جـــانحــة
حولتها الشرطة الجنائية إلى قسم مكافحة الفتيات الجانحات، لافتة كبيرة مكتوبة بالأحمر تعطي الإحساس بالفضيحة.
قدروا أن عمرها خمسة عشر عاماً، فهي لا تحمل هوية، كُتب في أوراقها وهي تدخل بناء مكافحة الفتيات الجانحات: مشرّدة، ضُبطت بجرم السرقة من بقالية، سلّمها صاحب الدكان إلى الشرطة، لم تنكر حادثة السرقة، ردّت على المحقق بجملة دامعة: لا أستطيع تحمل الجوع، أريد أن آكل.
وحده الجوع كان حيوياً في وجودها، هو ملهمها للنبش في القمامة، والتسول والسرقة ولمساومات مختلفة كانت تجهل كنهها حتى وقت قريب.
اسمها عذاب حمدو، اسم على مسمى كما قال الشرطي ضاحكاً وهو يسلمها للمسؤولة في قسم رعاية الجانحات، من باب الفضول كنت أزور هذا القسم، وحدها اللافتة الكبيرة الصارخة بالأحمر، شدّتني، المشرفة كانت شرطية فُرزت للاهتمام بالجانحات، قالت لي إنها تسلّمت عملها منذ شهرين، وإنها تسعى للانتقال إلى مكان آخر، لأنها تحس بكآبة خانقة. أطلت عذاب حمدو من الباب وقالت للمشرفة: ضرسي يؤلمني...
صرخت المشرفة: كفى، ما عدت احتملك، كل يوم يؤلمك شيء، مرة بطنك، ومرة رأسك أجرجرك من طبيب إلى طبيب...
جمدني تعبير وجه الشابة، في وجهها شيء صارخ غير عادي، لكأن الحياة نقشت على وجهها النضر حقداً دفيناً، أخذ يلوح من مسامها ليغمر المكان، في عينيها نظرة قلق ويأس، ولمعان زائغ يوحي بالجنون. واضح أنها ترزح تحت وطأة ضغط وكبت شديدين، رغم أنها نطقت بجملة واحدة: ضرسي يؤلمني، فإن الحزن العميق كان يتستر خلف كلماتها. تفرست في الوجه النضر الذي ترسم خطوطه همّ صاحبته القاسي، لا أعرف لماذا رغبت بالاختلاء بتلك الصبية، أحسستُ أنني معنية بأمرها، كلنا معنيون، طلبت من المشرفة أن تسمح لي بالاختلاء معها، قالت وهي تتنهد: يا ليت على الأقل أرتاح قليلاً من شكاويها المستمرة.
قدّرتُ أنها جائعة، ترددت! هل أطلب طعاماً أم أعطيها نقوداً، رجحت الفكرة الثانية، وجدتني أنقدها بلا تردد خمسمئة ليرة، خطفتها للحال، وركعت لتقبل قدمي، انتفضتُ واقفة وأنا أمسكها بحنان من كتفيها وأقول لها إياك أن تركعي لأحد يا عذاب، تعالي اجلسي إلى جانبي أريد أن أحدثك.
دست ورقة النقود في جيب بنطالها الأسود الخلفية. واضح أن البنطال لم يُشترَ لها لأنها اضطرت أن تحزم خصرها بحزام عريض أبيض مشقق كي تحكم لصقه بجسمها، كانت تلبس سترة حمراء ضيقة تكشف عن عنق أبيض فتي، لم أمنع نفسي من إطراء جمالها، وجهها المستدير النضر، وبياضها الوردي عيناها القلقتان الواسعتان، وفمها الممتلئ الذي يفتر عن ابتسامة قادرة على رسمها في قسم مكافحة الفتيات الجانحات.
أخذت تفقد تحفظها أمامي، شيئاً فشيئاً، بزفرات طويلة متلاحقة تعبر عن ضيقها.
سألتها: منذ متى أنت هنا يا عذاب؟
قالت بآلية: منذ خمسة شهور.
سألت: أين كنت من قبل؟
ردت بالآلية ذاتها: في الشارع.
قالتها بسخرية باردة: كأنها تريد أن تصفعني بها، وتصفع المجتمع بأكمله، لم أستطع إخفاء دهشتي قلت لها: في الشارع؟ أتنامين في الشارع؟
قالت ببساطة: لا، بل أنام في المغاور.
سألت: أية مغاور؟ من أين أنت؟
-من منطقة القساطل.
-أليس لك أهل؟
-أجل.
كانت ترد على أسئلتي ببساطة شديدة، كأن واقعها لا يثير أية غرابة.
-أين والداك؟
-أبي في السجن.
-لماذا؟
أسرعت بالرد: كان يهرّب مخدرات.
-من قال هذا الكلام؟
ضحكت قائلة: الكل، راسمة بيديها دائرة أغلقتها بإحكام عليها.
-وأمك؟
-أمي تزوجت.
-لماذا لا تعيشين معها؟
-زوجها لا يرضى.
-وهي، أتعرف كيف تعيشين؟
-أجل.
-وكيف ترضى؟
هزت كتفيها بلا مبالاة، وكررت بآلية: زوجها لا يرضى.
-أليس لك أقارب؟
-أجل أعمام وأخوال.
-لماذا لا تعيشين عند أحدٍ منهم؟
-لا يرضون.
كانت تحمل على كاهلها لعنة العصر، أحسستُ من الآلية المطلقة التي تجيب بها، أنها لا تعرف صفات إنسانية أساسية، كالحب، والحنان والتعاطف والرقة... أخبرتني أنها تعيش في المغاور مذ كانت في السابعة من عمرها، وأنها قبل هذه السن كانت تعيش مع أب وأم دائمي الشجار، كان والدها يضربها وأخوتها ضرباً مبرحاً، حين ترجع خاوية اليدين من التسول، ومراراً كان يرميها لتنام في العراء، غير آبه بالبرد والذئاب البشرية.
سألتها: كم أخ لديك؟
قالت: ثلاثة صبيان، وبنت.
-هل أنت الكبرى؟
-أجل.
-أين البقية؟
رفعت كتفيها باستخفاف وقالت: لا أعرف.
حّل بيننا صمت متوتر، كانت ترمقني بعينيها الزائغتين اللتين يلوح فيهما الانهيار والجنون والجهل، إنها تجهل تشخيص حالتها، تفتقت في ذهني جملة عفوية: أتراها إنسانة واقعية حقاً؟! أهي نتاج عصرٍ وحضارة!! أتنام حقاً في المغاور وتأكل من القمامة؟!
تدّفق دفء غزير من روحي تجاهها، وأنا ألاحظ خشونة يديها وتقصف أظافرها.
سألتها برقة: ماذا أخذت من دكان البقال؟
قالت: ألواح شوكولا، لا تتصورين كم أحبها.
-أبسببها سلمك للشرطة؟
-أجل، ضربني وسلمني.
-أحقاً ضربك؟
أشارت بيديها: نعم، على رأسي، وعلى ظهري، ركلني أيضاً في خاصرتي.
كيف تتكلم تلك الطفلة بهذه البساطة المعذبة، في صوتها رنة تحرقني وتشعرني بالذنب.
أمسكت يدها، وكأنني أريد التأكيد أنها كائن بشري حقيقي أمامي، وليست خيالاً فاراً من كابوس.
سألتها: هل حقاً رفضك كل أقربائك؟
أطرقت، لم تجب، لمعت نظرة حقد مخيفة في عينيها جعلت قلبي يرتعش، قالت وقد تصلب صوتها هذه المرة: أجل.
سألتها برقة مبالغ بها كي أساعدها على الاسترخاء: عذاب، أحسك تخبئين سراً عني، احكي لي كل شيء عن نفسك اعتبريني أختك...
قاطعتني ضاحكة: سوسن.
سألتها: من سوسن؟
-أختي، هل تريدين أن أعتبرك مثلها؟
ألا تعرفين شيئاً عنها؟
-لا، عاشت معي في المغاور، مدة، ثم ضاعت.
-ألا تعرفين تقدير تلك المدة؟
هزت رأسها بالنفي.
تذكرت، قالت: كانت تسعل دوماً، أحياناً كنت أضربها لأن سعالها يمنعني من النوم.
كم بدا سؤالي تافهاً وأنا أسأل مشردة مرمية في مغارة عن أحاسيس التعاطف الإنساني.
-أما كنت تخشين الذئاب والحيوانات المفترسة يا عذاب؟
رمقتني بنظرة غائمة، كأنها تستحضر ذكريات بعيدة وقالت: أحياناً.
-أكنت تشحذين الطعام من البيوت؟
-نعم.
-أكان الناس يلبون طلباتك؟
-أحياناً.
أحسست من كلامها، أنها لا تعرف الكثير من المفردات اللغوية، تفتقر للغة كما تفتقر لكل شيء، حاولت أن أحرض في نفسها شيئاً من الرقة لكني عجزت. سألتها بروح الدعابة: ألا تذكرين إنساناً أو إنسانة عاملاك بكرم ورقة.
الكرم فهمته، أما الرقة فكلمة تستعصي على عقلها الذي لا يختزن لمسة حنان. انتصبت واقفة كأنها تذكرت أهم حادثة في حياتها، قالت:
- ذات يوم كنت انكش في القمامة بحثاً عن بقايا طعام، فاجأني شاب يحمل صرة، فتحها أمامي، كانت تلك أعظم مفاجأة لي، تصوري فروج كامل -أخذت شهيقاً عميقاً وتابعت- رائحته دوختني، فروج مشوي مع سلطة خيار وبندورة، يا سلام، في حياتي لم أتذوق أطيب منه.
سألتها وأنا أتوجس من جوابها: هل أعطاك الفروج دون مقابل؟
ضحكت، تساءلت ماذا أعني، يبدو أنها لم تفهم معنى مقابل.
-أقصد ألم يطلب منك شيئاً؟
فرّت شرارة ألم سريعة من عينيها، قالت: عجباً، كأنك كنت معنا.
-عذاب، أرجوك صارحيني، ماذا حدث بينك وبين الشاب؟
ردت ببساطة: لا شيء طلب إلي فقط أن نصعد ظهر شاحنة.
-ظهر شاحنة؟
-أجل.
-وماذا فعل؟
-لا شيء، لا أتذكر تماماً، سوى أنه أرخى جثته فوقي.
هوى قلبي وتابعت أسئلتي: وأنت ماذا فعلت؟.
-لا شيء.
-ألم تقاوميه.
-لا.
-ألم تتألمي وتخافي؟
-لا، بل فاجأني؟
-لماذا لم تقاوميه؟
ردت ساخطة: ولماذا أقاومه وقد أحضر لي فروجاً!
-أمن أجل الفروج سمحت له أن يغتصبك؟
قالت مؤكدة: أجل، الجوع صعب، صعب.
كان لحرف الباء، بالطريقة التي تلفظه بها، مفعول إقفال كل إمكانية تواصل ولقاء بيننا.
أطرقت بخجل أمام الطفلة المسكينة، التي يعلق عليها الناس آمالهم. سألتها بعد تردد:
-هل تكرر معك ما حدث..
قاطعتني بألم صريح: تقصدين الرجال.
-أجل.
ردت ببساطة: نعم، تكرر.
سألتها: كيف؟
قالت: ذات مرة دخلت أشحذ من مكتب، كان رجل وحده، طلب إلي أن أجلس، أغلق الباب، أدخلني حماماً صغيراً طلب إلي أن أغتسل، فرحت في البداية، كنت أحتاج لتنظيف جسدي، ثم تصرف معي، ضحكت، ولم تكمل.
-ألا تعرفين أن هذا الفعل يسمى اغتصاباً؟
-لا، لم أسمع بهذه الكلمة من قبل.
دخلت المشرفة تحمل فنجان قهوة، فرّت عذاب وهي تغمزني، قالت للمشرفة: السيدة أعطتني مالاً هل يمكنني شراء بعض الأغراض من عند البقال.
قالت بجفاء: أجل، إنما لا تتأخري.
سألت المشرفة: كيف تعيش عذاب هنا؟
تنهدت قائلة: من التبرعات، ننتظر أن يتحنن عليها أحد أقربائها ويأخذها لتعيش عنده، تصوري، ذهبت بنفسي لمقابلة أمها، بعد أن أضنانا البحث عن عنوانها، رفضت استقبال ابنتها، قالت أنها غير مستعدة أن ترمى في الشارع مع أولادها بسبب عذاب.
-شيء غريب، الحيوانات تحنّ على أولادها!
رشفت القهوة بصوتٍ عالٍ، قالت: ألا تعرفين أحداً ما يبحث عن خادمة؟
وجدتني أسأل: ألم تفكري بتعليمها القراءة والكتابة؟
ضحكت: القراءة والكتابة؟ لماذا، هل ستسد جوعها! المشكلة مع عذاب أنها عدوانية، شرسة، لا يغرّك شكلها، مقصوفة العمر جميلة، اقتربت مني وهمست قائلة: لا تؤاخذينني أظن أنها مشروع (...)
انتفضت مجفلة من هذه الجملة، كأن أحداً لكزني بقوة مابين كتفي، وجدتني أقول باحتداد: يجب أن نسعي لتكون هذه الفتاة مشروع إنسانة، كلنا يجب أن نساعدها لتصير إنسانة تحس بكرامتها، لا أن تُرمى بين الجدران كغرض ينتظر من يستعمله.
قاطعتني المشرفة بدهشة وهي تستغرب انفعالي: ألا يكفي أننا آويناها، نطعمها ونلبسها بعد أن كانت مشردة كالكلاب.
لم أستطع أن أرد بكلمة، كانت صورة عذاب تحاصرني وهي تنام في المغاور، وهي تنكش في القمامة، وهي تقايض جسدها بفروج، وهي تنام في العراء مطرودة من بيت والديها، صور كثيفة كأنني شاهدة حقيقية عليها، حاصرتني ولحقتني وأنا أخرج من مبنى مركز مكافحة الفتيات الجانحات، لأقف مسمُرة أمام اللافتة العريضة الضاجة بالأحمر، وهي تؤكد إحساسي بالخجل.
هيفاء بيطار