الدعوى الدستورية
لقد بينت التجارب ان ليس ثمة ضمانة لكي تأتي القوانين التي تضعها البرلمانات متطابقة والنصوص الدستورية الضامنة للحقوق والواجبات ، إذ من الممكن الالتفاف على هذه الضمانات في عملية التشريع ، وان مبدأ الفصل بين السلطات لايشكل في اطار الممارسة ، الضمانة التي تكلم عنها مونتسكيو . حيث يتم تجاوز مبدأ الفصل بين السلطات والجنوح نحو الديكتاتورية ، ولاتعود هناك ثمة ضمانة للحقوق والحريات سوى القضاء ، هذا اذا كان مستقلا ونزيها ، اذ غالبا مايؤدي الاستئثار بالسلطتين التشريعية والتنفيذية الى النيل من استقلال القضاء ونزاهته . وهذا قد لاينطبق على الدول التي تجذر فيها استقلال القضاء ، مثل بريطانيا ، حيث للشعب ثقافته وتقاليده اضافة الى وعي الرأي العام الذي يراقب ويحاسب من خلال الانتخابات . وقد بينت التجارب ان لاشيء يضمن صحة ونزاهة الانتخابات التي تنبثق السلطة فيها من الشعب ، لذلك فان هذا الواقع اكد على ضرورة وجود هيئة مستقلة قادرة على ممارسة الرقابة على التشريع بحيث لاتأتي القوانين متعارضة مع الدستور ، والفصل في صحة الانتخابات ، وأدى ذلك الى نشوء مبدأ دستورية القوانين الذي وجد التعبير عنه في نموذجين ، النموذج الامريكي حيث تمارس الرقابة على دستورية القوانين من قبل المحاكم على اختلاف درجاتها ، والنموذج الاوربي الذي ارتكز على نظرية (هانس كلسن Hans Kelsen ) ، والمعمول به في معظم الدول ومن بينها الدول العربية [2].
لقد اخذت بعض الانظمة العربية بمبدأ الرقابة على دستورية القوانين ، بدءاً من مطلع السبعينات من القرن العشرين ، معتمدة النموذج الاوربي للرقابة من خلال هيئة مستقلة عن التنظيم القضائي ، فأنيطت هذه الرقابة بمحكمة دستورية عليا ، وفي بعضها انيطت الرقابة بمجلس دستوري ، او بمحكمة عليا في بعضها الآخر ، تقوم على رأس التنظيم القضائي ، ومن ضمن اختصاصاتها النظر في دستورية القوانين . لقد انشئت هذه المحاكم او المجالس الدستورية تحت تأثير التوجه العالمي لإرساء دستورية الحكم ، وكوسيلة لإضفاء مزيد من الشرعية على السلطة الحاكمة . ولا يغيب عن البال ان العراق ومنذ ان شهد اول دستور له بعد استقلاله عن دولة الانتداب وقيام الحكم الوطني ، بادر لتشكيل محكمة عليا لمحاكمة الوزراء واعضاء مجلسي الامة المتهمين بجرائم سياسية ، او بجرائم تتعلق بوظائفهم العامة ، ولمحاكمة حكام محكمة التمييز عن الجرائم الناشئة من وظائفهم ، وللبت بالامور المتعلقة بتفسير هذا القانون ، وموافقة القوانين الاخرى لاحكامه [3]. وجرت محاولة لانشاء رقابة على دستورية القوانين تناط بمحكمة دستورية وذلك عام 1964 ، فكلف رئيس الجمهورية آنذاك وزير العدل المرحوم السيد كامل الخطيب بوضع مشروع دستور مؤقت ، وبدوره قام بتأليف لجنة من كبار القضاة ، ومن اعضاء ديوان التدوين القانوني لانجاز المهمة ، وتوصلت اللجنة المعنية الى وضع مشروع دستور مؤقت اعتمدت في وضعه على دساتير الاقطار العربية ، وبعض الدساتير الاجنبية ، وتضمن في بابه الرابع سلطات الدولة ، ونظم الفصل الخامس منه السلطة القضائية وانشأ محكمة دستورية . الا ان هذا المشروع لم ير النور ، إذ رفض بعد مناقشته من قبل رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء [4]. كما تضمن دستور 21 ايلول 1968 المؤقت نصا يشير الى تشكيل محكمة دستورية عليا تقوم بتفسير احكام الدستور ، والبت في دستورية القوانين ، وتفسير القوانين الادارية ، والمالية ، والبت بمخالفة الانظمة للقوانين الصادرة بمقتضاها ، ويكون قرار المحكمة ملزما [5]. الى أن قيض للعراق أن تشكل المحكمة الاتحادية العليا بعد صدور قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية ، وتشريع قانونها رقم (30) لسنة 2005 ، والتأكيد على دورها في دستور عام (2005) . فقد اثبتت المحكمة الاتحادية العليا في العراق في الكثير من قراراتها انها ، ومن خلال الدعاوى الدستورية التي تنظرها وتبت فيها ، انها الوسيلة المثلى لضمان حماية الحقوق والحريات وصيانة الدستور من العبث والانتهاك ، ومن خلال هذه الاهمية للمحكمة الاتحادية العليا وللدعوى الدستورية التي تنظرها ، تصدى الباحث للدعوى الدستورية .
ان الدعوى الدستورية التي تصدى لها الباحث ، هي السبيل لضمان الحقوق والحريات ، وضمانة للفصل بين السلطات وتوازنها ، وهي الضمان لاستقلال السلطة القضائية ، اذا ما جرى انتهاك استقلاليتها من خلال سن قوانين تنال من هذا الاستقلال ، وهي الضمانة لشرعية السلطة المنبثقة من الشعب عبر الانتخابات . فالقضاء الدستوري هو الذي يفصل في صحة الانتخابات ، ونزاهتها ، ومدى ديمقراطيتها . فللقضاء الدستوري ، ومن خلال الدعوى الدستورية ، الدور الاساسي في انتظام أداء المؤسسات الدستورية ، وبالتالي الحياة السياسية ، وصيانة شرعية السلطة ، وفي ارساء دستورية الحكم .