نواعير الفرات اغتيال بدم بارد
النواعير التي استعصت على النسيان، رغم الذاكرة المعطوبة، ما انفك النهر يُسمعُها حديثه حتى راحت تبكي وتبكي، راثية الحرية رثاءً مفجعاً له تاريخ.
كانت يوماً ما من صور الجمال ، واليوم باتت رمزاً للنسيان والاندثار، فكل فرع من فروعها يحمل إليك رائحة الموت والخراب، بعد ان توقفت دواليبها عن الدوران، لتعلن نهاية تلك الحياة السرمدية، التي كانت تلف المدن الغافية على ضفاف الفرات، حتى راح يعتصرها وجع قاتل بعد ان مات قسم منها واقفاً، فيما تحول بعضها الآخر إلى قصائد باكية، شاكية، رحلت مع الريح الشمالية، في دروب غربة مؤلمة تعيشها اليوم!
ضاق الحال، وشرع الموت أبوابه على النواعير، وتعالت نداءاتها، واستغاثاتها، ولا من مجيب، فيد الاحتلال طالتها، وحولت خشبها، وأعوادها، ومساميرها الخشبية إلى قش يحمله نهر الفرات، باكياً تلك النواعير، التي يلقي بها بعد مسيرة طويلة إلى أكتاف الأنهار، لتتحول بعد ذلك إلى حطب للمواقد ليس إلا، وبقايا ذكريات أليمة لأناس أحبوها، فسقتهم بدموعها خيراً وعطاءً وفيراً.
لقد عاد المزارعون العراقيون إلى استخدام النواعير التي كان قد استخدمها الأشوريون قبل نحو أربعة آلاف عام، رغم سنوات الحصار والحروب المتكررة، التي كثيراً ما تعرض إليها هذا البلد، المكلوم والمبتلى بتعدد الغزاة على مر العصور، فقد أستنجد العراقيون بإرث تاريخي يغوص في أعماق التاريخ، فمد يده لهم وانجدهم، وعادت تلك النواعير لتدور من جديد على ضفتي الفرات، قبل ان يأتي الغزو الأميركي، ويهدد وجودها، لتعيش هذه النواعير اليوم لحظات الاحتضار، لا لسبب، سوى لأنها وقفت بوجه العدوان والاحتلال، ورفضت الخنوع والخضوع، مفضلة الموت وهي واقفة.
نواعير الفرات توقفت عن الدوران، ولحنها الشجي الذي يصدر عن دورانها نتيجة احتكاك الكيزان بالجذع الرئيس، الذي هو بمثابة القلب للإنسان، والذي يطلق عليه (حنيناً)، أوقفه صوت الطائرات والمدافع والبنادق، فتوقفت بتوقف النواعير تلك المعزوفة الشجية التي اغتيلت على يد المحتل بدم بارد.
وللناعور قصة عشق موغلة في القدم، فهو يمثل الحياة بكل جوانبها ويصفونه بأنه بانوراما الحياة، فهو يثير في القلوب شجون وشجون، شجون العاشق عندما تضيق به وشائج الحب فيذهب إلى الناعور، والحزين الذي يفقد عزيزاً عليه يذهب إلى الناعور، ليغسل حزنه بقطرات مائه المتساقطة من على أذرعه الخشبية، والشاعر الذي تتوقف قريحته عن كتابة الشعر يلجأ إلى الناعور، ليلهمه حسن الكلام، فيفيض منه الشعر، كفيض ساقية الناعور!
للنواعير على الفرات حكايات شعبية، يتوارثها الأبناء عن الآباء، ويحفظ أهل المنطقة أبيات أغاني العتابة البدوية، التي تتغني بالناعور، ويتمتعون بسحره الطبيعي، ويلتقطون شجيرات الرياحين التي تنمو بكثرة علي جوانب سواقيه المبتلة، ويغفون في القيلولة على أنغام وخرير ماءه المنساب من أوانيه.. أن النظر لنواعير الفرات يوحي بأن الزمن عند الألف الثانية قبل الميلاد قد استحضر كل متممات الماضي، وكل ما لم تستطع التنقيبات الآثارية اكتشافه.
النواعير تميزت بها مدن محافظة الأنبار، كهيت والبغدادي وحديثة وعنه وراوة والقائم، وهي تمثل واسطة فريدة من نوعها لنقل الماء من الفرات لإرواء البساتين والمزارع، وليس لها مثيل في أية مناطق أخرى من العالم، باستثناء نواعير مدينة حماة السورية على نهر العاصي، التي تختلف اختلافاً كبيراً عن نواعير الفرات، المعروفة بقدمها وكثرتها، قبل ان تغتالها يد المحتل الغادر، فنواعير العاصي في حماة أصغر حجماً من نواعير الفرات.
قانون القرية هنا زرع أشجار التوت التي تدخل في صناعة الناعور، فلا يدخل في الصناعة غير الخشب، ويقوم النجار بصفه على الأرض، ومن ثم ترقيم القطع حتى تترتب مرة أخرى بنفس الشكل عند إعادة تشكيلها فوق النهر، وهو يدور على نفسه بفعل دفع المياه، وتنقل أوان فخارية خاصة الماء الي ساقية عالية تنحدر تدريجياً لكي ينساب الماء فيها وتروي الأراضي.
والنواعير ثلاثة أنواع، الصغيرة التي تروي بساتين ومزارع بضع عوائل، والكبيرة التي تسقي مساحات أوسع وأبعد مسافة، والمزدوجة التي يجري تركيبها بمعدل (2 ـ 3) نواعير، جنباً إلى جنب، لتكون كمية المياه التي تنقلها أكثر، ويمثل الناعور عملية ذات تقنية هندسية عالية جداً وتمثل النواة الأولى لتطوير توليد الطاقة من المياه.
ونواعير حديثة وعنة وراوة تكون دائرة عملاقة تدور علي نفسها، ولابد من استخدام خشب شجر التوت في صناعته، وهي أشجار تنتشر في هذه المدن، ويحرص الأهالي على زراعتها وتكثيرها، لاحتياجهم لها في تصنيع النواعير..
وتقوم صناعته على قاعدة مركز القطر الهندسية، وهو مركز مجوف لإدخال خشبة عملاقة فيه لتحمل كل الناعور، وتستند هذه الخشبة في طرفيها علي قاعدتين خشبيتين من التوت، وتوضع هاتين القاعدتين علي حائط عريض صلد من صخور الجبال والأسمنت، يصل بالضبط إلى منتصف الناعور (نصف القطر)، ويربط بين الطرفين، ممر واحد يكون أمام الناعور قبل تدفق المياه في مجراه، والذي يكون بعرض حوالي المترين، ويستعمل أبناء المنطقة هذا الحائط للقفز إلى النهر عند السباحة، ومن مركز القطر، تمتد إلى جميع الاتجاهات الدائرية، أعمدة طويلة من خشب التوت أيضاً، لتصبح في النهاية الدائرة، ثم تربط نهايات هذه الأعمدة بقطع خشب أخرى تميل إلى القوس الخفيف، لتشكل عند إتمامها محيط القطر، وتربط الواحدة بعد الأخرى بمسامير كبيرة الحجم هي من ذات الخشب.
وتبني النواعير على ارض فسيحة، ثم تفكك ليجري نقل أجزائها إلى الموقع الذي ستنصب فيه، وهي تتألف من 24 عوداً، ترمز لأحرف "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وهي أيضاً ترمز لعدد ساعات النهار.
وفي محيط قطر الناعور تربط أوان اسطوانية فخارية طويلة تسمى بالـ"دلوات" او بـ"القلل" بواسطة حبال مصنوعة من خوص النخيل، وهي التي تنقل الماء عندما تغوص فيه عند دوران الناعور، وتصبه في الساقية، التي ترتفع عالياً، ومن كثرة عدد هذه الأواني يجري الماء في الساقية، التي تنحدر تدريجياً حتى تصبح بعيدة عن موقع الناعور، وبمستوى سطح الأرض، فتسقي المزارع والبساتين.
هذا النظام في الري يعود إلى العهد الآشوري، أي الألف الثاني قبل الميلاد، وهذا ما تدل عليه مساند الناعور، التي مازالت قائمة حتى الآن، وهي تستخدم كمساند للنواعير الجديدة حالياً.
وتعرضت النواعير على الفرات للخمول، نتيجة ضعف تدفق المياه بالفرات في السبعينيات، بسبب ما كانت تقوم به تركيا من بناء للسدود على النهر، والاستحواذ على مياهه، وشحة ما تسمح به للتدفق إلى سورية والعراق، لكن أهالي المدن العراقية على الفرات لم ييأسوا، وأعادوا الحياة للنواعير، لتروي أراضيهم في هيت والبغدادي وحديثة وراوة والقائم.
النواعير اليوم أقيمت لها مجالس عزاء، كيف لا وقد أبيدت عن بكرة أبيها، فالنواعير تربط في نهايتها دلاء لغرف الماء من النهر، ونتيجة الظروف الصعبة، فإن شيئاً جديداً قد طرأ عليها، إذ راح العراقيون يستخدمون الأغلفة الفارغة لقذائف المدفعية، بدل الدلاء الفخارية، كما في المجالات الأخرى التي حاول العراقيون فيها الاستفادة من كل مخلفات الحرب لتدخل في حياتهم اليومية، وحينما جاء المحتل راح يحطم النواعير، متذرعاً باحتوائها على بقايا تلك الأغلفة الفارغة، لكن الحقيقة هي انه يرى في قيامها كل هذه السنين، وكأنها عملية تحدٍ له..
فهو يرى في قيامها احد رموز الجمال في مدينة النور حديثة وبقية المدن، وكل شيء جميل يغيض المحتل، فبادر إلى لف حبل المشنقة حول دواليبها، هذا الحبل الذي كان مفتاح حياتها، والذي بفله يدور الناعور، دون أن يمل أو يكل، هذا الحبل الذي بات اليوم، هو ذاته حبل مشنقتها الذي أعدمت به.
توقفت النواعير عن الجريان إذن، ولم يتبق منها غير آثارها والأطلال، من بقايا (الگرايا) كما يصطلح على تسميتها أهالي المدينة، والتي بنيت بالجص والنورة منذ مئات السنين، ولم تتأثر بالماء الذي يغطيها إلى نصفها أحياناً، والى اقل من ذلك على الدوام. النواعير على مر العصور لم تتأثر، وظلت على الدوام شاخصة، تكابر، وتعاند الرضوخ، فأخذت من سكان أعالي الفرات القوة، والعزم، والتحمل، والصبر، والثبات، حتى أنها وقفت عقوداً وقروناً طوال، في مواجهة المد الشاطئي، والأمواج العاتية، والفيضانات العارمة، والسيول الجارفة، التي تزيد من توحش الفرات، قبل ان تلجم تلك العرامة والتوحش بالسدود، وأبرزها سد حديثة!
النواعير ومدن غرب العراق أحدهم مرتبط ومكمل للآخر، فلا يمكن ان تذكر حديثة، أو هيت، أو البغدادي، أو عنة، أو راوة، أو القائم دون ان تذكر النواعير، ويستحيل ان يأتي ذكر النواعير دون ان تذكر تلك المدن.
حديثة لوحدها حوت قرابة الثلاثين ناعوراً حتى وصول المحتل، فماتت جميعها اليوم، وأعلن الحداد عليها، ولم يتبق منها غير أثر بعد عين، وأطلال على أكتاف الفرات.
ليس تدمير النواعير هو هدف المحتل فقط، بل ان الوصول إلى مصادر المياه عموماً بات من الممنوعات والمحرمات في شريعة المحتل، التي يحاول بها استبدال شريعة السماء، حتى ان الكثير من أبناء هذه المدن قُتل لمجرد جلوسه على حافة نهر، أو على مقربة من بقايا ناعور يشكي له همه!!
وسيبقى الناعور عشقاً دائماً للمزارع والحقول، وحنيناً أزلياً للخضرة والمياه، يهب دموعه للأرض، فتهتز وتربو، ولن يموت، حتى بتوقف عجلاته عن الدوران، سيقاوم ويقاوم ويصبر حتى يمل الصبر من صبره، ويعود للحياة ، ومن قاوم الغزاة طيلة آلاف السنين لقادر ان يحطم قيود الاحتلال ويعود لينبض بالحياة من جديد، فالاحتلال سيذهب يوماً ويزول، إلى حيث لا رجعة، والنواعير ستبقى حية، خالدة، خلود الحياة نفسها!
شوامخ رائعة رغم السنوات الطويلة
آثار تحكي قصة شعب شامخ
أحجار تحدت قوى البغي والعدوان والاحتلالات