إنها نكبة الأمتين وليست نكبة فلسطين

اسماعيل القاسمي الحسني


الخامس عشر من أيار 1948، بات تأريخا لبقية من الفلسطينيين وبعض بقية من غيرهم، ليوم عصيب على الشعب الفلسطيني، نعتقد أن قراء صحيفة “رأي اليوم” بغير حاجة لتكرار فواجعه، من قتل وتهجير لما يقرب مليون فلسطيني، وهدم ما يزيد عن 500 قرية، وغيرها من النوازل التي يشيب لها الولدان، جرى بخصوصها حبر كتاب ومؤرخين وباحثين، متسابقا غير متجاوز ولا حتى لاحق لأنهار الدماء التي سالت، ولورفعت أكوام كتبهم لما طاولت جبال جثث الضحايا الشهداء.
لكن لدينا وقفة تأمل في العبارة التي درجت على ألسنة الكثير بمناسبة هذا اليوم من كل عام، واعتمدها الاخوة في كتبهم ومقالاتهم، وهي “ذكرى نكبة الشعب الفلسطيني”، استوقفتني هذه الجملة أول أمس، وقلبتها في عقلي كثيرا فلم تجد لمنطقه مدخلا، كل أبواب الفهم على قلّتها وصغر حجمها اوصدت، بل أحكمت دونها أقفال الإدراك؛ عن أي ذكرى وعن أي نكبة وعن أي شعب؟ فكّكت الجملة فتعذر هضم مفرداتها، ركبتها على النحوالمتداول اعلاميا، فتصلبت شرايين المروءة فزعا من أبعادها الغائرة، قد أكون مخطئا لا شك في ذلك، ولهذا استعين هنا برأي القراء في تصويب وجهة نظري.
حين نقول “إحياء ذكرى” فالمعنى الذي يتبادر الى المتلقي المتواضع الفهم مثلي، وهويشكل الشريحة الأوسع في عالمنا العربي، أنه حدث وقع وانتهى، بمعنى نقول ذكرى وفاة فلان مثلا، ولم يدرج في الأفهام قول ذكرى الاستقلال، بل ما ألفه الناس قول عيد الاستقلال، والفارق هوالاستمرارية؛ ما حدث 15 أيار كان احتلالا لأرض وتشريد شعب وجرائم قتل فضيعة، هل انتهت ولم تعد سوى ذكرى نحييها؟ أتفق تماما مع الشاعر الفلسطيني سميح القاسم حين رفض وصف اليوم بذكرى وقرر بأنه حالة ممتدة من قبل ذلكم التأريخ الى يوم الناس هذا، فالواقع الماثل أمامنا أن القتل لم يتوقف، ولا تهجير الشعب الفلسطيني وتشريده توقف، ولا قطعا احتلال الأرض انتهى، بل مازال العدويذيق الشعب الفلسطيني يوميا، كؤوس هذه الجرائم بمنحنى متصاعد ويحتل ما تبقى من الأرض.
أما القول “نكبة” فهويحيلنا الى ابداع مفردة “النكسة” لعام 67، وإن كان محمد حسنين هيكل قد برر خيار هذا الاصطلاح بتخفيف وطأة الهزيمة على نفسية الشعب، وحماية لكرامته دون الانكسار، وغرقه بالتالي في قاع الاستسلام والاحباط، مع التحفظ بخصوص هذا الرأي، فحالة الشعب الفلسطيني لا يمكن تحت أي مصوغ أن نعتمد ذات الحجج، الحالة الاولي هزيمة عسكرية واحتلال جزئي للأرض، مع وجود مخزون هائل يُنبئُ بتجاوز المحنة وتدارك ما فات، أما فلسطين فبالعودة للوقائع التي فصلها عبد الله التل وأحمد عبد العزيز والحسيني رحمهم الله وغيرهم، نقف على خيانة عربية متعمدة، وهزيمة مدوية صاعقة، واحتلال يحمل كل قرائن التمدد والتوسع، ومواصلة جميع انواع الجرائم البشعة ضد الشعب الفلسطيني والجغرافيا الفلسطينية؛ إنها هزيمة صارخة وليست مجرد نكبة أونكسة.
أما إذا عدنا لتركيب هذه المفردات في سياق الجملة المتداولة “إحياء نكبة الشعب الفلسطيني”، فأول ملاحظة هي الايحاء بأن الحدث “النكبة” تعني حصرا الشعب الفلسطيني والدولة الفلسطينية، كأنما الدول العربية والاسلامية وجميع شعوبها غير معنية بها، وكأنها قدمت كل ما يجب عليها غير أن الشعب الفلسطيني أصيب بنكبة؛ وهذا الايحاء ليس إلا هروبا من الواقع، والتفافا غبيا عن الحقيقة، فما حدث 15 ايار 1948 هزيمة مشينة للأمتين العربية والاسلامية، بل أبعد من ذلك نقول الشعب الفلسطيني براء منها تماما، من يعود الى تاريخ الوقائع سيقف على مصائب وخيانات سوداء عربية واسلامية، أخطر من ذلك أن الشعب الفلسطيني حُرم من الامداد بالسلاح، وسُحب المجاهدون العرب بأوامر فوقية، أوتركوا لوحدهم حين عصوا الأوامر في مواجهة عدويتلقى المدد من جهات عديدة، إذن إذا أردنا قول الحقيقة ففلسطين وشعبها أصيبوا بنكبة في أشقائهم العرب واخوتهم المسلمين وليس على يد العدو، والوجه الثاني لهذا اليوم هوهزيمة الأمتين العربية والاسلامية هزيمة نكراء أمام عدوجبان بطبعه. وهناك من يبرر عجز العالم العربي حينها بكون معظمه كان يحارب من أجل الحرية؛ وليكن ذلك.
إذا دعونا من التاريخ وتفاصيله فتلك أمة قد خلت، وتعالوا الى واقع اليوم الذي نشاهده ونشهد تفاصيله، وكل العالمين ينعم بالحرية والاستقلال، ماذا تُقدّم الأمتان (العربية والاسلامية) لفلسطين وشعبها بصراحة؟ حين دعا وزير الخارجية اللبناني عدنان منصور العام الماضي نظراءه في القاهرة لضرورة دعم المقاومة الفلسطينية، أجابه أحدهم على المباشر بقوله “نحن نعاج”، لكن في ذات الاجتماع وتحت قيادة ذات المجيب تقرر دعم ما يسمونه “المقاومة” السورية بكل الوسائل، لقد أثبت العرب قدرتهم بإرادتهم فعل المستحيل بخصوص سورية المحتلة حسب تقدير بعضهم، ومع علمهم أن وراء القيادة السورية كذلك قوى عظمى لا يستهان بها، ولا تقل قدرة وتأثيرا وميزانا عن الولايات المتحدة وحلفائها، مع ذلك قرروا بأن محاربة القيادة السورية “واجب شرعي وفرض ديني”، وأن محاربة الشعب الفلسطيني للمحتل الاسرائيلي “مغامرة حمقاء”، وعملوا ما أمكنهم على تسليح “المقاومين في سورية”، وفي المقابل لم يطبقوا الحصار فقط على غزة حيث المقاومة، بل اعتبروا فصائها مجموعات ارهابية يُجرّم كل من ساعدها، أخطر من ذلك حين جعلوا من أهم مرتكزات تصنيف ايران عدوا، هومساعدتها لفصائل المقاومة الفلسطينية؛ العالم يشهد على مليارات الدولارات التي تنفق من قبلهم على المعارضة السورية، وعشرات الملتقيات والمؤتمرات في مختلف عواصم العالم، في حين لم تعقد لجنة القدس المؤسسة من قبلهم منذ اثني عشر عاما ولم تتلقى ولوجزءا مئويا مما أنفق لتحرير سورية خلال عام واحد، أليست فلسطين والقدس قلبها وقلب الامة الاسلامية محتلة؟ نحن نرى بأم أعيننا اصرار هؤلاء القادة على قطع أي اتصال مع القيادة السورية تحت عناوين مشهرة، لكن وفي المقابل نرى إصرار ذات القادة على التملق للتواصل مع كيان الاحتلال الاسرائيلي الذي يحمل ولا شك وبالإجماع، ذات الصفات التي ألصقت بالقيادة السورية.

أسئلة كثيرة تدور في خلد المرء حول مفارقة مواقف القادة العرب من قضايا عربية عديدة، لكن السؤال الأخطر هو: ماذا قدموا عمليا للشعب الفلسطيني وقضيته؟ النعجة نعجة في كل احوالها، ولا يمكن أن تستأسد في حال، وفي ظل ازدواجية الموازين الفاضحة والمفضوحة، كيف يتأتى لنا أن نلصق النكبة “الهزيمة” بالشعب الفلسطيني؟ بل هي مصيبة هذا الشعب في أمتيه العربية والاسلامية، وهي حاضرة لا تحتاج لذكرى، فنحن نحياها يوميا عبر شاشات الفضائيات ونعيش تفاصيل الجرائم التي ترتكب في حقه، وحق فلسطين تاريخا وجغرافيا، أقترح تسمية هذا التأريخ 15 أيار بيوم هزيمة الأمتين، عسى أن يكون لهذا الوصف الواقعي تأثير يستنهض همم الرجال لمحوهذا العار الذي طال لبوسه……صححوا لنا إن كنا أخطأنا.



فلاح جزائري
راي اليوم