نصوص تتجنب العجائبية والفنتازيا إلى العلمية وقوانين الطبيعة
لم يكن دكتور ماكس تيكمارك، روائياً قبل أن يكتب رواية "الكون الرياضي"، بل هو عالم، استفزّته أفكار الأكوان المتوازية مع عالمنا ليجد نفسه في تجربة كتابية تُغني أدب الخيال العلمي، ليس بحكايات "العجائبية" و"الفنتازيا" فحسب، بل في نصوص تستند إلى قوانين الطبيعة، ومبادئ العلوم النظرية والتطبيقية الصحيحة، وتفسّر بأسلوب "عملي" أكثر منه "تصوّري"، الظواهر الطبيعية المحيّرة التي يقف الإنسان أمامها منذهلاً، وفضولياً في إدراك كنه أسرار الظواهر الطبيعية والماورائية.
رحلة إلى القمر
بدأ الاهتمام يتزايد في أوروبا والولايات المتحدة بأدب الخيال العلمي، منذ قصّة "رحلة إلى القمر" لعــــالم الفلك الألمانيّ يوهان كبلـــر.
العام 1630، باعتباره صانع الحلم البشري ومجسّده في شكل قصص وروايات تجمع بين دقة العلم، وسعة الخيال، لتكون رواية ماكس تيكمارك الجديدة، خطوة على طريق معالجة الأدب لألغاز علمية شائكة مثل الانفجار الكبير، والمستقبل الافتراضي، والعوالم الموازية، وأكوان الذرّة والمجرات.
قوة الخيال والرياضيات
لقد أضحى هذا الأدب، بحسب الناقد والكاتب أمير اسكندر، بحاجة ليس إلى القدرة في الصياغة الأدبية، فحسب، بل إلى قوة الخيال المستمدة من دراسة الرياضيات وعلوم أخرى متّصلة، ولهذه الأسباب فانّ النص المتّقن لا يتأتّى لأي كاتب أو أديب، إذا أراد الخوض فيه بعلمية ومهنية عالية، بمعنى أن الكاتب الروائي يحتاج إلى الخلفية العلمية، التي تؤهله إلى كتابة تحل الألغاز وتستنبط الأفكار، وابتكار تخيّلي يستند إلى قوانين الفيزياء والطبيعة.
وليس سرداً حكائياً كالذي نقرأه في الروايات العادية.
ويعتقد الكاتب انه إذا كانت الرياضيات تسعى إلى جواب للكثير من ألغاز الارقام، فإن هذا لا يعني أن علينا أن نكتب بالأرقام والمعادلات الرياضية الدقيقة فقط، بل علينا تقديم الأجوبة في رواياتنا وكتاباتنا الأدبية عبر التصور المستند إلى بديهيات رياضية وعلمية معروفة، ما يجعلنا نحتاج إلى ذلك الوعي العلمي والأكاديمي المقرون بالملاحظة والتجريب.
وأحد الذين يمثّلون هذا المنحى، اسحاق اسيموف، الروسي المولد، فلم يكن كاتب خيال علمي، فحسب بل كان عالماً أيضا، وهو حاصل على الدكتوراه في الكيمياء الحيوية من جامعة كولومبيا.
ويعد كتابه "مؤسسة" بأجزائه الثلاثة الصادرة في العام 1950 من أعظم ما كُتب من سلاسل الخيال العلمي واثّرت في أساليب الكتابة بعد ذلك، مثلما تأثّر بها مخرجو أفلام الخيال العلمي مثل هتشكوك، وفي أفلام "حرب النجوم".
أوديسا الفضاء
ومن ألمع الكتّاب في هذا المجال، آرثر سي كلارك، فهذا الرجل الحائز على شهادات أكاديمية مرموقة في الرياضيات و الفيزياء من كلية "الملك" في لندن بالمملكة المتحدة، بات مبدعاً في قص الخيال العلمي عبر سلسلة من نصوص نشرتها مجلة "الخيال العلمي" العام 1946، ثم كتب العام 1953 "نهاية الطفولة"، و في العام 2001 انتج "أوديسا الفضاء".
وعلى خطى اسيموف وكلارك، و البداية الفعلية لهذا الجنس المستحدث منذ العام 1865 مع الفرنسي جول فيرن، ثم تلاه البريطاني هربرت جورج ويلز، فإن الجيل الجديد الذي درس اللغات والشعر والرواية إلى جانب الرياضيات والفيزياء، سيكون قادراً على كتابة أدب خيال علمي Science Fiction، بإتقان يتجاوز العوالم الخيالية التي كتبت بتقنيات أدبية صرفة من دون إلمام واسع بالنظريات الفيزيائية أو البيولوجية أو التكنولوجية.
وفي حين نجح ماري شيلي في أوائل القرن التاسع عشر في تحديد ملامح شكل رواية الخيال العلمي، وتعزّز شكل هذا الكتابة لدى إدغار آلان بو، في مؤلفه "رحلة إلى القمر"، فان الكتابة العصرية الجديدة، أظهرت نصاً نوعياً عالج الكثير من مسائل الفيزياء، والكيمياء، والكون، وعالم بعد الموت، وغيرها من القضايا العلمية التي تتطلّب التخصص في المعالجة، فيما سيكون الذي درسوا بشكل أدبي صرف.
بطريقة أحادية وليست شمولية، أصحاب أميّة عاجزة عن الاشتراك في صناعة أدب المستقبل.
وفيما يتعلق برواية "العالم الرقمي"، موضوعة البحث في هذا المقال، المؤلفة من 432 صفحة، وتباع بـ 30 دولاراً في أوروبا، فأنها تروي قصة إنسان يسافر عبر أكوان افتراضية متوازية، وفق نظريات علمية تقضي بوجود أكثر من كون واحد، وفق تفسيرات نظرية الكم والرياضيات التي تختص بتفسيرات "الكونيات".
وهي تذكّر المتابعين لهذا النوع من الإبداع، بما أجاد فيه فريدريك بول، رئيس تحرير مجلة "جالاكسي" ومجلة "إف" التي نالت جائزة "هوجو" لثلاثة أعوام على التوالي، المعروف بروايته الساخرة والمعارضة لفكرة المدينة الفاضلة "تجار الفضاء"، ورواية "جيم"، وهي رواية "كئيبة" نُشرت في العام 1979 و حازت على جائزة "الكتاب الوطني".
وفي العام 1993، نال رتبة "أستاذ كبير" من جمعية "كتَّاب الخيال العلمي الأميركيين".
الأكوان المتوازية
أضِف الى ذلك، انّ فكرة الأكوان الموجودة داخل الأكوان المتوازية Parallel Universes تغري الأدب بمتعة فائقة لخوض هذا المضمار، على غرار الكاتب الفرنسي جول فيرن الذي كتب "20 ألف فرسخ تحت سطح البحر".
أو البريطاني هربرت جورج ويلز، حول نصوصه في الطاقة الذرية، والروسي قسطنطين تشايكوفسكي الذي تنبأ بالمصعد الفضائي في رواية له.
لقد اصبح بمقدور جيل جديد متعلّم المزج بين مهارة البحث العلمي وحرفة الكتابة،وإمتاع الجمهور في مؤلفات غير تقليدية تحوّل النظريات العلمية الجافة والأرقام الرياضية المجرّدة إلى عوالم من الخيال الممتع عبر روايات وقصص وأجناس أدبية تحدث ثورة في طريق المعالجة التقليدية في الرواية والقصة وأنواع المدونات الأخرى باعتمادها على السند العلمي، وليس التخيّل المحض.
فحسب، حيث يتجاوز الإبداع، أدب الخيال العلمي كصنف أدبي شائع منذ عقود، إلى النص العلمي المقرون بمهارات الكاتب الأدبية، والنص الذي يستند إلى طريقة العالِم في البحث والاختبار.
كما نجد ذلك متجسداً بوضوح في كتّاب الخيال العلمي الذي تركوا بصمات واضحة في هذا المضمار في العقود الأخيرة، مثل روبرت سيلفربيرغ، الفائز عن روايته "وقت التغيرات"، العام 1971، وأثبت فيها، قدرة الإبداع الأدبي على ترويض القوانين الرياضية الصمّاء إلى رموز ممتعة للقارئ. كما يمثّل أورسولا لي جوين في روايته "اليد اليسرى من الظلام " العام 1970 التي حازت على جائزتي "هوغو" و "سديم"، أحد الذين نجحوا في التأسيس لرواية عميقة في دلالتها العلمية.