المالكي: خصومة أم نقد؟
جابر حبيب جابر
كان لافتا أن الإعلام العربي بشقيه الممثلين لتيار «الممانعة» ولتيار «الاعتدال»، اللذين يشكلان اليوم «الحزبين» الإقليميين الرئيسيين في المنطقة، قد شن هجوما كاسحا على رئيس الوزراء العراقي في إطار الحملة الانتخابية وما تبعها. الممانعون اتهموا المالكي بالتبعية لأميركا، والمعتدلون اتهموه بالتبعية لإيران، وبينهما كانت الحملات التي شنتها الأحزاب العراقية لأسبابها الخاصة. فـ«العراقية» اعتبرته منافسها الرئيسي، لا سيما أن قاعدته التصويتية صارت تجتذب كثيرا من العلمانيين وأبناء الطبقة الوسطى المتعلمة، لذلك ركزت حملتها ضده مستثمرة مكامن الخلل الكثيرة في الأداء الحكومي، والائتلاف الوطني اعتبره منافسه الرئيسي في الشارع الشيعي، الذي بات يهدد القاعدة التقليدية للأحزاب الإسلامية الشيعية، وبالتالي بنى حملته الانتخابية على فكرة أن خصمه الأساسي هو المالكي. إحدى أهم القنوات التلفزيونية العربية أجرت الأسبوع الماضي استفتاء على موقعها الإلكتروني يتهم حكومة المالكي بأنها المسؤولة عن التفجيرات الأخيرة في بغداد، والمثير هنا ليس الاستفتاء ذاته، فهو لا يخرج عن السياسة المعتادة للقناة بالتغطية على أبشع الأعمال الإرهابية لـ«المقاومة» في العراق؛ بل المدى الذي يمكن أن تصل إليه وسيلة إعلامية «سياسية» من تجاهل لكل معايير الموضوعية والرصانة في سعيها لمحاولة تسقيط شخصية سياسية معينة والتحول إلى مستوى الصحيفة «الصفراء».
قد نختلف أو نتفق مع المالكي فهو رجل له حسناته وأخطاؤه شأنه شأن أي سياسي في العالم، كما أنه شغل لأربع سنوات أهم منصب في العراق وخلق خلال هذه المرحلة الكثير من الخصوم الذين يتراوح سخطهم تجاهه بين رفض مشروعه السياسي، مرورا بالتحفظ على بعض سياساته، وانتهاء بالحسد الشخصي، هؤلاء توحدوا في هجومهم على الرجل حد اتهامه بالشيء وعكسه، فصرنا أمام وضع شديد التشويش لا ندرك فيه الأغراض الحقيقية من الهجوم، ولا نستطيع أن نميز بين نقد جدي وبناء، وآخر متهافت وتسقيطي. لقد كنا بحق تجاه ظاهرة يمكن تسميتها مجازا بظاهرة «فوبيا المالكي»، حيث العدوانية لا يسندها خطاب مقنع يبررها.
البعض قد يرى أن هذا الهجوم يسعى أساسا ليس إلى نقد مرحلة المالكي السابقة؛ بل إلى منعه من أن يكون رئيس وزراء لمرة ثانية، وبالتالي، فإن هدف الهجوم هو لجعله يدرك أن استمرارية وجوده في موقعه ستكون بتكلفة عالية ربما تفوق تكلفة تنحيه عنه، خاصة أن إخفاق حكومة المالكي في مد جسور إيجابية مع قوى إقليمية مهمة وسع من دائرة الرفض التي يواجهها. ولكن من جهة أخرى يصح القول إن المالكي قد ربح من مواقفه أكثر مما خسر، وإنه في لحظة التفاوض الحقيقية التي على كل الأطراف أن تتخذ فيها قرارات عقلانية توازن بين الربح والخسارة، يظل المالكي رقما صعبا وأساسيا؛ إن لم يكن لشيء، فلأنه صار يمثل أكبر قوة شيعية ويعبر عن تيار جديد يمثل استجابة لتحدي إعادة بناء الدولة في العراق في ظل نخبة سياسية وأدوات مختلفة تماما عما ساد طوال التاريخ العراقي الحديث.
ربما كان على الساخطين أن يتساءلوا لماذا تحول وزن المالكي من رئيس وزراء له تسعة ممثلين حزبيين فقط في البرلمان السابق، إلى صاحب أكبر كتلة برلمانية بالمعنى الفعلي، حيث يمتلك 89 مقعدا بأعضاء كلهم يدركون أن انتصارهم كان مصدره انضمامهم لقائمة المالكي وقبولهم مظلته، في الوقت الذي توجد فيه للكتل الأخرى عدة رؤوس وتتوزع أصواتها بين أكثر من تنظيم. السبب الرئيسي هو أن المالكي ملأ فراغا كان موجودا في الساحة العراقية وعبر عن تيار يمثل استجابة لتحديات جديدة غير تلك التي ألفتها الأحزاب الشيعية زمن المعارضة والمنفى، وغير تلك التي ألفتها الأحزاب الشمولية زمن الديكتاتورية، ولو لم يكن المالكي لكان غيره من يحاول ملء هذا الفراغ. هذا التيار يعد أساسا نتيجة لوجود طبقة سياسية شيعية في أعلى هرم السلطة تتطور خبرتها ويتشكل وعيها عبر التعامل مع تحديات السلطة لا تحديات معارضتها، وعندما تكون مهمة السلطة هي إعادة بناء الدولة وتشكيل الهوية الوطنية، فإن قاموس المعارضة القديم وقاموس التمترس خلف خطوط ما قبل الدولة ما عاد قادرا على التعامل مع التحدي الجديد. الدولة في العراق هي دولة نفطية تعتمد على موارد النفط بشكل شبه كامل، وهي من أجل أن تقوم بدورها تعتمد على جهاز بيروقراطي وأمني هائل يمثل مركز الثقل الأساسي، وهذا الجهاز كان في السابق حكرا على حزب شمولي طمر الفواصل بين بنيته الحزبية وبنيته التكنوقراطية، ولكن بعد الحرب والفوضى التالية صار هذا الجهاز في غالبيته عائما باحثا عن الاحتماء بقوى خارج الدولة صارت أقوى من الدولة نفسها، مما جعل كثيرا من أجزائه رهنا بهيمنة هذا التوجه الحزبي أو ذاك، ولكن مع استعادة الدولة لعافيتها التدريجية وقدرتها على أن تكون المحتكرة للعنف ثم سعيها لتهميش كل مراكز القوى المسلحة خارج نطاقها، صارت الدولة تبلور تدريجيا مشروعها الجديد ويحاول أفرادها والقوى الاجتماعية المرتبطة بها، لا سيما تلك الممثلة للطبقة الوسطى، أن ينخرطوا في مظلة سياسية جديدة تتعامل مع طبيعة التحدي الجديد. ومن هنا كان تيار المالكي أول تيار يستجيب لتحدي بناء الدولة في عراق ما بعد صدام. ولذلك، فإن هذا التيار يهرب من التصنيفات الجاهزة التي صار البعض يتوق لاستخدامها في التعامل مع الطبقة السياسية العراقية كالعمالة لأميركا أو العمالة لإيران، أو التوجه الإسلامي أو التوجه القومي. إن هذا التيار لم ينشغل كثيرا بهذه التفاصيل قدر انشغاله بمشروع بناء الدولة وتأكيد سلطتها. ولذلك، فإنه ضرورة تماشي طبيعة التحدي، وهو سيكون موجودا سواء كان المالكي موجودا أم لا.