بسم الله الرحمن الرحيم
يعد التفكيك deconstruction أهم حركة مابعد بنيوية في النقد الأدبي فضلاً عن كونها الحركة الأكثر إثارة للجدل أيضاً. وربما لا توجد نظرية في النقد الأدبي قد أثارت موجات من الإعجاب وخلقت حالة من النفور والامتعاض مثلما فعل التفكيك في السنوات الأخيرة، فمن ناحية نجد أن بعض أعمدة النقد مثل ج.هيليس ميلر وبول دي مان وجيفري هارتمن وهارولد بلوم)، هم رواد التفكيك على الصعيدين النظري والتطبيقي على الرغم من تباين أسلوبهم وحماسهم، ومن ناحية أخرى نجد أن الكثير من النقاد الذين ينضوون تحت خانة النقد التقليدي يبدون سخطهم من التفكيك الذي يعدوه سخيفاً وشريراً ومدمراً. ولم يخلو أي مركز فكري في أوروبا وأمريكا من الجدل في قيمة هذه النظرية الجديدة في النقد.
ويمثل التفكيك الحركة الأكثر إثارة للجدل الأهم في اتجاه ما بعد البنوية , ويقوم على آليات الهدم والبناء من خلال القراءة ، فالتفكيك يستخدم " للدلالة على نمط قراءة النصوص بنسف ادعائها المتضمن أنها تمتلك أساساً كافياً ...." و لعل من البديهي لدى القارئ أن مصطلح التفكيك يعتمد على الهرمنيوطيقا الذي يمارس من خلاله القارئ تفكيك النص فالقارئ " يحدث عنده المعنى ويُحدثه ، ومن دون هذا الدور لا يوجد نص أو لغة أو علامة أو مؤلف . ومن هنا فإن أي مناقشة للتفكيك لابد أن تبدأ بالقارئ ، وتجربة القارئ التي لا يوجد قبل حدوثها شيء " فهو يفكك النص ويعيد بناءه على وفق آليات تفكيره . يعد التفكيك أهم حركة ما بعد البنيوية في النقد الأدبي فضلاً عن كونها الحركة الأكثر إثارة للجدل أيضا.. ، ويستخدم التفكيك (( للدلالة على نمط من قراءة النصوص بنسف ادعاها المتضمن أنها تمتلك أساسا كافيا في النظام اللغوي الذي نستعمله ، كي تُثبت بنيتها ووحدتها ومعانيها المحددة ..)) .
ويعد دريدا الاسم الأكثر اقترانا بالتفكيك ، فقد طرح آراءه في ثلاثة كتب نشرت في سنة 1967 وهي (حول علم القواعد) و (الكتابة والاختلاف ) و(الكلام والظواهر) والمفهوم العام لهذه الكتب يدور على نفي التمركز المتمثل في الثقافة العربية ، هذا النفي يعني نفي الحضور الذي يرى فيه دريدا أنه (مدلول متجاوز)، ولذلك يبحث دريدا عن المنطوق أو أفضلية الكلام على الحضور سعياً منه في قلب المعنى وإسقاطه من اللغة .. فهو يرى " إن اللفظ الاستعاري للترجمة أو النسخ خطير ، لكونه خطير يفترض نصاً موجوداً في الآن ، نصاً جامداً ، حضوراً لا انفعالياً لتمثال ، لحجرة مكتوبة أو لوثيقة ..." إن عمل دريدا " عمل مفكك De-constructeur لكونه قد أعاد النظرَ في المفاهيم التي تأسس عليها الخطاب الغربي الذي لا يعدو أن يكون خطاباً ميتافيزيقياً ، وليس هناك بديل يقدمه دريدا ، بل إن مشروع عمله لا يمكن أن ينحصر في دائرة محددة. إنها مغامرة لا يمكن التنبؤ بنتائجها ولكن يمكن معرفة سمعتها ونقصد هدم الميتافيزيقيا .. " ،ولهذا يقود التّفكيك، إذن، هجوماً ضارباً وحرباً شعواء على الميتافيزيقيا في قراءة النّصوص: فلسفيّةً كانت أو غير فلسفيّة. ويُقصد بالميتافيزيقيا التي يستهدفها التّفكيك في هجومه: "كلّ فكرةٍ ثابتةٍ وساكنةٍ مجتثّةٍ من أصولها الموضوعيّة، وشروطها التّاريخيّة". فالميتافيزيقيا لا تكفّ عن الاستيطان في النّصوص وإنتاج الثّنائيّات المتعارضة، وتفضيل أحد الحدّين على الآخر: دالّ/مدلول، خارج/داخل، واقع/مثال، الواقع/الحلم،الخير/الشّرّ، الشّرق/الغرب، المذكّر/المؤنّث.... الخ. فتُستغلّ هذه الثّنائيّات في الممارسة العمليّة. ولهذا يتّسم التّفكيك بطابعٍ سياسيٍّ فضلاً عن كونه استراتيجيّةً فلسفيّةً لأنّه يتقدّم باتّجاه النّصوص، لا لكي يهدم ويُقوّض المنطق الذي يحكم النّصّ فقط، وإنّما، أيضاً، لكي يفضح المتيافيزيقيا. يسعى التّفكيك إلى كسر الثّنائيّات الميتافيزيقيّة: داخل/خارج، دالّ/مدلول، واقع/مثال.... لإقرار حقيقة (المتردّد اللاّيقينيّ) في عبارة (لا هذا.. ولا ذاك). وإنطلاقاً من خلفتيه الدينية والتي انطلقت منها التفكيكة وهي ما دفعته إلى القول بوجود خلخلة في المثالية الدينية المتمثلة في سيطرة اللوغوس / الكلمة في الكتاب المقدس فهو حدد في كتابه ( علم الكتابة ) وفي الصفحات الأولى بأن عمله ليس الهدم للمثالية في اللوغوس بقدر ما تثمل خلخلة " لكل المعاني التي تتحد منتاءها من اللوغوس ، وبالخصوص معنى الحقيقة ..." ، يقول د. غسان السيد : (( لقد جاءت اللّحظة الحداثويّة الأوربيّة التي نقلت الإنسان من واقعٍ إلى واقعٍ آخر مختلفٍ تخلخلت فيه كلّ الثّوابت السّائدة التي جمّدت العقل البشريّ لقرونٍ طويلةٍ. فتشكّل وعيٌ جديدٌ معارضٌ بصورٍ كلّيّةٍ للوعي اللاّهوتيّ الذي أراد توحيد العالم حول مركزٍ عقائديٍّ موحّدٍ يتجسّد فيه المعنى الوحيد للحقيقة التي لا تقبل النّقاش. ومنذ تلك اللّحظة تميّز الفكر الغربيّ بالقدرة على مراجعة ما أنجزه واشتغل عليه حتّى وإن كان يقع ضمن ثوابته. وولّد هذا الأمر خطاباً مختلفاً عمّا هو سائدٌ، خطاباً يريد أن يقطع كل الجسور مع الماضي، ومع أي نقطة إحالة مرجعية ثابتة. ويتمثّل هذا الخطاب، بصورةٍ خاصّةٍ، في خطاب جاك دريدا، الذي جاء في الأساس ليفضح الخطاب الغربيّ الذي لم يستطع في مراحله كلّها التّخلّص من مركزيّةٍ حادّةٍ تتحكّم في الوعي الجماليّ والقيميّ للإنسان. ))
و يبدأ دريدا رؤيته في تحليله التفكيكي من تشريحه للأرض ،فهو ينطلق من " البقعة السطحية ل ( بقعة الأرض) والتي تظهر وحدها للعيان ، يتم البحث بواسطة التنقيب الذي لا يفتت ما اكتشفته لأول مرة عن الطبقات التحتية السابقة (زمانياً) والتي غطت منذ أمد بعيد ، بل ظلت دوماً مخفية وهكذا فإن التمييز بين المحسوس والمعقول ليس امراً بديهياً لأنه ( لا يمكن الإبقاء على التعارض ... بين الدال signans والمدلول signatum ، بدون أن تجلب نحو الذات كل جذورها الميتافيزيقية اللاهوتية .. ) ويمكن الحديث عن أهم المعطيات النقدية التي قدمها دريدا لمشروعه النقدي التفكيكيّ من خلال النقاط الآتية:
1ـ الاختلاف : Difference.: يشير المصطلح الأول (الاختلاف) إلى السماح بتعدد التفسيرات انطلاقاً من وصف المعنى بالاستفاضة، وعدم الخضوع لحالة مستقرة، ويبين (الاختلاف) منزلة النصية (Textaulity) في إمكانيتها تزويد القارئ بسيل من الاحتمالات، وهذا الأمر يدفع القارئ إلى العيش داخل النص، والقيام بجولات مستمرة لتصيد موضوعية المعنى الغائبة، وترويج المعنى ـ حسب دريدا ـ يخضع دائماً للاختلاف، والمعنى من خلال الاختلاف يخلق تعادلات مهمة بين صياغات الدوال والاطمئنان النسبي إلى اقتناص الدلالة. إن المضي في عدم تحديد ماهية اللفظ ودلالته وضعت المتلقي في دوامة يصعب الخروج منها . إن دريدا اكابتراتيجي يقظ بصور الاختلاف كمعارض في ذاته ، (( كيف وفي نفس الوقت يمكن التفكير في الاختلا(أ)ف كدورات اقتصادي .. ومن وجهة أخرى التفكير فيه كانفاق بدون تحفظ ، كفقدان لحضور لا يعوض ، كاستهلاك لا رجعة فيه للطاقة ، بل كاندفاع موت وعلاقة بكل آخر يعيق ظاهرياً يأكل اقتصاد ...)) إنها النهاية التي لا يمكن البحث لها عن بداية أو العكس وهكذا تصبح الدوال والمدلولات عند دريدا في ضياع ...
2ـ نقد التمركز: Critique of centricity : ويُقدم المعطى الثاني من معطيات دريدا (نقد التمركز)، إمكانية كبيرة في فحص منظومة الخطاب الفلسفي الغربيّ عبر قرونه الممتدة زمنياً، والمكتسبة لخصوصية معينة في كلّ لحظةٍ من لحظاتها، بوصفها المراحل المتعاقبة للبناء التدريجي للفكر الأوربي الحديث، ويكشف هذا المعطى في الوقت نفسه عن التأمل الفلسفي المتعالي، ويعمل على تعريته، وتمزيق أقنعته بوصفها رواسب حجبت صورة الحقيقة.ويُصر دريدا على أنّ لكل تركيب مركزاً سواء كان تركيباً لسانياً أم غير لساني، فلسفياً أم غير فلسفي، وحمل التراكيب لمراكز محددة يعطي أهميةً لحركة الدوال، لأنّ المركز ـ حسب دريدا ـ هو الجزء الحاسم من التركيب، إنّه النقطة التي لا يمكن استبدالها بأي شيء آخر ويجب التفريق بين أهمية المركز بالنسبة للتركيب النصي، وبين نقد التمركز، فالمركز شيء إيجابي لحركة الدلالة والمعنى، أما التمركز فهو شيءٌ مُفتعل يضفي المركزية على من هو ليس بمركز، ويقود ذلك إلى احتكار التكثيف (Decondense)، واستبداد النموذج (Exemplarity) بمعنى قيام بنية مركزية تدعي لوحداتها النموذج المتعالي الذي يصح تطبيقه على كلّ نص، في زمان غير مقيّد، وتَوجُه دريدا في هذا الإطار كان منصباً على نقد التمركز بوصفه دلالة سلبية، ومدح المركز بوصفه العنصر المشع للدلالة، والنقطة التي ينبثق منها اختلاف المعنى.
3ـ نظرية اللعب: Theory of play. ويشير المعطى الثالث (نظرية اللعب) إلى تمجيد التفكيكية لصيغة (اللعّب الحرّ) اللامتناهي لكتابة ليست منقطعة تماماً عن الإكراهات المغيّبة للحقيقة، وتأكيد المعطى الثقافي للفكر والإدراك، وغياب المعرفة السطحية المباشرة، واستلهام أفق واسع من المرجعيات الفكرية المماثلة، والفلسفية المعقدة، والنظم المخبوءة، وطرائق التحليل الخاصة، وتتبنى التفكيكية في هذا السياق وبشكل واضح تطبيق استراتيجيات نصية وخطابية للقراءة تقلل من أهمية أيّة إحالة واثقة على منظومات (الابستيمولوجيا، والأخلاق، والحكم الجمالي) ليغدو التحليل التفكيكي ـ بعد ذلك ـ شعارات، وكلمات سرٍّ مفرغة ـ على حدّ تعبير نورس ـ من أي مضمون معرفي أو أخلاقي أو جمالي.
4ـ علم الكتابة: Grammatogy. أما المعطى الرابع (علم الكتابة) فيميل إلى منظومة دقيقة بنى عليها التفكيك أغلب مقولاته، ونقدَ من خلالها مسيرة العقلانية النسبية، وتشكل خطابها الفلسفي، واستحداث هذه المنظومة يعبر عن موقف التحليل التفكيكي من عصور اختزال الكتابة، وتهميش الدال، ونزعة التمركز حول العقل والصوت، ومجمل المعطى لعلم الكتابة (Grammatology) يعدّ نقداً لثنائية سوسير (الدال والمدلول)، ورؤيته لدور العلامة وفاعليتها في بناء النص، فالدال عند سوسير هو تشكّل سمعي وبصري، وصورة لحمل الصوت، وقد عدّ دريدا ذلك تمركزاً حول الصوت، وصورة واهمة لحمل المعنى، وقد اقترح دريدا استبدال (العلامة) بمفهوم الأثر (Trace) بوصفه الحامل لسمات الكتابة، ولنشاط الدال، وقد تحولت اللغة وفقاً لذلك من نظام للعلامات ـ كما هي عند سوسير ـ إلى نظام للآثار ـ كما هي عند دريدا ـ وتعين تلك الآثار على ترسيخ مفهوم الكتابة، وتوسيع اختلافات المعنى المُتحصل من نشاط دوالها، لذلك عدّ دريدا علم الكتابة "بأنّه علم للاختلافات".
5ـ الحضور والغياب: Presence and Absenceأما المعطى الأخير (الحضور والغياب) فيشكل تتويجاً نقدياً للمعطيات السابقة، لأنّه يمثل الثمرة المعرفية للتحليل التفكيكي، والهوية المحدِدة لـه، وهو الأصل في الرصيد النقدي للطرح التفكيكي، لأنّ جميع إجراءات المسيرة النقدية للتفكيك تخضع لحضور الدوال وتغييب المدلول، فضلاً عن أنّ معطيات (الاختلاف، ونقد التمركز، ونظرية اللعب، والكتابة) تبرز فيها بشكل مباشر ثنائية الحضور والغياب، وقد انطلق دريدا من خلال هذه الثنائية ـ إلى جانب المعطيات السابقة ـ لنقد توجه الخطاب الفلسفيّ الغربيّ، وتقويض أُسسهِ من خلال كشف تناقضاته واللّعب بأنظمته وممارساته، وتحويل معادلته المعرفية من (ميتافيزيقيا الحضور) ـ حسب مصطلح دريداـ إلى غياب المعنى واختلافه وتعدده. إنّ المراهنة التفكيكية تتجه صوب (الغياب) انطلاقاً من كون المعنى الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي غير مستقر، وغير محدد، ولذلك أسباب عديدة منها: انحدار النزعة الإنسانية وتلاشيها في أُطر التحليل المعاصر (الفلسفي، والنقدي)، وتعدد التحولات المعرفية القاضية بنشوء المذاهب والتيارات الجديدة المُحمّلة بالفكر والمعطى الثوري، فضلاً عن إثارة بعض النزاعات المعرفية والثقافية القاضية بطرح تظاهرات فكرية، ومعانٍ مختلفة، تقود إلى التحول والتناحر بين النصوص. فاللفظ / الصوت / الحضور يمثل عنده ( امتياز الان – الحاضر – mainten ani present امتياز ((يحدد مبدأ الفكر الفلسفي ذاته ..)) ، ان دريدا وفي اطار تفكيره ((قد افصح عن نوعية العلاقة القائمة دوماً بين الحضور او الوعي والصوت ، وهي علاقة لم يغطي لها حتى هوسر لنفسه ( آلا يتأسى امتياز الحضور أو الوعي والصوت ، انها بديهية لم تحط ابداً باهتمام الفينومينولوجيا ..) .
منقول