{ وَيَنْعَى الإِمَامُ نَفْسَه ღ
علم الإمام المعصوم موسى بن جعفر أن لقاءه بربّه أصبح قريباً، فنعى نفسه
لبعض شيعته الخاصة، وعزّاهم بمصيبته بدل أن يعزّوه، فأوصاهم بالتمسك
بالعروة الوثقى من آل محمد (صلّى الله عليه وآله) وذلك في جوابه عن
المسائل التي بعثها إليه علي بن سويد حينما كان في السجن، فيها بعض
المسائل يسأله عنها، فأجابه (عليه السلام) بهذا الجواب:
" بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العلي العظيم الذي بعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته
ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض إليه
الوسيلة بالأعمال المختلفة، والأديان المتضادة، فمصيب ومخطئ وضال
ومهتدي، وسميع وأصم، وبصير وأعمى فالحمد لله الذي عرف
ووصف دينه بمحمد (صلّى الله عليه وآله).
أما بعد؛ فإنك امرؤ أنزلك الله من آل محمد بمنزلة خاصة، وحفظ مودة ما
استرعاك من دينه، وما ألهمك من رشدك، وبصّرك من أمر دينك بتفضيلك
إياهم، وبردّك الأمور إليهم؛ كتبت إلى تسألني عن أمور كنت منها في تقية،
ومن كتمانها في سعة، فلما انقضى سلطان الجبابرة وجاء سلطان ذي السلطان
العظيم بفراق الدنيا المذمومة إلى أهلها العتاة على خالقهم، رأيت أن أفسّر لك
ما سألتني عنه مخافة أن تدخل الحيرة على ضعاف شيعتنا من قبل حبها لهم،
فاتق الله عزّ ذكره، وخصّ بذلك الأمر أهله، وأحذر أن تكون سبب بلية على
الأوصياء أو حارشاً عليهم بإفشاء ما استودعتك، وإظهار ما استكتمتك
وإن تفعل إن شاء الله.
إن أول ما أنهى إليك أني أنعي إليك نفسي في ليالي هذه، غير جازع ولا نادم
ولا شاك فيما هو كائن ممّا قد قضى الله عزّ وجلّ وختم، فاستمسك بعروة
الدين، آل محمد والعروة الوثقى الوصي بعد الوصي، والمسالمة لهم، والرضا
بما قالوا: ولا تلتمس دين من ليس من شيعتك، ولا تحب دينهم، فإنهم الخائنون
الذين خانوا الله ورسوله، وخانوا أمانتهم، أو تدري ما خانوا أمانتهم؟
إئتمنوا على كتاب الله فحرّفوه، ودلّوا على ولاة الأمر منهم فانصرفوا عنهم
{فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} وسألت عن رجلين
اغتصبا رجلاً مالاً كان ينفقه على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وفي سبيل
الله فلما اغتصباه ذلك لم يرضيا حيث غصباه حتى حملاه إيّاه كرهاً فوق
رقبته إلى منازلهما فلما أحرزاه توليا إنفاقه أيبلغان بذلك كفراً؟
فلعمري لقد نافقا قبل ذلك وردا على الله عزّ وجلّ كلامه، وهزئا برسوله
(صلّى الله عليه وآله) وهما الكافران عليهما لعنة الله والملائكة والناس
أجمعين، والله ما دخل قلب أحد منهما شيء من الإيمان منذ خروجهما من
حالتيهما، وما زادا إلا شكاً، كانا خداعين مرتابين منافقين حتى توفتهما
ملائكة العذاب إلى محل الخزي في دار المقام.
وسألت عمن حضر ذلك الرجل وهو يغصب ماله ويوضع على رقبته منهم
عارف ومنكر فأولئك أهل الردة الأولى من هذه الأمة فعليهم لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين.
وسألت عن مبلغ علمنا، وهو على ثلاثة وجوه: ماض وغابر وحادث،
فأما الماضي فمفسر وأما الغابر فمزبور، وأما الحادث فقذف في القلوب،
ونقر في الأسماع، وهو افضل علمنا، ولا نبي بعد نبينا
محمد (صلّى الله عليه وآله).
وسألت عن أمهات أولادهم وعن نكاحهم وعن طلاقهم، فأما أمهات أولادهم فهنّ
عواهر إلى يوم القيامة نكاح بغير ولي، وطلاق في غير عدة. وأما من دخل في
دعوتنا فقد هدم إيمانه ضلاله ويقينه شكه، وسألت عن الزكاة فيهم فما كان
من الزكاة فأنتم أحق به لأنّا قد أحللنا ذلك لكم من كان منكم وأين كان.
وسألت عن الضعفاء فالضعيف من لم يرفع إليه حجة، ولم يعرف الاختلاف،
فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف. وسألت عن الشهادة لهم، فأقم الشهادة لله
عزّ وجلّ ولو على نفسك والوالدين والأقربين فيما بينك وبينهم، فإن خفت على
أخيك ضيماً فلا وادع إلى شرائط الله عزّ ذكره من رجوت إجابته
ولا تحصن بحصن رياء.
ووالِ آل محمد ولا تقل لما بلغك عنا ونسب إلينا هذا باطلاً وإن
كنت تعرف منا خلافه، فإنّك لا تدري لما قلناه، وعلى أي وجه وضعناه آمن بما
أخبرك، ولا تفش بما استكتمناك من خبرك، إن من واجب حق أخيك أن لا
تكتمه شيئاً تنفعه به لأمر دنياه وآخرته، ولا تحقد عليه وإن أساء، وأجب
دعوته إذا دعاك ولا تخل بينه وبين عدوه من الناس وإن كان أقرب إليه منك،
وعده في مرضه، ليس من أخلاق المؤمن الغش ولا الأذى، ولا الخيانة ولا
الكبر والخنا ولا الفحش ولا الأمر به، فإذا رأيت المشوه الأعرابي في جحفل
جرار فانتظر فرجك ولشيعتك المؤمنين وإذا انكسفت الشمس فارفع بصرك إلى
السماء وانظر ما فعل الله بالمجرمين، فقد فسرت لك جملاً مجملاً، وصلى الله على محمد وآله الأخيار "