بسم الله الرحمن الرحيم
دخل الامام عليه السلام الى المدينه
والناس يزدحمون حول فسطاطه وكان معه بشر بن حذلم، خرج الإمام ليقابل الجموع الغفيرة المحتشدة لتقدم التعازي، ومعه خرقة يمسح بها دموعه. أخرج الخادم له كرسياً فجلس عليه وهو لا يتمالك من العبرة، ارتفعت أصوات الناس بالبكاء من حوله فأومأ بيده إليهم أن اسكتوا وقال:
(الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، بارئ الخلق أجمعين الذي بعد فارتفع في السماوات العلى، وقرب فشهد النجوى نحمده على عظائم الأمور وفجائع الدهور وألم الفجائع ومضاضة اللواذع وجليل الرزء وعظيم المصائب الغاظعة الكاظة الفادحة الجائحة. ثم
تابع قائلاً: إن الله وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة وثلمة في الإسلام عظيمة قتل أبو عبد الله وعترته وسبي نساؤه وصبيته وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية.
أيها الناس فأي الرجالات منكم يسرون بعد قتله أم أي فؤاد لا يحزن من أجله، أم أي عين منكم تحبس دمعها وتضن عن أنهما لها وأي قلب لا يتصدع لقتله، وأي فؤاد لا يحن إليه، وأي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصم. أيها الناس أصبحنا مطرودين مشردين مذودين شاسعين عن الأبصار من غير جرم اجترمناه ولا مكروه ارتكبناه ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هذا إلا اختلاق، والله لو أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا فإنا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفظعها وأمرها وأفدحها فعند الله نحتسب ما أصابنا وما بلغ منا إنه عزيز ذو انتقام.
عندما سمع الجماهير خطابه هذا أثر في نفوسهم إلى حد بعيد فارتج المكان بالبكاء والعويل وشعر المسلمون بتلك الصدمة العنيفة التي أصابت الإسلام في الصميم. مما أثار في ضمائرهم الهامدة روح النضال والدفاع عن الحق المهدور، ودب في نفوسهم الشعور بالإثم والتقصير، فلم السكوت عن كرامتهم التي أصبحت تداس تحت أقدام يزيد الفاجر والمجرم بعد أن أقدم على قتل سبط الرسول وريحانته وسبى نسائه.
من هنا كانت ثورة التوابين والمختار بن أبي عبيدة الثقفي فقد استماتوا لأخذ ثأر الدم المهدور وذلك للتكفير عن تخاذلهم عن نصرة الإمام الحسين والخضوع للظالمين. ثم استمرت الثورات تقودها روح كربلائية حطمت عروش الأمويين الطغاة وقامت بعدها دولة العباسيين.
دخل الإمام زين العابدين المدينة وهو يكفكف دموعه، فرآها موحشة يخيم على أهلها الحزن والأسى، وديار أهله خالية تنعى سكانها فانصرف عن شؤون الناس ولم يكن يعنيه شيء من الدنيا ومن فيها. فشرع يبكي على أبيه المظلوم وعلى أخوته وعمومته الشهداء حتى عده المحدثون البكائين.
فماذا يعمل؟ أيأخذ بالثأر، أم يصبر وفي العين قذى؟ إن الظروف لا تسمح له بأخذ الثأر وقد شاهد تلك المصيبة الفادحة والمؤلمة في كربلاء، وأدرك أن وقعة الطف الدامية قد كفته أعباء الحرب بإظهارها ضلال الأمويين وظلمهم وطغيانهم. وهنا بعد أن تحمل أعباء الخلافة الإلهية من أبيه وأصبح حجة على خلقه، آثر الاعتزال والبعد عن الضجيج ليحفظ دمه الز كي ودم شيعته الأبرار.
روى الشيخ الصدوق بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: (البكاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلي بن الحسين (عليهم السّلام).
فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية.
وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره وحتى قيل له: (تالله تفتئ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين).
وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا له: إما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار، وإما أن تبكي النهار وتسكت بالليل فصالحهم على واحدة منهما.
وأما فاطمة فبكت على رسول الله حتى تأذى بها أهل المدينة، فقالوا لها: قد آذيتنا بكثرة بكائك فكانت تخرج إلى مقابر الشهداء فتبكي حتى تنقضي حاجتها.
وأما علي بن الحسين فبكى على أبيه عشرين سنة ما وضع بين يديه طعام إلا بكى حتى قال له مولاه: أما آن لحزنك أن ينقضي فقال له: ويحك إن يعقوب النبي كان له اثنا عشر ابناً فغيب الله عنه واحداً منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه وشاب رأسه واحدودب ظهره من الحزن وابنه حي في دار الدنيا وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر رجلاً من أهل بيتي مضرجين بدمائهم حولي فكيف ينقضي حزني.
وكان (عليه السّلام) لا يترك مناسبة إلا ويذكر فيها ما جرى لأبيه واسرته في كربلاء، وأحياناً كان يبحث عن المناسبة ليحدث بما جرى لأهل بيته، فيذهب إلى سوق الجزارين في المدينة ويقف معهم يسألهم عما إذا كانوا يسقون الشاة ماءً قبل ذبحها، وعندما يسمعهم يقولون: إنا لا نذبح حيواناً قبل أن نسقيه ولو قليلاً من الماء. فيبكي ويقول: لقد ذبح أبو عبد الله غريباً عطشاناً فيبكون لبكائه حتى ترتفع الأصوات بالنحيب.