شرقٌ وغربٌ أوشربٌ وغرقٌ
مدخل
----
من قصيدة ما زالت تتوالد في الوعي والروح :
كالنغمُ في شفة الدنيا يجفُّ فلا
يُجدي استماعٌ , وجودٌ صامتٌ أزَلا
هذا الوجودُ على يُمناهُ ليْ أملٌ
وفي الشمال قنوطٌ كذَّبَ الأمَلا
مَن ذا يعزّي المدى إنْ لاحَ معتقَلاً
في قمقمٍ , وهواءً أدمنَ الشَّلَلا !؟
***
رصيف
----
ظلت علاقتي بالرصيف دائماً علاقة تكاملية فأنا أُثريهِ بخطاي وهذياناتي وهو يكللني
بهالة من الهوام والبَقّ , وفي كل مرة أجيبه مازحاً :
مَهما فعلتَ معي فلن أتحوّل إلى عمود , لن أقف , لن أضيء !
فيعلِّق : ومع ذلك أبقى أعشق خطاك الوئيدة بل حتى أحجاري ذابت وراحت تسيح فكل
الشارع رصيف !
***
شربَ وغرق
----
جنون , فما الذي يدفعه للتعبير بهذه الطريقة ؟ لم يهتم بالإجابة , أخذَ يرسمُ في كراسته
أشكالاً تمثِّلُ غرانيقَ الكرخ مزنَّرين
وروّادَ حانات الرصافة منسجمين يمزمزون صوتَ أم كلثوم وهُم بين نائح وطائح !
وراح يرتل :
أنتِ حلمي
أوليسَ الحلمُ مِن طبع السُّلافهْ ؟
أنا كرخيُّ الهوى
ثَمِلٌ حَدّ الرصافهْ !
***
تجدُّد
----
قال ميخائيل نعيمة :
درستُ القانون لأعرف كيف تُغزل الخيوطُ التي منها تحاك أكفان الحق والعدل .
وأنا أقول له : كنتَ نبيلاً في مسعاك ولكن الحقّ شجرةُ الكينونة التي ليس بوسع الطارئين
اقتلاعُها غير أنها قد تجنح للسبات من أجل التجدد .
***
مباسطة
----
قال شاعر لشاعر آخر : أعرفُ الكثير عن شِعرك وعنك وعنهم !
لذا فأنا بكبريائك أهتدي وإن بقاءك مبدعاً لهو إدانة مستمرة للنقد الشعري المعاصر .
فردَّ عليه صاحبه : لم أكتبْ لهؤلاء كي أفرح أو أحزن
فالشعر يا صديقي محبةٌ قصوى فدعك منهم
وهلمَّ لتقرأَ لي وللنبع والصيف آخرَ ما كتبتَ فإننا نتحرَّق لهفةً
قال له : شكراً وسأفعل هذا بسرور ولكن قل لي أولاً ما هو تعريفك للناقد ؟
فأجاب :
لن يصبح ناقد الشعر والأدب ناقداً حقيقياً ومؤثراً ما لم يمتلك قبل هذا رؤية نقدية شاملة
للحياة نفسها .
فردَّ عليه : جميل ولعلَّك قلتَ هذا وقد مر أمام عينيك شريطٌ من الأسماء النقدية التي لا
تفرِّق بين الشِّعرية والشَّعرية !
***
نوتة
----
شاعرٌ جاهلي شرعَ بتعليم ابنه نظمَ الشعر فبدأ بالبحر الطويل فقال لابنه ردِّدْ معي :
نعم لا , نعم لالا ... نعم لا , نعم لالا
نعم لا , نعم لالا ... نعم لا , نعم لالا
من العبث حصرُ المعرفة بنظم وتقنيات متجاهلين السليقة , السليقة أصل المعارف .
***
الجينية
----
يحبطني التكرار حد الإشمئزاز وأعرف أن الروتين أو العادة هي ما يسلب المرءَ دهشتَه
الأعماقية ويجعله تماماً كأي جهاز يعمل عليه , لذا فاليوم مساءً وبعد أن سرتُ في غير
الشوارع التي اعتدتُ أن أقطعها وأنا في طريقي إلى مركز المدينة , وبعد قليل من التردد
دخلتُ معبداً هندياً !
هذا المعبد الصغير يقع على أحد أطرف المدينة ويمارسون فيه تأملاتٍ جينية والجينية
ديانة قديمة يؤمن أتباعها بالتناسخ وبأن الخلاص لا يكون إلا بتعذيب النفس وهذه الديانة
تمتنع عن العنف والقتل حتى أن الفرد منهم لا يسير على الأرض إلا باحتراز شديد خوفاً
من أن يسحق حشرة , جلستُ أشرب شاياً مقدساً وأستمع لأحد رهبانهم بزِيِّه الأحمر
الفاقع وحين قفلتُ راجعاً فكرتُ ببيتين للمعري :
تسريحُ كفِّكَ برغوثاً ظفرتَ به
أحقُّ من دِرهَمٍ توليهِ محتاجا
كلاهما يتوقّى والحياةُ له
حبيبةٌ ويروم العيشَ مهتاجا