الحزب السياسي
تقوم مقولة النظام السياسي في الدولة الحديثة، على جدلية العلاقة بين السلطة الممثلة بالحكومة من جهة. والشعب من جهة أخرى. وتعكس الطموحات السياسية مجمل المعتقدات والأهداف والمصالح للفئات والطبقات الاجتماعية، وينجم عن هذا التباين المتعدد الأسباب، تيارات فكرية داخل المجتمع، تكتسي طابعاً سياسياً، يعبر عنها ما يسمى (المجتمع السياسي). الذي يتشكل من مجموع القوى الفاعلة والإيجابية للشعب والتي تتبلور في إطار الأحزاب السياسية، وقوى جماعات الضغط والنقابات والهيئات الأخرى، الاقتصادية والاجتماعية. وهذه القوى الفاعلة في المجتمع السياسي، لاينبغي أن تكون بالضرورة جزءاً من السلطة، بل إنها قد تمارس السلطة، أو تمارس نشاطها في المعارضة، وخارج الحكم. وهذا ما يضبط معيار التمييز بين المجتمع السياسي والسلطة.
وإذا كان المجتمع السياسي، لايقتصر على فاعلية الأحزاب السياسية فحسب. فإن هذه الفاعلية، تصبح ضرورية كي تتبلور الأشكال السياسية لنشاط الفئات الاجتماعية، وتحولها إلى قوى تستجيب للنضال المطلبي في ساحة العمل السياسي.
فالحزب السياسي political party شكل من أشكال التعبير عن تيار فكري، يتخذ طابعاً تنظيمياً للقوى الاجتماعية المعبرة عنه، والتي تمتلك مواقف ورؤية سياسية موحدة، وتستهدف ممارسة السلطة، وفق برامج معلنة تنطوي على معالجة المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، للشعب والدولة. وبهذا الوصف، يكون الحزب وعاءً تنظيمياً للفاعليات الاجتماعية التي يمثلها، يتوسط بين النظرية والممارسة، ويحقق الصلة بين أعضائه من أجل بلورة إرادة موحدة لهم، ينبثق عنها مناهج عمل وأساليب أداء. وبذلك، فإن مقولة الحزب السياسي، ترتكز على توافر ثلاثة أبعاد، وهي «النظرية والتنظيم والممارسة».
ولكن ذلك لايجعل الأحزاب تتطابق وفق نموذج واحد. بل تأخذ أشكالاً ونماذج متعددة تخضع للاعتبارات الإيديولوجية، والبنية الاجتماعية للحزب، ووسائل تحقيق الأهداف والمصالح، وطبيعة الأنظمة السياسية التي تعمل في إطارها.
وقد شهدت الحياة السياسية في ديمقراطية أثينة، بداية مولد فكرة الحزب السياسي، إذ ظهر في هذا النطاق، بعض الأحزاب التي عبرت عن التيارات الفكرية والاجتماعية المتصارعة في ذلك العصر. من خلال حزب «الأوليغارشيه» الذي كان يمثل مصالح «الأقلية الثرية» وأهدافها. ويدعو إلى ضرورة هيمنتها على السلطة، والحزب «الديمقراطي الشعبي» الذي كان يمثل تيار عامة الشعب في المجتمع الإغريقي.
كذلك عرفت الامبراطورية الرومانية، نظام الأحزاب، الذي عبر عن الصراعات التي دارت في الحلبة السياسية للسيطرة على الحكم.
كما أشار القرآن الكريم في سورة الأحزاب، إلى جماعات المشركين الذين ناهضوا الرسولr في دعوة الإسلام، ووصف حلفهم بجماعة الأحزاب.
وإذا كان مفهوم الحزب السياسي، يعود إلى ذلك الزمن، فإن دوره قد تنامى في الحياة العامة، وأخذ بعداً واضحاً، فأصبح أحد مقومات النظام السياسي في العصر الحديث، منذ بدايات الدولة المعاصرة، ولاسيما في نظام الديمقراطيات التقليدية التي تقوم على مبدأي التعددية الحزبية، وتداول السلطة.
في مثل هذه الأنظمة السياسية تؤدي الأحزاب السياسية دوراً مهماً في هيكل النظام، وتستجيب لطبيعته المؤسسة على الشرعية الدستورية، القائمة على تداول السلطة بطريقة الانتخابات، واختيار ممثلي الأحزاب إلى البرلمان أو إلى الحكومة. ولذلك فإن الحزب السياسي في الديمقراطيات التقليدية يأخذ طابع التجمعات المصلحية، التي تهدف من خلال وسائل أدائها، الوصول إلى السلطة وعدّها غاية تسبق الأهداف الإيديولوجية التي تنادي بها. فيتقدم السياسي المصلحي على الفكري المبدئي. والمصالح الانتخابية على المصالح الاجتماعية للطبقات. وعلى هذا الأساس فهي تمتلك برامج سياسية واقتصادية ذات أهداف عريضة مرحلية، تتعلق بفئات اجتماعية واسعة متباينة المصالح.
وتلجأ الأحزاب السياسية المتقاربة الأهداف في مثل هذا النظام، إلى إنشاء تحالفات عريضة ذات طابع سياسي، تتخذ شكل تجمعات برلمانية، لممارسة اللعبة البرلمانية التي تعد وسيلتها في الأداء، وتحقيق غاية الوصول إلى السلطة، أو العمل ضد الحكومة في إطار المعارضة.. وتنضوي هذه التجمعات تحت مسميات مختلفة، تعبر عن الخطوط السياسية العريضة التي تلتقي عندها أطراف هذا التجمع. سواءً كان تحالف اليسار الذي يعلن عن برامج سياسية واجتماعية ذات اتجاهات اشتراكية تستجيب لمطالب وأهداف الفئات الاجتماعية الفقيرة والطبقات الكادحة، أو تحالف اليمين الذي يعبر عن نفسه من خلال برامج تأتي متطابقة إلى حد بعيد مع مصالح الفئات المحافظة، والفئات الاقتصادية الثرية من رأسماليين وبرجوازيين واحتكاريين، من خلال نظام الاقتصاد الحر. أو تحالف أحزاب الوسط الذي يتخذ مواقف وسطية بين الطبقات المتصارعة والتيارات السياسية، ويحاول التوفيق بين الأهداف والمصالح للطبقات الاجتماعية وأهدافها السياسية.
غير أن الأحزاب والتحالفات السياسية، والتجمعات البرلمانية، في مثل هذه الأنظمة، لاتغطي كامل النشاطات المتعلقة بالقرارات السياسية والوطنية، بل تؤدي قوى أخرى داخل المجتمع السياسي، دوراً مختلفاً عن دور الأحزاب والتحالفات والتجمعات، من حيث الأداء، وطريقة التأثير في تحقيق الأهداف، وتتمثل بقوى جماعات الضغط التي تعمل بشكل غير مباشر، وغير ملموس، وبطريقة خفية، من أجل صناعة القرارات السياسية الاستراتيجية في النظام السياسي. وتتميز جماعات الضغط بامتلاكها أيديولوجية سياسية وأهداف استراتيجية، قد تتجاوز النطاق القومي إلى النطاق الدولي. ومن أجل تحقيق أهدافها، فإنها تعمد إلى أداء عملها بطريقة منهجية منظمة، لتقوية نفوذها في التأثير على قرارات صانعي السياسة. ولهذه الغاية فإنها تستخدم الأحزاب السياسية كوسيلة من وسائل تحقيق أغراضها. وتوزع نشاطاتها على الأحزاب والهيئات والنقابات والفاعليات الاقتصادية الكبرى كافة، وتتسرب إلى مفاصل صنع القرار، ولاسيما المتعلقة بالقرارات الاستراتيجية السياسية والاقتصادية التي تمس أهدافها مباشرة. وترى هذه الجماعات أن وسيلة صياغة الرأي العام ضرورية لتقبل مشروعاتها وخططها، ولذلك فإنها تجهد من أجل السيطرة على وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة، لتستخدمها في إشاعة الأفكار والمقولات التي تسهم في خلق مناخ نفسي وفكري لدى الرأي العام، للقبول بقرارات صانعي السياسة التي تخدم أغراضها، ولا تتورع هذه الجماعات عن اللجوء إلى أساليب التخريب والإفساد والرشوة، حين تقتضي الضرورة، وتفشل وسائل إخضاع صانعي القرار بالطرق الأخرى، وتعمل بطريقة فاعلة من أجل الوصول إلى هدفها والتغلغل في مراكز القرار الحكومي، والبرلمانات، بوصفها الأدوات المباشرة في صنع القرار. ومن جماعات الضغط المعروفة في الولايات المتحدة الأمريكية، اللوبي الصهيوني، اللوبي النفطي، لوبي الأسلحة.
وإذا كان للأحزاب السياسية شأن بارز في تكوين هيكل النظام السياسي وآليات عمله، وتنظيم العلاقة بين السلطة والشعب، فإن طبيعة النظام أيضاً تؤثر جوهرياً في أداء الأحزاب وتركيبها الاجتماعي، ووسائل نضالها، وغاياتها. ففي النظام الديمقراطي البرلماني، الذي تكون فيه الأولوية للسلطة التشريعية على حساب السلطة التنفيذية تكتسب الأحزاب حضوراً واسعاً في الحياة السياسية، يختلف عن حضورها في الأنظمة الرئاسية، التي تتقدم فيها السلطة التنفيذية على التشريعية.
ومنذ أن انتصرت بعض الأحزاب الثورية، في تقويض نظم الحكم بوسائل الثورة الشعبية وتقلدها السلطة في بعض البلدان، ظهر مفهوم الحزب القائد الذي يعد نفسه طليعة سياسية للقوى الشعبية الكادحة المنظمة، في إطار تنظيمات شعبية ومهنية واجتماعية، ذات طابع نضالي ومطلبي(من العمال والفلاحين والمهنيين والحرفيين) يمارس السلطة باسمها، ويعكس مصالحها وأهدافها، ويقود نضالها، ولذلك فهو ينظم قيادته، عبر سلطة سياسية جديدة، وهياكل وآليات مغايرة لأنظمة الديمقراطيات التقليدية.
وقد يلجأ الحزب الثوري، إلى إضافة رديف من أحزاب سياسية، تنضوي تحت إيديولوجية الحزب القائد، وتحمل توجهاته الأساسية، في صيغة جبهات سياسية وطنية وتقدمية، ذات طابع ملتزم بقضايا الثورة والطبقات الكادحة.
ولعل اختلاف دور الأحزاب ووظيفتها في النظام السياسي وأنماط أدائها وممارستها لدورها، ينعكس في اختلاف بنية هذه النماذج من الأحزاب. من حيث أهمية التنظيم، وطبيعة العلاقة الداخلية بين أعضائها، وتركيبها الاجتماعي.
ولقد أفرزت بعض نظم الحكم الشمولية، التي سادت في مرحلة الصراعات القومية في أوربا، ولاسيما في المدة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، نشوء ظاهرة الحزب الواحد. والذي يأتي نتاجاً خالصاً للنظام، وإيديولوجيته وسياسته. بحيث يعكس هذا الحزب، الإطار الوحيد للتعبير السياسي للشعب، ويكون الوسيلة الوحيدة للمشاركة السياسية للمواطن. وينحصر العمل السياسي بالموالاة للنظام ولصالح أهدافه. وقد مثل الحزبان الفاشي في إيطاليا والنازي في ألمانية ـ نموذج هذه الظاهرة ـ التي استمرت في بعض نظم الحكم العسكرية الاستبدادية، التي سادت في أوساط مختلفة من بلدان العالم، ولاسيما النامية منها فيما بعد.
وتفتقد هذه الأحزاب إلى العلاقات الديمقراطية في تنظيمها، بحيث يؤسس على طاعة الأعضاء المطلقة لقياداتهم، والتنفيذ الكامل لإرادة القيادة السياسية وفق طقوس وتقاليد ترسمها. حين تنشئ الحزب بقرار سلطوي فوقي.
ثمة تمايز بين مفهوم الحزب القائد والحزب الواحد. من حيث علاقة التنظيم بالجماهير. ففي حين يولد الحزب القائد استجابة لحاجة جماهيرية من القاعدة الشعبية وقبل الوصول إلى السلطة، فإن الحزب الواحد تنشئه السلطة ليستقطب الجماهير، وبينما تسود الديمقراطية المركزية علاقات الأعضاء بين بعضهم، وبين قياداتهم في الحزب القائد، فإن الطاعة والخضوع هي التي تحكم العلاقة بين الأعضاء والقيادات في الحزب الواحد، وفي حين يستجيب الحزب القائد لمتطلبات الجماهير وقضاياها في صياغة استراتيجيته وسياسته. فإن الحزب الواحد هو الذي يفرض على الجماهير سياسته في صيغة تعليمات وأوامر لها طابع قدسي.
ومثلما أن الأحزاب، تتأثر بطبيعة النظام السياسي وتؤثر فيه. كذلك فإن الإيديولوجية والعقائد، ومناهج التفكير تؤثر بوضوح في طبيعة هذه الأحزاب وتوجهاتها الفكرية. ولذلك فقد أدى ذلك إلى نشوء أحزاب سياسية ذات طابع عقائدي فظهرت الأحزاب الدينية، التي تؤسس بناءها السياسي ونشاطها على منهج الفكر الديني ذي الطابع المقدس عموماً. والأحزاب العلمانية التي تستند إلى التمييز بين الروحي والزمني، وإلى الاعتراف بوجود ميدان متخصص لعمل العقل، هو الميدان الزمني، وتتبع منهجاً علمياً في التفكير والتأمل في الوجود والواقع، وإلى البحث عن حقائقه خارج نطاق المسلمات الدينية المقدسة، وإيجاد الحلول للمشكلات الإنسانية والاجتماعية بوسائل التفكير العلمي، وصياغتها في برامج سياسية واقتصادية واجتماعية.
سامي هابيل