
أسد يعتلي صدر الأميرة
حجر...حجر...
وشاء القدر...
أن يمسخ العشق حجر
أسد يعتلي صدر الأميرة
تمثال من حجر...حجر...
وشاع الخبر...
خلف سور المدينة
خلف سور بابل العظيمة
أسد يعتلي صدر الأميرة
أخذت بالألباب والبصر
وشاع الخبر...
أسد بابل وأميرة آماد
أسد بابل وأميرة آماد.بقى ولي العهد الأمير الصغير قهرمان توفه صاحيا طول الليل يفكر بالأميرة ذو العيون اللوزية.
""""
""""
"""هكذا انتهت الحكاية والتي تردد على السنة ابناء مدينة النار والنور بابا كركر وكل من أراد زيارة بابل عليه أن لا ينسى أن يمر من جوار تمثال أسد بابل والأميرة الميدية خاتو زين الراقدة تحت قوته.
توفيق آلتونجي