إذا كنا نزعم أن ثمة ممسوك في النص يدعى المعنى فهناك حتماً على طرف معادلة الممكن الآخر ( مدفوع الغموض ) تحت طائلة اللاممسوك أو فائض المعنى ، ولأن الاشتغال القرائي معنيّ جداً بالدلالة فلا مناص من ملاحقة فائض المعنى وصولاً لعالم آخر تبنيه القراءة حتى في لا وعي القصد وإنتاج المعنى ليكون عتبة لسيرورة الدلالة ، إنه الجنوح إلى فضاء اللاممسوك في النص ، النص الذي نتجاوز به مفهوم الكتابة بين مزدوجي الورقة وفي حيز أفعال الحواس الأخرى المقيدة في صور الكائن المألوف كفعل السماع عبر المشافهة أو القراءة غير الاختصاصية بكل ما فيها من الإمعان في متعة التلقي البريء ، ولا يتم ذلك في حدود ما نحن بصدده إلا عبر بوابة النص الماثل كوجود لاحق للكتابة ومتحقق بها . إنه العالم الذي يقف جماداً كتابياً قارّاً لا يقبل الحركة إلا في حدود ما منحته بنيته النصية السطحية وعلاقات النحو ، لكنه ما يلبث أن يغرقنا في فوضى خداعه بمجرد أن ندلف لبنيته العميقة ، فوضى نرى فيها أنفسنا ـ بذاتها وآخرها ـ نرى فيها ذلك التداخل في عوالم الممكن ، عالم يفضي إلى عالم .
إن الشروع في الكشف عن المعنى الفائض وملاحقة الدلالة في عوالمها المتعددة المتداخلة في نص ( قراءة من رغيف ) للشاعر ( حيدر هلال التميمي ) يسلتزم الإمساك بــ ( فرضيات نصية ) طرحها النص في بنيته القارّة ليخاتل فعل القراءة والقارئ ويغريهما باكتشاف أفق ما وراء البنية السطحية للنص ، وهنا نقف على بعض الكشوفات القرائية التي أتاحها التأمل في النص .
تبرز في النص ثلاث أيقونات تشكل بؤرة القراءة الفاعلة بإزائه ، وهي : أيقونة الفعل ، أيقونة اللون ، أيقونة الدين .
وتتجسد الأولى في حضور فعل الأمر حضوراً إرغامياً وأساسياً في النص ، ويمكن انتقاء فعل ( دع ) من تلك الأفعال المسيطرة على الإسناد الفعلي ، إذ من خلال هذا الفعل يمكننا كشف ملامح هذه الأيقونة ، الفعل ( دع ) يرد ثلاث مرات في :
1 ـ في عتبة النص المتمثلة بمطلع القصيدة
2 ـ في بداية المقطع الثاني
3 ـ في خاتمة النص المتمثلة بآخر أبيات القصيدة .
وفاعلية هذا الفعل تتجسد في الجملة اللاحقة للفعل لتُشهِر العملية التركيبية في الإسناد وما تخفيه وراءها من دلالات ، جاء الفعل الأول بجملة ( عنك من سئموا ) ، وجاء الفعل الثاني بــ ( عنك وعداً ) ، في حين جاء الفعل الثالث بــ ( عنك من سئموا ) إذ كررها الفعل الثالث نسخة أخرى لضمير قول الفعل الأول ، وهذا ما يقودنا لعلاقة التوسط في تشكل بؤري للجملة الثانية ( عنك وعداً ) .
أما أيقونة اللون فتحضر في التشكل النصي عبر ثلاثة ألوان : أسمر ، أبيضاً ، اخضرار ، لنصطدم بتوسط اللون الأبيض في منتصف المسافة التي شكلت أيقونة اللون بمجموع ما طرحته من ألوان صرح بها النص ، الأبيض بما له من دلالة مألوفة ضمنية على مستوى مكشوف .
في حين حضرت أيقونة الدين لتجوس النص عبر :
ليؤمنوا ، خطيئة التقوى ، فتواك ، يكبّر ، مسيحك ، مآذن ، الغفران ، دعاؤهم ، ورعاً ، مسبّحاً ، اهتدائك ، غيب .
إن ما تبدو عليه أيقونة الدين هنا أشد تعقيداً من سابقتيها وأكثر إيغالاً في الخفاء ، كما إنها أثرى في مرموزاتها المصرح بها نصياً إذ بلغت 12 ، في حين كنا مع 3 تصريحات لكل من الأيقونتين السابقتين ، وفي محاولة الكشف عن ملامح هذه الأيقونة ـ التي تخفّت خلف تعدد مرموزاتها ـ وتشكيل العلاقات الممكنة قرائياً نجد أنفسنا أمام صعوبة تصنيف المصرح به ، إذ تتفاوت العلاقات في الانتقاء بين : دلالة الجمع والإفراد كما في ( ليؤمنوا ، مآذن ، دعاؤهم ) ( فتواك ، يكبّر ، مسبّحاً ..... ) ، ودلالة الأفعال ( ليؤمنوا ، يكبّر ) ودلالة الضمائر ( فتواك ، مسيحك ، اهتدائك ، دعاؤهم ) وهكذا تستمر عملية الانتقاء والإقصاء الدلالي حتى لا تصل إلى نتيجة تكون مستوفية لجميع هذه التصريحات في دلالة كلية تخصها ، مما يؤشر بإلحاح حالة تشتت انتابت عناصر أيقونة الدين ، وكأن النص يُظهر عصب اضطرابه وقلقه وتشوشه في هذه الأيقونة ، أيقونة الدين هي بؤرة اضطراب النص وتصاعد الحالة الانفعالية له على المستوى النصي ، كما أننا نصدم بــ ( خطيئة التقوى ) كعامل تعارض منطقي ، وإذا كان منطق النص يعارض المنطق الرياضي ، متواطئاً مع منطق الفن ـ الجامح بكل أبعاده في مخالفة المعقول ـ فإن هذا التصريح النصي ـ خطيئة التقوى ـ يمثل المنطق النصي ، ولذاك يكتسب أهميته داخل التمثيل الأيقوني للدين في النص فيرغم فعالية الانتقاء داخل سيرورة التأويل على اختياره من بين التصريحات المختصة والمشكلة لهذه الأيقونة ، ومنه يكتسب أهمية في دلالة الأيقونة هذه وما تريد أن تلمح إليه داخل النص ، خصوصاً ما لو لاحظنا العلاقة الخفية بين ( خطيئة التقوى ) ـ بكل ما تحمل من جموح دلالي ـ مع عنصر غامض بقي في منطقة السكوت النصي لم يصرح به مقولاً حتى يدخل كعنصر من عناصر أيقونة اللون ، إنه ( فاقع ) إذ أعطاه النص صبغة الوصف المتعلق تداولياً باللون دون أن يمنحه هويته اللونية ، ( فاقع ) غامض يقارب الغموض المنطقي لــ ( خطيئة التقوى ) ، ( فاقع ) أوجده النص في بيته الثالث الممثل لعلاقة التوسط مع البيت السادس الذي تصدّره ( من أنت يا ؟ ) ليسكت النص عن المنادى ويبقيه في ذمة الغموض أيضاً !! ، وإذا كان الاستفهام عن ( أنت ) بما لهذه المفردة من دلالة تعريفية للذات والهوية والكينونة مقترنة بأبعادها الزمنية الثلاثة أجابه النص بالصمت فإن ( فاقع ) صمت نصي آخر ، وليتصاعد تشنج النص حين يدلف للدين بــ ( خطيئة التقوى ) ، معاضداً ومرتبطاً بالتوسطات السابقة في أيقونتي الفعل واللون ، الفعل في توسط ( دع عنك وعداً ) ، واللون في توسط ( أبيضاً ) كفرار نحو النقاء ، الصفاء ، البساطة وعدم التعقيد ، إنه السيد ( بين بين ) بتوسطاته المفجعة والدالة على صخب الاستنكار ، فجيعة منتصف كل شيء : العمر ، الأيديولوجيا / الدين ، الحب ، الذات ، وعلاقتها بالآخر .... بكل ما تحمل هذه الفجيعة من التناقض الصارخ داخل الشيء الواحد : الذات الواحدة ، الآخر الواحد ، الشيء الواحد بكل عمقه المعنوي ، فجيعة الألوان : الأبيض الأسود ، فجيعة المقدس والمدنس .
أيقونة الدين فضحت علاقات النص وصرحت به عصباً للإجهاد وأزمة للنص كمقاربة للذات .
عمر عباس 19 / 5 / 2014
قصيدة قراءة من رغيف للشاعر حيدر هلال التميمي
http://www.dorar-aliraq.net/showthread.php?t=308362