...ليست هناك مدينة في العالم مثل بغداد صنعت تاريخها بعذاباتها ومجدها شعراؤها حتى وصفوها بجنة الخلد، ورثوها بمراثيهم أنها بعشر أرواح. تستنسخ علماءها وأفذاذها وكرامها وشعراءها مثلما تستنسخ أنذالها ولصوصها وطغاتها. أنها أعجوبة الأمل وأعجوبة الألم، وبرغم كل شيء تبقى بغداد هي بغداد كما وصفها ياقوت الحموي في معجم البلدان: "أم الدنيا وسيدة البلاد".
أخذت حمامات بغداد حيزا كبيرا من الذاكرة الشعبية البغدادية. كان حمام (السوق) جزءا من الحياة البغدادية يأخذون إليه حكاياتهم وقصصا تدخل تحت تدفق المياه الساخنة لتخرج منتعشة بذاكرة المكان،في الإحياء الشعبية القديمة من بغداد تتناثر حمامات (السوق) هنا وهناك لتكون جزءا من حياة الناس وطقوسهم الجميلة.
ويكاد المؤرخ يجزم بأن لا أحد من البغداديين من لم يدخل الحمام. وبالطبع فإن "دخول الحمام ليس مثل الخروج منه" كما يقول المثل الشعبي العامي.
أصبح الحمام في بغداد جزءا من الحياة البغدادية منذ عصور موغلة في القدم، وكثيرا ما تحدث الذين عاصروا الفترة العباسية منذ بناء بغداد عن حماماتها، وحكايات طريفة عن تلك الحمامات التي أصبحت جزءا من الفولكلور البغدادي. أما "ألف ليلة وليلة" فقد زخرت بحكايات كانت إحداثها تمر على حمامات بغداد في ذلك الزمن أما في أواخر العهد العثماني وبداية الاحتلال البريطاني لبغداد 1916 وحتى الوقت الحالي فإن الحمام البغدادي مازال جزءا من حياة بغداد الحافلة بالمعتقدات والعادات الشعبية والحكايات، ولا يوجد بغدادي في بداية ذاك القرن من لم يكن له حمامه العام الذي كان يرتاده قبل أن تصبح شيئا من الماضي، ذلك لأن البيوت التي سكنها البغداديون أيام زمان من النادر أن تجد فيها حماما خاصا إلا عندما أخذت "الخاصة" من البغداديين الموسرين تنشئ حماماتها الخاصة في الفلل والقصور والمنازل الحديثة ، إلى أن قضت المدنية على تفرد الحمام الشعبي في حياة الناس.
الأعراس كانت تبدأ من الحمامات
وبالرغم من إن الحياة الحالية غيرت من تفاصيل كثيرة في ممارسة بعض العادات والتقاليد إلا إن هناك من يبقى محافظا عليها ويمارسها حتى ولو في نطاق ضيق، هكذا تحدث صاحب حمام (الهناء) الشعبي ليقول: كانت الإعراس تبدأ من الحمامات حيث يأتي العريس وبصحبته مجموعة من أصدقائه المقربين وبعد إن يتم (غسله وتشجيعه) يخرجون به إلى الزفة، وطبعا مع اغتسال الجميع على نفقة (المعرس).
أشهر حمامات بغداد
ذكرت كتب التاريخ أن عشرة آلاف حمام كانت في بغداد في العصر العباسي الأول، حتى أن مؤرخا مثل احمد بن الحسن المنجم قال قولا ظريفا: وجدت مساحة بغداد كلها حمامات ثم طلبت بغداد فلم أجدها من كثرة حماماتها!
أما ابن بطوطة عند تطوافه في العراق فقد قال: أن حمامات بغداد كثيرة وهي من أبدع الحمامات.
كان في جانب الكرخ ـ كما يقول عباس بغدادي عن بغداد العشرينيات ـ خمس حمامات أشهرها "حمام شامي" الذي يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر الميلادي ويقع في علاوي الشيخ صندل وهو دون مستوى الأرض والنزول إليه يتم بسلم من ست درجات والحمام الثاني هو (حمام أيوب) والثالث حمام (الجسر) ويقع في مدخل جسر المأمون من جهة الكرخ بجوار مشهد بنات الحسن وحمام الملوك الذي تجاوز عمره السابعة بعد المائة
في منطقة الكاظمية ما زال حمام (الملوك) قائما ببنيانه التراثي والذي بقي محافظا عليه من زحف الأبنية الحديثة، وهذا الحمام الذي كتب على مدخله شيد عام 1900م إي منذ مائة وسبع من السنين، وبجانبه حمام (الملوك) للنساء، والمتعارف على اغلب الحمامات إن يكون هناك حمام للنساء وآخر للرجال في ذات المحلة وغالبا ما يحملون اسما واحدا ويداران من قبل عائلة واحدة ،كما إن هناك حمام (المعروف)في منطقة المشاهدة في الكرخ أيضا.
إما في جهة الرصافة فهناك من الحمامات الكثير لكون الرصافة اكبر من الكرخ من ناحية عدد النفوس وعدد (المحلات الشعبية) بحيث تجد ما بين محلة وأخرى حماما عاما، ومن أشهر هذه الحمامات حمام (حيدر) من الحمامات القديمة والمشهورة بقسميه الرجالي والنسائي ، حيث كان يقع في شارع المستنصر قرب محلة رأس القرية وينسب إلى حيدر جلبي الثري المعروف ، ويذكر انه من بقايا عشرة آلاف حمام كانت تقع في بغداد كما ذكرها اليعقوبي في القرن الثالث الهجري قبل إن يتناقص عددها ليصل في القرن السادس هـ إلى ألفي حمام .
ويقع بجوار ساحة الغريري وحمام (الشورجة) وحمام (بنجة علي) مقابل سوق الصفافير وحمام (كجو) في باب الآغا وحمام (الباشا) قرب سوق هرج وحمام (المالح) الذي سميت المحلة باسمه إلا إن أشهر حمامات الرجال في بغداد كان حمام (يونس) في محلة الميدان قرب باب المعظم والذي يغتسل فيه أبناء (المحلات) المجاورة للميدان وبعض البغداديين الذين يقصدونه من أماكن أخرى، فضلا عن حمام (يونس) هناك حمام (القاضي) بجانب المحكمة الشرعية وهذا الحمام رواده من تجار بغداد، لذا تكون الخدمة فيه ممتازة ويكون فيه أيضا لكل تاجر وميسور حال (مدلكه) الخاص الذي يعرف كيف يتعامل مع زبونه (الميسور)..
يقول الحاج عمران عبد الكريم البغدادي وهو احد المهتمين بالتراث القديم:
منذ عصور موغلة بالقدم تحدث المؤرخون عن حمامات السوق البغدادية، ففي الفترة العباسية ومنذ بناء بغداد وحماماتها زخرت بالحكايات وكانت الإحداث تمر على الحمامات وتخرج منها في ذلك الزمن، ومنذ أواخر العهد العثماني وبداية الاحتلال البريطاني لبغداد عام 1916 وحتى الوقت الحالي مازال جزء كبير من حياة بغداد حافلا بالذكريات عنها، ويقول الحاج عمران: كان لأكثر البغداديين حمامه العام الذي يتردد عليه قبل إن تصبح من الماضي فحمامات الرجال وحمامات النساء لم تكن مجرد مكان للاستحمام فقط بل هي للتعارف والتصاهر.
لذا تذكر كتب التاريخ إن عشرة آلاف حمام كانت في بغداد في العصر العباسي الأول حتى راح القول بأن مساحة بغداد تكاد تكون كلها حمامات.
إما الحاج ثامر العبيدي يقول إن حمامات الرجال وحمامات النساء لم تكن مجرد مكان للاستحمام بل هي للتعارف والفكاهة وتشير كتب التاريخ أن عشرة ألاف حمام كانت تنتشر في بغداد في العصر العباسي الأول ويضيف أن مساحة بغداد تكاد تكون كلها حمامات.
إما صاحب حمام في منطقة الاعظمية (ابو هدى) فقال” في الحمام الشعبي مكان لاستعمال الحنة البيضة وهي عبارة عن مزيج من النورة البيضاء والزرنيخ يستعمل لإزالة الشعر ومن عادات البغدادين أنهم يأكلون الرمان والنومي حلو والبرتقال في الحمام كما أنهم يستعملون الحنة لأجل صبغ شيب الرأس ومنهم من يضيف الخل للحناء لتثبيت الصبغ ومنهم من يخلط القهوة المسحونة مع الحنة ولم يقتصر استعمال الحنة والوسمة لصبغ الشيب على جنس وإنما يستعمله كلا الجنسين ولا تختلف حمامات النساء وطريقة الاستحمام عن حمامات الرجال إلا في بقاء النساء في الحمام مدة أطول يتناولن طعام الغداء مشيرا إلى إن المدلكجي يستعمل مادة الخل الطبيعي في عملية التدليك وهو معالج إلام المفاصل مع التعرض للبخار والتعرق .
حمامات للرجال وأخرى للنساء
كانت هناك حمامات للرجال فقط وأخرى للنساء أيضا. وكثير من البغداديين يتذكرون قصصا طريفة عن أيام طفولتهم وهم في سن الخامسة أو السادسة من العمر حين كانت أمهاتهم يصطحبنهم إلى "حمامات النسوان" وبعضهم لا يسمح له بالدخول برغم إن عمره كان دون السابعة. حيث كان يمنع من دخول حمام النساء من هو في سن السابعة، اعتقادا بان الولد في هذه السن يبدأ بمعرفة أشياء عن المرأة، وقبل أن تجتاز الأم عتبة الحمام مع أطفالها تكون المراقبة قد تفحصتهم جيدا واستخدمت خبرتها ودقة حساباتها في تقدير عمر الولد قبل إن تسمح له بالدخول. وتحصل الكثير من المشكلات تتطلب عادة تدخل المسؤولة.
عزوف الناس عن الحمامات
إما عن سبب عزوف الناس عن الحمامات الشعبية يقول أبو حيدر صاحب حمام في الكرادة إن السبب يعود إلى انشاء الحمامات الكبيرة والحديثة داخل البيوت فضلا عن الوضع الأمني مؤكدا إن الحمامات في الدول العربية وخاصة سوريا يعتبرونها جزءا مهما في جذب السياح وتعد حمامات بغداد من أروع الحمامات وهي ذاكرة وتراث شعبي ويشهد دخول الحمام دفع أجرة الحمام وإعطاء الإكرامية للمدلكجي وعامل الحمام والجايجي ونعيما وعوافي عليك الحمام .