قلم: إبتهال محمد علي البار *
يرتبط علم الدلالة بكثير من العلوم، ومن هذه العلوم: علم الأصوات وهو علم يرتبط بالدلالة ارتباطاً وثيقاً، ولا يزال المجال فيه خصباً للبحث والدراسة لمن يتأمَّل. وليس ثَمَّ فرع من فروع علم اللغة إلا ويدور في فلك المعاني، التي هي غاية الغايات، وحاولت جاهدة أن أكثر من الشواهد القرآنية؛ لأبين أن تراثنا الديني والأدبي مليء بالموضوعات التي تصلح للطرح في مجال الدراسات الدلالية.
يرتبط علم الدلالة بكثير من العلوم، ومن هذه العلوم: علم الأصوات وهو علم يرتبط بالدلالة ارتباطاً وثيقاً، ولا يزال المجال فيه خصباً للبحث والدراسة لمن يتأمَّل. وليس ثَمَّ فرع من فروع علم اللغة إلا ويدور في فلك المعاني، التي هي غاية الغايات، وحاولت جاهدة أن أكثر من الشواهد القرآنية؛ لأبين أن تراثنا الديني والأدبي مليء بالموضوعات التي تصلح للطرح في مجال الدراسات الدلالية.
نستطيع أن نصنف الموضوعات الصوتية بعلم الدلالة إلى ما يلي:
1- الوقفات (pauses).
2- التنغيم (Melody).
3- النبر (Stress-Accent).
4- التزمين (Tempo).
5- الإيقاع (Rhythm).
الوقفات:
وتُسمّى أيضاً "الفواصل" وهي نوع من السكون يفصل بين مجموعة صوتية وأخرى، ويدعوه البعض وقفاً أو انتقالاً أو مفصلاً، وقد يفصل بين صوت وآخر، أو بين كلمة وأخرى، أو بين عبارة وأخرى في الجملة الواحدة، أو بين جملة وأخرى، والفاصل فونيم له تأثير في المعنى.
وهذا المصطلح يتفق تماماً مع مبحث مهم تناوله علماء التجويد بالبحث والتفصيل هو "الوقف والابتداء" فلم يغفل القدماء دور "الوقف والابتداء" في تغيير المعاني والدلالات، وأضرب لذلك بعض الأمثلة كما يلي:
الوقف التام: وعرفه علماء التجويد بأنه "الذي يحسن الوقف عليه، والابتداء بما بعده" وأكثر ما يوجد في رؤوس الآي وعند انقضاء القصص.
ونلاحظ أن التعريف مقيد بالمعني، فإذا تم المعنى بالوقوف على كلمة وحَسُن الابتداء بما بعدها، كان وقفاً تاماً، فهو قيد دلالي بالدرجة الأولى ومن أمثلة هذا الوقف.
{ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين} (البقرة:145)، والابتداء بقوله: {الذين آتيناهم الكتاب} لكي لا يوهم أن {الذين آتيناهم} صفة للظالمين، وهو مستأنف في مدح عبداللّه بن سلام وأصحابه، ولو وُصِل الكلام لأوهم معنىً غير المعنى المراد، ولذا سماه بعض العلماء بالوقف اللازم أو الواجب.
{لقد سمع اللّه قول الذين قالوا إن اللّه فقير ونحن أغنياء} (آل عمران: 181) يجب الوقف والابتداء بقوله: {سنكتب ما قالوا} لأنه لو وصل الكلام لأوهم أن عبارة {سنكتب ما قالوا} من قولهم، وهي إخبار اللّه.
{لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} (المائدة:51) والابتداء بقوله {بعضهم أولياء بعض} لأن الوصل يوهم أن الجملة صفة لأولياء فإذا انتفى هذا الوصف جاز اتخاذهم أولياء، وهو مُحال.
الوقف الكافي: وهو الذي يجب الوقف عليه والابتداء بما بعده ومنه الوقف على قوله {ولقد همت به} (يوسف: 24) والابتداء بقوله {وهم بها} وبهذا يتخلص القارئ من شيء لا يليق بنبي معصوم أن يهم بامرأة، ويصير {وهم بها} كلاماً مستأنفاً، إذ الهمّ من يوسف عليه السلام منفي، والهمّ الثاني غير الهمّ الأول.
الوقف الحسن: هو "الذي يحسن الوقف عليه، وفي الابتداء بما بعده خلاف الصحيح لتعلقه به من جهة اللفظ كقوله تعالى: {لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة} كلمة: {تتفكرون} رأس آية في سورة البقرة، ولكن لا يفيد ما بعده معنى، فلا يحسن الابتداء به، ويحسن العود إلى ما قبله.
{وتعزروه وتوقروه} والابتداءب {وتسبحوه} لئلا يوهم اشتراك عود الضمائر على شيء واحد، فإن الضميرين الأولين عائدان على الرسول صلى اللّه عليه وسلم وفي الثاني عائد على اللّه تعالى.
التنغيم: نغمة الصوت هي إحدى صفاته، وكثيراً ما تكون عاملاً مهماً في أداء المعنى، وتتوقف النغمة على عدد ذبذبات الأوتار الصوتية في الثانية، وهذا العدد يعتمد على درجة توتر الأوتار الصوتية، وللنغمة أربعة مستويات وهي:
أ- النغمة المنخفضة: وهي أدنى النغمات. وهي ما نختم به الجملة الإخبارية عادة، والجملة الاستفهامية، التي لا تجاب بنعم أو لا.
ب- النغمة العادية: وهي التي نبدأ الكلام بها، ويستمر الكلام على مستواها من غير (انفعال).
ج- النغمة العالية: وتأتي قبل نهاية الكلام متبوعة بنغمة منخفضة أو عالية مثلها.
د- النغمة فوق العالية: التي تأتي مع الانفعال أو التعجب أو الأمر.
وقد حاولت أن أمثل لكل نوع بشاهد قرآني، فكان اختياري على الوجه التالي:
النغمة المنخفضة. نحو قوله تعالى: {أفمن هذا الحديث تعجبون} {وتضحكون ولا تبكون} {وأنتم سامدون} أما قوله {فاسجدوا للّه واعبدوا} فهي نغمة فوق عالية لأنها جاءت بصيغة الأمر.
الأصوات والحيوان
من الجدير بالذكر أن أديباًعالماً كالجاحظ تنبه لتأثير التنغيم على الحالة النفسية للحيوان، وأشار إلى ذلك تحت عنوان "أثر الأصوات في الحيوان" والدواب تصر آذانها إذا غنى المكاري، والإبل تصر آذانها إذا حدا في آثارها الحادي، وتزداد نشاطاً وتزيد في مشيها ويجمع بها الصيادون السمك في حظائرهم التي يتخذونها له.. والأيائل تصاد بالصفير والغناء، وهي لا تنام ما دامت تسمع ذلك من حاذق الصوت، والصفير تُسقى به الدواب الماء وتنفر به الطير عن البذور، ويقول عن "أثر الصوت في الحيّة":
"فالحية واحدة من جميع أجناس الحيوان الذي للصوت في طبعه عمل فإذا، دنا الحواء وصفق بيديه، وتكلم رافعاً صوته حتى يزيد، خرج إليه كل شيء في الجُحْر، فلا يشك من لا علم له أن الحية خرجت من جهة الطاعة وخوف المعصية.
ولا يخفى على المتأمل أن هذا الأثر الذي يتركه الصوت على الكائنات الحية مرتبط بالتنغيم، فلو كان الصوت على طبقة صوتية واحدة من الصعود والهبوط، لما كان له أثر واضح.
وقد أشار القرآن الكريم لهذه الظاهرة العجيبة حين تحدث عن داود عليه السلام: {ولقد ءاتينا داود منا فضلاً ياجبال أوبي معه والطير} والآية تصور من فضل اللّه على داود عليه السلام أنه بلغ من الشفافية والتجرد في تسابيحه أن انزاحت الحجب بينه وبين الكائنات فاتصلت حقيقتها بحقيقته، في تسبيح بارئها ورجعت الجبال والطير معه، إذ لم يعد بين وجوده ووجودها فاصل ولا حاجز، حين اتصلت كلها باللّه صلة واحدة؛ وتجاوب الكون كله مع ترانيم داود.
وقد أشار النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى هذه الظاهرة، حين سمع أبا موسى الأشعري يقرأ من الليل، فوقف يستمع لقراءته، ثم قال: "لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود.
النبر
"هو قوة التلفظ النسبية التي تعطي للصائت في كل مقطع من مقاطع الكلمة أو الجملة".
فسيولوجية النبر: عند نطق المنبور نلاحظ عدة أنشطة في الجهاز الصوتي البشري منها:
● تنشط عضلات الرئتين، بشكل متميز لرفع الهواء بنشاط أكبر.
● تقوى حركات الوترين الصوتيين وتتسع الذبذبات.
● يتقارب الوتران أكثر في حالة الأصوات المجهورة، ويبتعدان أكثر في حالة الأصوات المهموسة. وقد أشار القدماء إلى ظاهرة النبر في اللغة العربية:
جاء في معجم الصحاح: "نبرتُ الشيء أنبره نبراً، رفعته،... ونبرة المغني: لرفع صوته عن خفض". وفي تلاوة القرآن الكريم ينبه القراء على ضرورة الضغط على بعض الحروف، وهي:
أ- الوقف على المشدد، مثل كلمة "الحي"، و"بثّ".
ب- عند النطق بواو مشددة قبلها مضموم أو مفتوح: "القوة"، "قوامين".
ج- عند النطق بياء مشددة قبلها مكسور أو مفتوح: "شرقيّا"، "صبيّا".
د- عند الانتقال من حرف مد إلى حرف مشدد: {الحاقة}.
وللنبر وظيفة مهمة في جميع اللغات، إذ لا تخلو منه لغة، فكل متحدث بلغة ما، يضغط على بعض المقاطع فيها، وإنما الاختلاف بينها في استخدامه فونيمًا صوتيًا يغير الصيغ أو المعاني أو عدم تأثيره فيها.
ومن صور النبر، "نبر الجمل" الذي يقوم على الضغط على كلمة بعينها في إحدى الجمل المنطوقة؛ لتكون أوضح من غيرها من كلمات الجملة، وذلك للاهتمام بها أو التأكيد عليها ونفي الشك عنها من المتكلم أو السامع، وهذا السلوك اللغوي شائع في كثير من اللغات.
النبر يكون في بعض المواضع في تلاوة القرآن الكريم مثل: {الحاقة}، {دابة} أي عند الانتقال من حرف مد إلى الحرف الأول المشدد، فإذا نظرنا إلى قوله تعالى: {فإذا جاءت الصاخة} نجد لهذا النبر على حرف "الخاء" تأثيراً دلالياً يفيد الإحساس بصوت الصاخة التي تصم الآذان لشدتها، وبذلك يكون للنبر وظيفة معنوية مهمة لا تتحقق إلا بواسطته.
ومن مواضع النبر في القرآن الكريم عند النطق بواو مشددة قبلها مفتوح أو مضموم نحو {القوة}، {قوامين}. وإذا نظرنا إلى قوله تعالى {ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة للّه جميعاً وأن اللّه شديد العذاب} فالنبر على حرف الواو في كلمة {القوة} له تعبير دلالي للتأكيد على أن القوة للّه وحده، لا سيما والآية تتحدث عن اتخاذ الأنداد من دون اللّه، فكان لابد من التأكيد على {القوة} التي تليق باللّه تبارك وتعالى.
التزمين
هو المرآة التي تعكس لنا عواطف المتكلم وانفعالاته ويعرف بأنه السرعة التي يتخذها المتكلم ويحسها السامع نحو الكلام المنطوق، سواء أكان كلمة أو جملة، ويمكن وصف هذه السرعة بأنها بطيئة أو سريعة أو متوسطة.
وهو عنصر مهم في الأداء الذي يؤثر على فهم المسموع، والإحساس بانفعالات المتكلم أو الحالة النفسية المصاحبة للنص.
وأمثل لهذه الظاهرة الصوتية ببعض الآيات الكريمة. {وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم}.
فالآية تصور حالة يعقوب عليه السلام بعدما فقد ابنه يوسف أحب أبنائه إليه، ولكي تنقل لنا الآية الكريمة شدة حزنه وحسرته على فقد فلذة كبده، جاء المقطع كله بتزمين طويل، فكلمة {تولى} فيها مد طبيعي يستغرق زمناً مقداره حركتان كما يسميه علماء التجويد، وكذلك الفعل {قال} ثم {ياأسفى} هذا المد المنفصل الذي يؤديه التالي للآية بنبرة طويلة توحي بهذه الحالة النفسية الأليمة، ثم كلمة {عيناه} بالمد الطبيعي، وأخيراً كلمة {كظيم} بالمد العارض للسكون، فنلاحظ أن سرعة المقطع كانت بطيئة، لتعبر عن المعنى المراد، بخلاف قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر◘ وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر◙ وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر}.
فإن تلاحق الآيات بسرعة، يوحي بخطورة الموقف وهو اقتراب الساعة، وياله من هول يستلزم السرعة.
الإيقاع
هو إحساس بالتكرر المنتظم لمجموعات كل منها يشتمل على أحداث متشابهة ومتعاقبة. وللتفريق بين الإيقاع وبين عناصر الأداء التي تحدثنا عنها وهي:
"النبر، التزمين، التنغيم، والوقفات" نقول: إن الأداء لا يشترط فيه التكرار المنتظم لعنصر من عناصره، أما الإيقاع فلابد فيه من التكرر المنتظم والدقيق لعنصر من عناصره أو لأكثر، والأداء يتصل بجانب المعنى والفكرة من حيث توضيحها، أما الإيقاع فإنه يتصل أكثر بجانب الإحساس والعاطفة. فهناك إيقاع يثير الحزن، وآخر يثير الفرح والسرور، وإيقاع يبعث الحماسة والحيوية أو الشهامة.
وقد عرف الجاحظ هذا الأثر العجيب للإيقاع وهو ما عبر عنه ب"تأثير الأصوات" يقول: "وأمر الصوت عجيب، وتصرفه في الوجوه عجب، فمن ذلك أن منه ما يقتل كصوت الصاعقة، ومنه ما يسر النفوس حتى يفرط عليها السرور حتى ترقص، وحتى ربما رمى الرجل بنفسه من حالق، وذلك مثل هذه الأغاني المطربة، لأن من ذلك ما يزيل العقل حتى يغشى على صاحبه، كنحو هذه الأصوات الشجية، والقراءات الملحنة، وليس يعتريهم ذلك من قبل المعاني؛ لأنهم في كثير من ذلك لا يفهمون معاني كلامهم، وقد بكى ماسرجويه من قراءة أبي الخوخ، فقيل له: كيف بكيت من كتاب اللّه ولا تصدق به؟ قال: إنما أبكاني الشجا. وبالأصوات ينومون الصبيان والأطفال.
وقوله: "وليس يعتريهم ذلك من قبل المعاني" دليل واضح على أنَّ الجاحظ أدرك أن هذا التأثير للصوت ليس سببه المعنى بل الإيقاع الذي ينقل الحالة النفسية للمتكلم إلى السامع.
وقد استخدم القرآن الكريم الإيقاع المناسب لأجواء كل سورة من سِوره، فهناك آيات كريمة تمتاز بالإيقاع السريع وأخرى تمتاز بإيقاع بطيء وحزين، وهذا التنويع يتناسب مع معاني الآيات ومضامينها.
فمثلاً نجد الإيقاع الذي يطلق في جو الدعاء والضراعة والخشوع والإنابة كما في قوله تعالى:
{ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على اللّه من شيء في الأرض ولا في السماء} (إبراهيم: 38)
إيقاعاً بطيئاً متموجاً رخياً، مناسباً لمضمون الآيات.
وفي قوله تعالى:
{وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يابنيَّ اركب معنا ولا تكن مع الكفرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء} (هود: 42-34)
الإيقاع هنا مختلف عن الآيات السابقة، فهو طويل وعميق يشترك في رسم الهول لجو الطوفان والرعب، والمدات المتوالية تساعد في إكمال الإيقاع وتكوينه واتسامه مع جو المشهد الرهيب العميق
-----------------------------------
* كاتبة سعودية
المراجع
1- الأصوات العربية، محمود زين العابدين، دار الفجر، المدينة المنورة.
2- الأصوات اللغوية، د. محمد علي الخولي، دار الفلاح، الأردن.
3- الحيوان، الجاحظ.
4- علم الصوتيات، د. عبداللّه ربيع، مكتبة الطالب الجامعي -مكة.
5- في ظلال القرآن -سيد قطب.
6- نظرية التصوير الفني عند سيد قطب، د. صلاح الخالدي، دار المنارة، جدة.
7- نهاية القول المفيد في علم التجويد، محمد مكي نصر. دار الكتب العلمية، بيروت.