سيرة قيس بن الملوَّح
مجنون بني عامر
1- تمهيد
كانت عاطفة الحب منذ بدء الخليقة وكما يقول بلبل سوريا ولبنان مصطفى صادق الرافعي:
حرفانِ كُوِّنَتْ الدنيا لأجلهما *** كمْ ضَمَّنا من معانٍ ذاتِ أنباءِ
إنها العلاقة النبيلة بين كل ما خلق الله من نبات أو جماد أو حيوان أو إنسان. فما ائتلف منها انسج ، وما اختلف منها انفصم.
إنه نظامٌ كونيٌّ متناسق تجمعه علائق من التجاذب والتعاطف، يميل كل منهما إلى الآخر، ولا يستطيع العيش بدونه، وإلا كان حُطاماً متناثراً، أدركته حتمية المصير بالتفرد والتوحد والتوحش والفناء، ولا يبقى منه إلا ما يصلح ليكون عبرةً، وأمثولةً لكل من يشذُّ عن القانون العام الذي فطر الله مخلوقاته عليه.
ومن هؤلاء كان العشاق العذريون الذين تفرَّدوا بعشقهم عن سائر خلق الله – فتوحدوا بمحبوبةٍ، ولم يرضوا عنها بديلاً، فكان التفرد والتوحد والتوحش – وقضوا حسرةً ومعاناةً .
ومنهم كان قيس بن الملوح أو مجنون ليلى، أو مجنون بني عامر كما كان يُلقَّبُ من حين لآخر .
2- العصر والبيئة
أ – البيئة السياسية: عاش قيس بن الملوح بن مزاحم بن عدس بن ربيعة من قبيلة بني عامر، في زمن خلافة مروان بن الحكم في مطالع خلافة بني أمية.
تولى على الخلافة بعد الخلفاء الراشدين وإثر مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بنو أمية، بقيادة معاوية بن أبي سفيان، مما أثار عليه أتباع علي، فراحوا يكيدون لمعاوية ولمن وَلِيَ الخلافة من أُسرته، من بعده، ساعين لاستعادة حقهم السليب، وبخاصة بعد معركة كربلاء، ومقتل الأُسرة الهاشمية.
كما كان هناك الخوارج الذين كانوا يثيرون القلاقلَ، ويستميتون في سبيل قضيّتهم. ولا ننسى عبد الله بن الزبير، وأخاه مصعب اللذين نقَضَا عهدهما لمعاوية بمبايعة ابنه يزيد على حياته ليجعل الحكم في الخلافة وراثياً لبني أُمية من بعده، مُجبراً زُعماء القبائل على مبايعة يزيد مُخيراً إياهم بالسيف أمامه أو مبايعة يزيد، ليضمن بذلك لأسرته الخلافة.
وما كاد خبرُ وفاة معاوية يصل عبد الله بن الزبير حتى نقض العهد والبيعة معلناً ثورته وعدم الإعتراف بالخلافة الأموية.
فكانت الإضطرابات في بلاد الحجاز بخاصة، وفي الجزيرة العربية بعامة مصدر قلقٍ للأمويين المتربعين على عرش دمشق، يُجيِّشون الجيوش للفتوحات في الخارج، واضطرارهم إلى قمع الاضطرابات والثورات في الداخل.
ب – البيئة الاجتماعية: إتبع الأمويون سياسة الاسترضاء في الجزيرة، وبخاصة في الحجاز، فأخذوا يتقربون من القبائل العربية المنتشرة في البادية والمدن، بالمصاهرة تارةً، وبإغداق الأموال والعطايا تارة أخرى، لتقف هذه القبائل إلى جانب الخلافة.
ولذلك تميز العصر الأموي في شبه الجزيرة بأمرين: عرب الحضر، وعرب البادية.
- عرب الحضر: في الحجاز (مكة المكرمة، والمدينة المنورة)، مَدْرَجُ الرسول، ومنبعُ الرسالة الإسلامية، ومهبط الوحي، ومقام الصحابة والتابعين، وأسس التشريع الإسلامي.
ولذلك لا عجب إذا ما رأينا أن التيار الديني هو السائد فيهما، فقد كانتا مقصداً لكل من أراد التفقُّهَ في الدين، والأخذ بتعاليم الإسلام من منابعه الأصيلة من تفسير لآيات القرآن الكريم، أو لحديث شريف مُثبت، أم من تتبُّعٍ لسيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
الغزل الحضري: وبجانب هذا التيار الديني، كان هناك تيار آخر مناقض له يقوده أولئك الشباب الذين أغدق عليهم الأمويون عطاياهم بسخاء، ليبعدوهم عن السياسة وهمومها. فاجتمع لهؤلاء: الشباب والفراغ والمال، فانصرفوا إلى اللهو والمجون والغناء. فعرف الحجاز معهم الغزل الحضري الذي كان يتزعّمه عمر بن أبي ربيعة ، والأحوص وأمثالهما...
- عرب البادية: وأما عرب البادية فقد استمروا في بداوتهم رُحلاً يقومون على رعي الماشية، وطلب الكلأ والماء. فلم يغير الإسلام في نمط حياتهم ومعيشتهم، وإنما غير في تصرفاتهم ومعتقداتهم وعباداتهم، وأبقى على ما كان يتَّصفُ به البدوي من خِلالٍ حميدةٍ، كعِفَّةِ النفسِ، وصونِ العرضِ، وقِرى الضَّيف ...
وبفعل هذا التفاعل بين الدين الإسلامي وقيمه وتعاليمه بما فيها من دعوة إلى احترام المرأة ، والحفاظ عليها وعلى كرامتها، وتحديد علاقة الرجل بها، وبين حياة البداوة بما فيها من أَنَفة وصبر على المكاره، واحتمال الظروف القاسية، وبفعل ردة الفعل بين الشعر الحضري بما فيه من تَعَرُّض للمرأة والتغزُّلِ بها، مما تأباه نفسية البدوي المتمسك بتقاليده، وأَنفتهِ ، نشأَ نوعٌ ثانٍ من الشعر الذي أُطلق عليه : أَلغزل العفيف ، أو الغزل العُذْريُّ نسبةً إلى قبيلة بني عُذْرة التي اشتهر به شعراؤها.
وفي هذا المجال يقول طه حسين، عميد الأدب العربي، في كتابه: "حديث الأربعاء" ، عن هؤلاء الشعراء: "وكان أهل البادية الحجازية يائسين، وقد تأثروا بالإسلام، وبالقرآن خاصة، فنشأ في نفوسهم شيءٌ من التقوى، ليس بالحضريّ الخالص، وليس بالبدويّ الخالص، ولكن فيه سذاجةٌ بدويةٌ، وفيه رقَّةٌ إسلاميةٌ، وانصرف هؤلاء الناس إلى أنفسهم ، إلى شيء من المثل الأعلى في الحياة الخلقية وظهر هذا المثل الأعلى في هذا الغزل العفيف".
3- خصائص الشعر العذريّ
ومن أهم خصائص هذا الشعر (العذري):
1- الوفاء لامرأة واحدة حتى النفس الأخير.
2- قَصْرُ الشعر عليها وحدها دون سواها من خلق الله.
3- العفَّةُ في الحب واللفظ.
4- القناعة والرضى بالنظرة العابرة وبالإلتفاتة الخاطفة.
5- التضحية بكل غالٍ ونفيس بالرغم من الحرمان والهجر.
6- أَلبوحُ بخلجات النفس والإكتفاء بها. آلامُ الشاعر محور شِعره.
7- يجد العذريُّ في الحرمان لذَّته وفي الألم مصدر وحيٍ لشعره.
4- من عادات البداوة
من العادات القبلية السائدة تحريم زواج الفتاة بمن سبق له وصرَّحَ بحبه لها على الملأ، فعُرِفَ بها وعرفتْ به، وذلك حفاظاً على شرفها، ونفياً لكل علاقة يمكن أن تكون بين العاشقين. فيُزّوِّجها أهلها من غيره، تأكيداً منهم بأن ابنتهم شريفةٌ طاهرةٌ، وصاحبها مدَّعٍ كاذبٌ وأنها تحتفظ بأعزِّ ما تملكه فتاةٌ ، طهرها في بكارتها، لزوج المستقبل. ولو أنهم زوَّجوها بمن أحبَّته وأحبها وتغزَّلَ بها لكان ذلك منهم اعترافاً ضمنياً بأنهم يسترون عارَهم، وفي ذلك تصديقاً لما قاله العذَّالُ والوُشاةُ.
ويقصُّ أبو الفرج في كتابه الأغاني: "إنَّ أبا المجنون وأمَّه ورجالَ عشيرته اجتمعوا إلى أبي ليلى، فوعظوه وناشدوه الله والرَّحِمَ وقالوا له: "إنَّ هذا الرجل لهالكٌ، وقبل ذلك ففي أقبح من الهلاك بذهاب عقله، وإنك فاجعٌ به أباه وأهله، فنشدناك الله والرحم أن تفعل ذلك، فوالله ما هي أشرف منه، ولا لك مثل مال أبيه، وقد حكَّمَكَ في المهر، وإنْ شئتَ أن يخلعَ نفسه إليك من ماله فعل، فأبى وحلف بالله وبطلاق أُمِّها، إنه لا يزوِّجُهُ إياها أبداً. وقال: أَفضح نفسي وعشيرتي وآتي ما لم يأتِهِ أحدٌ من العرب، وأسِمُ ابنتي بميسمِ فضيحة!
وما كادوا ينصرفون حتى زَوَّجَهَا لرجل موسرٍ من ثقيف كان قد تقدَّمَ لخطبتها، إسمه ورد بن محمد، رغماً عنها، درءاً للفضيحة، وإعلاناً للملأ بأن ابنته شريفةٌ طاهرةٌ ، تحتفظ بأعزِّ ما تملكه فتاةٌ لزوج المستقبل.
وصل الخبرُ قيساً فذهب ما بقي من عقله، وجُنَّ جُنُونُه، وهام على وجهه يشكو همَّه وهيامَه للصحراء بما فيها من غزلانٍ وظباءٍ، وهديل الحمام على الأيك يذكّره بجراحه، وأسراب القطا تحمل سلامه والقمر الساهر ملتقى عيون الحبيبين.
شكوتُ إلى سرب القطا إذ مررن بي *** فقلت ومثلي بالبكاء جدير
أسرب القطا هل من معير جناحه *** لعلي إلى من قد هويتُ أطيرُ
فجاوبنني من فوق غصن أراكةٍ *** ألا كلنا يا مُستعيرُ مُعيرُ
وأي قطاةٍ لم تعركَ جناحها *** فعاشت بِضُرٍّ والجناحُ كسير
وإلا فمن هذا يؤدي رسالة *** فأشكره إن المحب شكور
إلى الله أشكو صبوتي بعد كربتي *** ونيران شوقي ما بهن فُتُورُ
فإني لقاسي القلب إن كنت صابراً *** غداة غدٍ فيمن يسيرُ تسيرُ
فإن لم أمت غماً وهماً وكُربةً *** يعاودني بعد الزفير زفيرُ
إذا جاءني منها الكتابُ بعينه *** خلوتُ ببيتي حيث كنت من الأرض
فأبكي لنفسي رحمة من جفائها *** ويبكي من الهجران بعضي على بعضي
وإني لأهواها مسيئاً ومحسناً *** وأقضي على نفسي لها بالذي تقضي
فحتى متى رَوْحُ الرضا لا ينالني *** وحتى متى أيام سخطكِ لا تمضي
لقد هتفت في جُنح ليلٍ حمامةٌ *** على فَنَنٍ وهناً وإني لنائمُ
فقلتُ اعتذاراً عند ذاك وإنني *** لنفسي فيما قد أتيتُ للائم
أأزعمُ أني عاشقٌ ذو صبابة *** بليلى ولا أبكي وتبكي البهائم
كذبتُ وبيت الله لو كنت عاشقاً *** لما سبقتني بالبكاء الحمائم
المصدر: ديوان مجنون ليلى
شرح عدنان زكي درويش
دار صادر/بيروت
Ophelia
06-09-2006, 08:31 PM
5- المجنون وليلاه
إن نفراً من النقاد يُشكِّكون بنسبة هذا الشِّعر لشاعر اسمه قيس بن الملوح ومنهم من يُغالي وينفي وجود شاعر اسمه قيس بن الملوح. وإن نفراً آخر يثبت وجوده ووجود شعره وديوانه وكلهم يعتمدون في تحقيقاتهم على ما ورد في كتاب الأغاني لأبي الفرج أو في طبقات الشعراء لابن المعتز أو في مسالك الأبصار أو "في تزيين الأسواق في أخبار العشاق" لداوود الأنطاكي.
ولكن ما يهمنا هو هذا الشعر العذري المتناقل والذي وصل إلينا من خلال ديوانه، وهذه العلاقة بين قيس وليلاه والتي ينضح بها هذا الشعر ليروي قصة حب بدأت منذ كانا صغيرين يرعيان الماشية عند جبل التوباد، معتمدين في ذلك على ما ورد منها في كتاب الأغاني:
" هي ليلى بنت مهدي بن سعد بن ربيعة بن عامر، كانت ترعى ماشية أهلها في جبل اسمه التوباد، وهناك التقت قيساً، فإذا هما أولاد عمومة ومن حي واحد، فتعارفا، ودرجا صغيرين، علق كل منهما الآخر. ولما كبرا، كبر معهما حبهما وصار قيس يتردد نهاراً على حي ليلى، ويَذكر اسمها ليلاً أمام أصحابه، وينظم فيها الشعر، مكتفياً بها عن سائر بنات القبيلة، وكلما اقتربت منه إحداهن أعرض عنها حتى صار عشقه مدار حديث أهل الحي. فوصل خبره إلى أهل ليلى فأنكروا عليه ذلك ومنعوه من الإقتراب منها والتحدث إليها، صوناً لعرضهم وشرفهم. فثارت ثائرته على أبيها وأهلها، وهجاهم وأغلظ في هجائه لحرمانه من ليلاه. فاجتمع عليه أهله وقومه، ولاموه على فعله، وعلى ما يصنع بنفسه، وأخذوا يغرونه بالزواج من امرأة غيرها، ويعرضون عليه أجمل بنات الحي، فيأبى ويستنكر ويظل يلهج بذكرها، وحرمانه، وكلما زادوه ملاماً، ازداد هُياماً. وأجابهم يوماً فقال: "إن الذي بي من الهوى ليس بهيِّنٍ، فأقِلُّوا من ملامكم، فلست بسامع فيها، ولا مطيعٍ لقول قائل".
كما روى شيئاً من خبره لمن جاءه متسائلاً عما يشعر به في حضرة ليلى إذا ما التقاها، وكان ذلك قبل أن يذهب عقله ويهيم على وجهه . قال: " طَرَقَنا ذات ليلة أضياف، ولم يكن عندنا لهم أَدْمٌ، فبعثني أبي إلى منزل أبي ليلى وقال لي: أُطلب لنا منه أَدْماً. فأتيته ، فوقفت على خِبائه فصِحتُ به: فقال: ما تشاء؟ قلت: طرقنا ضيفان ولا أَدْمَ عندنا لهم، فأرسلني أبي نطلب منك أدماً. فقال: يا ليلى، أخرجي إليه، فاملئي له إناءه من السمن، فجعلت تصب السمن في إنائي ونحن نتحدث، فألهانا الحديث حتى امتلأ الإناء وسال حتى استنقعت أرجلُنا بالسَّمن". وأتيتهم في ليلة ثانية أطلب ناراً، وأنا مُتلفِّعٌ بِبُرْدٍ لي، فأخرجت لي ناراً في عُطبةٍ (خرقة تُؤْخذ بها النار) فأعطتنيها ووقفنا نتحدث، فلما احترقت خَرَقْتُ من بُردي خِرْقَةً وجعلتُ النار فيها، فكلما احترقتُ خرقتُ أخرى وأذكيتُ بها النار حتى لم يبق عليَّ من البُردِ إلا ما وارى عورتي، وما أعقل ما أصنع".
ولطالما كانت ليلى تَعِده بزيارة، ويلبث منتظراً متشوقاً على أمل لقاءٍ لا يتحقق فيرسل إليها المراسيل، وهي تعد وتُسوِّفُ. فأتى الحي يوماً قربَ منزلها وجلس إلى نسوة من أهلها، وأخذ يُنشدهُنَّ آخر ما نظم من شعر. ولما انتهى تضاحكنَ متهامساتٍ. فاستحيتْ ليلى وَرَقَّتْ لحاله حتى بكتْ. فقلنْ له: ما الذي دعاكَ إلى أن أحللتَ بنفسك ما ترى في هوى ليلى، وإنما هي امرأة من النساء؟ وهل لك في أن تصرف هواك عنها إلى إحدانا فنجزيك بهواك، ويرجع إليك ما ضاع من عقلك، ويصح جسمك؟ فقال: لات ساعة ندامةٍ لو استطعتُ لعشتُ مستريحاً. فقلنَ له: ما أعجبك منها؟ فقال:
هي البدرُ حسناً والنساءُ كواكبٌ /// فشتَّانَ ما بين البدر والكواكبِ
ولما اشتد عليه المرض، وعاف الطعام والشراب، وعاش مستوحشاً، صعب أمره على قلب أمه فذهبت إلى ليلى ترجوها أن تلقاه ولو مرة، عله يتوب إلى نفسه ويعود عليه عقله. فأتته ليلاً في غفلة من أهلها فقالت له وكانت شاعرة مُقلَّة:
أُخبرتُ أنك من أجلي جُنِنْتَ وقد /// فارقتَ أهلكَ لمْ تعقِلْ ولم تَفِقِ
فأنشدها:
قالتْ جُننتَ على رأسي فقلتُ لها /// أَلحبُ أعظمُ مما بالمجانين
الحب ليس يفيقُ الدهرَ صاحبهُ /// وإنما يُصرعُ المجنون في الحين
لو تعلمين إذا ما غبتِ ما سَقَمي /// وكيف تسهرُ عيني لم تلوميني
فبكت معه وتحدثا طويلاً ثم ودَّعته وكان آخر عهده بها.
ثم مرت الأيام وانصرمت، وتشاءُ الصدف أن يلتقي قيس حيَّ ليلى راحلاً، فعرفه وأخذ يتفحص الوجوه بحثاً عن ليلى حتى وقع عليها نظره، وتلاقت العيون فعرفته فخرَّ مغشياً عليه، فرقَّتْ لحاله وأرسلت أَمَّةً لها لتُبلغَهُ سلامها، وتقول له: لقد عزَّ عليَّ ما أنت فيه، ولو وجدتُ سبيلاً إلى شفاءِ دائكَ لوَقَيْتُكَ بنفسي منه. فأفاقَ وجلسَ وقال لها: أبلغيها عني السلامَ وقولي لها: هيهات! إن دائي أنت، وإن حياتي ووقائي لفي يديكِ، ولقد وكَّلتِ بي شقاءً لازماً ، وبلاءً طويلاً .
وكان مروان بن الحكم قد ولَّى عمر بن عبد الرحمن بن عوف صدقات بني كعب وقشير، وجعده، والحُريش، وحبيب، وعبد الله، فأتاه قيسُ، قبل أن يستفحل أمره، ورجاه أن يخرج معه قائلاً: أكون معك في هذا الجمع غداً، فأُرَى في أصحابك، وأتَجَمَّلُ في عشيرتي بك، وأفخر بقربكِ. فوافقه عمرُ لولا أن جاءه من يقول له من رهطِ ليلى: "إنه لا يريد التجمُّلَ به، وإنما يريد أن يدخل عليهم بيوتهم، ويفضحهم في امرأة منهم يهواها، وأن السلطان قد أهدر دمه إن دخل عليهم. فأعرض عنه ابن عوف وأمر له بقلائص، فردها عليه.
وبعد سنة تولّى الصدقات مكان عمر بن عبد الرحمن، نوفل بن مساحقٍ فلقي قيساً بلعب بالتراب وهو عريان، فقال لأحدهم: خذْ هذا الثوبَ وألقِه على ذلك الرجل. فقال له: أَتعرفُه، جُعِلتُ فداك؟ قال: لا. قال: هذا ابن سيِّدِ الحيِّ، لا والله لا يلبس الثياب، ولا يزيد على ما تراه يفعله الآن. وإذا طُرِحَ عن أمره. فاقترب منه وأخذ يحدِّثه عن ليلى فأفاق وأخذ ينشده شعره فيها، فعرض عليه نوفل أن يذهب به ويتوسط له عند أبي ليلى وأهلها، فيخطبها له. فعاد إليه رشده وأسرع إلى الثياب فلبسها وراح معه كأصحِّ ما يكون. فبلغ ذلك رهطَ ليلى، فتلقَّوْهُ بالسلاح وقالوا له: ما سبق وقالوا لعمر بن عبد الرحمن بن عوف. وأصروا على موقفهم منه رافضين كل عطاء ابن مساحق.
فعاد قيساً كسيراً مرذولاً إلى الفلاة ليعانق أطباءَها لما رأى في عيونها من شبه بعيون ليلى:
رأيتُ غزالاً يرتقي وسطَ روضةٍ /// فقلتُ : أرى ليلى تراءتْ لنا ظُهرا
ألا يا شِبهَ ليلى لا تُراعي /// ولا تَنْسلَّ عن وردِ التلاعِ
راحوا يصيدون الظباءَ وإنني /// لأرى تَصَيُّدها عليَّ حراما
أَشْبَهْنَ منكَ سوالفاً ومدامعاً /// فأرى عليَّ لها بذاكَ ذِماما
ولما بلغ قيساً خبرُ زواج ليلى من ورد بن محمد جُنَّ جنونه، فنصح أهل الحي أباه أن يذهب به إلى مكة حاجّاً، ليطوف حول الكعبة ويدعو الله له بالشفاء. وأثناء الطواف طلب من أبوه أن يتمسك بستار الكعبة ويسأل الله البرءَ والشفاءَ من حب ليلى. فما كان منه إلا أن تعلَّقَ بأستار الكعبة ورفعَ صوته بالدعاء:
اللهم ! زدْني لليلى حبّاً ، وبها كَلَفاً ولا تُنْسِني ذكرها أبداً . فيئس منه أبوه وعاد به.
إلتقى المجنون بزوج ليلى جالساً امام خبائه، فوقف وأنشده من قلبٍ محبٍّ تأكله الغيرة:
بربِّكَ هل ضممتَ إليكَ ليلى /// قُبَيْلَ الصُّبحِ أو قَبَّلْتَ فاها
فقال الزوجُ: إذا حلَّفْتَني فنعم، ليزيده ألماً وحسرةً ونكايةً. فما كان من قيسٍ إلا أن قبض على جمرتين بكلتا يديه وما فارقهما حتى سقط مغشياً عليه.
وظلَّ قيسٌ على حاله هذه هائماً على وجهه، متفرداً في حبه، آنساً لرُؤية الظباءِ حتى وجدوه ميتاً مرمياً بين الحجارة، فانتشلوه وغسَّلوه ودفنوه.
وهكذا انتهت معه قصّةُ حبٍّ عفيف طاهرٍ، قستْ عليه عاداتٌ قبليّةٌ حَرَمَتْ قلبين من أن يعيشا في كنف الحبِّ وطهرهِ. ولكن الشاعر المجنون خلَّده جنونه، وخلَّد شعره اسم ليلى حتى أصبح الإسم الأَحَبَّ لكل عاشقٍ شاعرٍ يتغنَّى بليلاه، "وكُلٌّ على ليلاه يُغنّي".
Ophelia
06-09-2006, 08:35 PM
أخبار مجنون بني عامر ونسبه
نسبه الصحيح
هو – على ما يقوله مَنْ صَحَّحَ نسبه وحديثه – قيسٌ ، وقيل : مهدي ، والصحيح قيس بن الملوح بن مزاحم بن عُدَسَ بن ربيعة بين جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. ومن الدليل على أن اسمه قول ليلى صاحبته فيه:
ألا ليت شعري والخطوب كثيرة /// متى رَحْلُ قَيْسٍ مُستَقِلٌّ فَراجعُ
اسمه الصحيح
وأخبرني الحسن بن علي قال: حدَّثنا أحمد بن زُهَيْر قال: سمعت من لا أُحْصي يقول: اسم المجنون قيس بن الملوَّح .
لم يكن مجنوناً
وأخبرني هاشم بن محمد الخُزَاعيّ قال: حدَّثنا الرِّياشي، وأخبرني الجوهري عن عُمر بن شَبَّةَ الأصمعيّ يقول – وقد سُئِلَ عنه - : لم يكن مجنوناًً ولكن كانتْ به لَوثة كلوثةِ أبي حَيَّة النُّمَيْرِيّ .
الإختلاف في وجوده
وأخبرني حبيب بن نصر المُهَلَّبي . وأحمد بن عبد العزيز الجوهري عن ابن شَبَّةَ عن الحزامي قال: حدثني أيوب بن عبابة قال: سألت بني عامر بطناً بطناً عن مجنون بني عامر فما وجدت أحداً يعرفه.
وأخبرني عمي قال: حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني عن ابن دأبٍ قال: قلت لرجل من بني عامر: أتعرف المجنون وتروي من شعره شيئاً ؟ قال: أوقد فرغْنا من شعر العقلاء حتى نروي أشعار المجانين! إنهم لكثير ! فقلت: ليس هؤلاء أعني إنما أعني مجنون بني عامر الشاعر الذي قتله العشق، فقال : هيهات! بنو عامر أغلظ من ذاك، إنما يكون هذا في هذه اليمانية الضَّعافِ قلوبها، السخيفة عقولها، الصَّلعةِ رُؤوسها، فأما نزارُ فلا.
أخبرني هاشم بن محمد قال: حدّثنا الرياشي قال: سمعت الأصمعي يقول: رجلان ما عُرِفا في الدنيا قط إلا باسم مجنون: مجنون بني عامر، وابن القِرِيَّةِ، (هو أيوب بن زيد بن قيس والقِرِيَّة أمه وكان لَسِناً خطيباً.) وإنما وضعها الرُّواةُ .
وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال: حدَّثنا عمر بن شَبَّةَ قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد عن الحزامي قال: ولم أسمعه من الحزامي فكتبته عن ابن أبي سعد بن سليمان بن نوفل بن مساحق عن أبيه عن جده قال: سعيتُ (أي خرجت عاملاً على قبض الزكاة منهم.) على بني عامر فرأيت المجنون وأُتيتُ به وأنشدني:
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا أبو سعيد السُّكري قال: حدَّثنا إسماعيل بن مجمع عن المدائني قال: المجنون المشهور بالشعر عند الناس صاحب ليلى قيس بن معاذ من بني عامر، ثم من بني عُقيل، أحد بني نُمير بن عامر بن عقيل، قال: ومنهم رجل آخر يقال له: مهدي بن الملوح من بني جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة .
المجنون فتى من بني أمية؟
وأخبرني عمي عن الكراني قال: حدثنا ابن أبي سعد عن علي بن الصَّبَّاح عن ابن الكلبي قال: حُدِّثتُ أن حديث المجنون وشعره وضعه فتى من بني أمية كان يهوى ابنة عم له، وكان يكره أن يظهر ما بينه وبينها، فوضع حديث المجنون وقال الأشعار التي يرويها الناس للمجنون ونسبها إليه.
أخبرني الحسين بن يحيى وأبو الحسن الأسدي قالا: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: اسم المجنون قيس بن معاذ أحد بني جعدة بن كعب بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة.
وأخبرني أبو سعد الحسن بن علي بن زكريا العدوي قال: حدثنا حماد بن طالوت بن عباد: أنه سأل الأصمعي عنه، فقال: لم يكن مجنوناً، بل كانت به لوثة يحدثها العشق فيه، كان يهوى امرأة من قومه يقال لها ليلى، واسمه قيس بن معاذ.
وذكر عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه أن اسمه قيس بن معاذ.
وذكر شُعيب بن السكن عن يونس النحوي أن اسمه قيس بن الملوح، قال أبو عمرو الشيباني: وحدثني رجل من أهل اليمن أنه رآه ولقيه وسأله عن اسمه ونسبه، فذكر أنه قيس بن الملوح.
وذكر هشام بن محمد الكلبي أنه قيس بن الملوح، وحدث أن أباه مات قبل اختلاطه، فعقر على قبره وقال في ذلك:
عقرتُ على قبر الملوَّح ناقتي /// بذي السَّرْحِ لما أن جفاه الأقاربُ
وقلتُ لها كوني عقيراً فإنني /// غداً راجلٌ أمشي وبالأمس راكبُ
فلا يبعدَنْكَ الله يا بن مزاحمٍ /// فكلٌّ بكأسِ الموتِ لا شك شاربُ
وذكر إبراهيم بن المنذر الخزامي وأبو عبيدة معمر بن المثنى أن اسمه البحتري بن الجعد.
ذكر مصعب الزبيري والرياشي وأبو العالية أن اسمه الأقرع بن معاذ. وقال خالد بن كلثوم : اسمه مهدي بن الملوح.
وأخبرني الأخفش عن السكري عن أبي زياد الكلابي، قال: ليلى صاحبة المجنون هي ليلى بنت سعد بن مهدي بن ربيعة بن الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
أخبرني محمد بن خلف وَكِيعٌ، وقال: حدثنا أبو قلابة الرُّقاشي، قال حدثني عبد الصمد بن المُعَذَّل ، قال سمعت الأصمعي وقد تذاكرنا مجنون بني عامر يقول: لم يكن مجنوناً وإنما كانت به لوثة وهو القائل:
أخذتْ محاسنَ كلَّ ما /// ضَنَّتْ محاسِنُهُ بِحسْنِهْ
كادَ الغزالُ يكونها /// لولا الشَّوى ونُشُوزُ قَرْنِهْ
المجانين بليلى كثيرون
وأخبرني عمر بن عبد الله بن جميل العتكي قال: حدَّثنا عمر بن شَبَّةَ قال: حدَّثنا الأصمعي قال:
سألت أعرابياً من بني عامر بن صعصعة عن المجنون العامري فقال: عن أيهم تسألني؟ فقد كان فينا جماعة رُمُوا بالجنون، فعن أيهم تسأل؟ فقلت: عن الذي كان يُشَبِّبُ بليلى، فقال: كلهم كان يُشبب بليلى، قلت: فأنشدني لبعضهم، فأنشدني لمزاحم بن الحارث المجنون:
ألا أيها القلبُ الذي لجَّ هائماً /// بليلى وليداً لم تُقطَّعْ تمائِمُهْ
أفقْ قد أفاق العاشقون وقد أنى /// لك اليوم أن تلقى طبيباً تُلائمُهْ
أجِدّكَ لا تنسِكَ ليلى مُلِمَّةً /// تُلِمُّ ولا عَهْدٌ يطولُ تقادُمُهْ
قلت : فأنشدني لغيره منهم، فأنشدني لمعاذ بن كليب المجنون:
ألا طالما لاعبتُ ليلى وقادني /// إلى اللهو قلبٌ للحسانِ تبوعُ
وطال امتراء الشوقِ عينيَ كلما /// نزفتُ دموعاً تستجدُّ دموعُ
فقد طال إمساكي على الكبد التي /// بها من هوى ليلى الغداة صُدُوعُ
قلت له: فأنشدني لمن بقي من هؤلاء، فقال: حسبك! فوالله إن في واحد من هؤلاء لمن يُوزَنُ بعقلائكم اليوم.
أخبرني محمد بن خلف وكيعٌ قال: حدَّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز قال: قال ابن الأعرابي: كان معاذ بن كليب مجنوناً، وكان يحب كليلى، وشرِكَه في حبها مُزاحم بن الحارث العُقيلي، فقال مزاحم يوماً للمجنون:
كلانا يا معاذ يحب ليلى /// بِفيِّ وفيكَ من ليلى الترابُ
شركتُكَ في هوى من كان حظي /// وحظك من مودتها العذاب
لقد خبلتْ فؤادك ثم ثَنَّتْ /// بقلبي فهو مخبولٌ مُصابُ
قال فيقال: إنه لما سمع هذه الأبيات الْتُبِسَ وخولِطَ في عقله.
وذكر أبو عمرو الشيباني: أنه سمع في الليل هاتفاً بهتف بهذه الأبيات، فكانت سبب جنونه.
وذكر إبراهيم بن المنذر الحزامي عن أيوب بن عباية: أن فتىً من بني مروان كان يهوى امرأة منهم فيقول فيها الشعر وينسبه إلى المجنون، وأنه عمل له أخباراً وأضاف إليها ذلك الشعر، فحمله الناس وزادوا فيه.
المجنون اسم مستعار
وأخبرني عمي الكُراني عن العمري عن العتبي عن عوافة أنه قال: المجنون اسم مستعار لا حقيقة له، وليس له في بني عامر أصل ولا نسب، فسُئل من قال هذه الأشعار؟ فقال: فتىً من بني أمية.
وقال الجاحظ : ما ترك الناس شعراً مجهول القائل قيل في ليلى إلا نسبوه إلى المجنون، ولا شعراً هذه سبيله قيل في لُبنى إلا نسبوه إلى قيس بن ذريح.
وأخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال: حدثني أبو أيوب المديني قال: حدثني الحكم بن صالح قال: قيل لرجل من بني عامر: هل تعرفون فيكم المجنون الذي قتله العشق؟ فقال: هذا باطل، إنما يقتل العشق هذه اليمانية الضعاف القلوب.
أخبرنا أحمد بن عمر بن موسى قال: حدثنا براهيم بن المنذر الحزامي قال: حدثني أيوب بن عباية قال: حدثني من سأل بني عامر بطناً بطناً عن المجنون فما وجد فيهم أحداً يعرفه.
شعره مولد عليه
أخبرني محمد بن مَزْيَد بن أبي الأزهر قال: حدَّثنا أحمد بن الحارث عن ابن الأعرابي أنه ذكر عن جماعة من بني عامر سُئلوا عن المجنون فلم يعرفوه، وذكروا أن هذا الشعر كله مُوَّلد عليه.
أخبرني أحمد بن عُبيد الله بن عمَّار قال: حدثني بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه عن محمد بن الحكم عن عَوَانة قال: ثلاثة لم يكونوا قط ولا عُرفوا : ابن أبي العَقِب صاحب قصيدة الملاحم، وابن القِرِيَّة ، ومجنون بني عامر.
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال: حدَّثنا الرِّياي قال: سمعت الأصمعي يقول: الذي أُلقي على المجنون من الشعر وأُضيفَ إليه أكثر مما قاله هو.
أخبرني عيسى بن الحسين الوَرَّاقُ قال: حدثني إسحاق قال: أنشدت أيوب بن عبابة هذين البيتين:
وخبَّرتُماني أنَّ تَيْماءَ مَنزلٌ /// لليلى إذا ما الصيفُ ألقى المراسِيَا
فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت /// فما للنوى ترمي بليلى المَراميا
وسألته عن قائلهما، فقال: قلت له: إن الناس يروونهما للمجنون، فقال: ومن هو المجنون فأخبرته : فقال: ما لهذا حقيقةٌ ولا سمعت به.
وأخبرني عمي عن عبد الله بن شبيب عن هارون بن موسى القروي قال:
سألت أبا بكر العدوي عن هذين البيتين فقال: هما لجميل ، ولم يعرف المجنون، فهل معهما غيرهما ؟ قال: نعم، وأنشدني :
وإني لأخشى أن أموت فجاءةً /// وفي النفس حاجاتٌ إليكِ كما هيا
وإني ليُنسيني لقاؤك كلما /// لقيتكِ يوماً أن أبُثَّكِ ما بِيَا
وقالوا به داءٌ عَيَاءٌ أصابه /// وقد علمت نفسي مكان دوائِيَا
وأنا أذكر مما وقع إليَّ من أخباره جُملاً مستحسنةً ، مًتَبَرِّئاً من العهدة فيها، فإن أكثر أشعاره المذكورة في أخباره ينسبها بعض الرواة إلى غيره وينسبها من حُكِيَتْ عنه إليه، وإذا قدّمتُ هذه الشريطة برئتُ من عيبِ طاعنٍ ومُتَتَبِّعٍ للعيوب.
عشق ليلى صغيراً
أخبرني بخبره في شغفه بليلى جماعةٌ من الرواة، ونسخت ما لم أسمعه من الروايات وجمعت ذلك في سياقه ما اتَّسقَ ولم يختلف، فإذا نسبتُ كل رواية إلى روايتها.
فممن أخبرني بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المُهَلَّبي، قالا: حدثنا عمر بن شبة عن رجاله وإبراهيم بن أيوب عن ابن قُتيبة، ونسخت أخباره من رواية خالد بن كلثوم وأبي عمرو الشيباني وابن دأبٍ وهشام بن محمد الكلبي وإسحاق بن الحصَّاص وغيرهم من الرواة.
قال أبو عمرة الشيباني وأبو عبيدة : كان المجنون يهوى ليلى بنت مهدي بن سعد بن مهدي بن ربيعة بن الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وتُكنَّى أم مالك، وهما حينئذ صبيان، فعلق كل واحد منهما صاحبه وهما يرعيان مواشي أهلهما، فلم يزالا كذلك حتى كبرا فحُجِبَتْ عنه، قال: ويدل على ذلك قوله:
صوت
تعلَّقتُ ليلى وهي ذاتُ ذُؤابةٍ /// ولم يبدُ للأتراب من ثديها حجمُ
صغيرينِ نرعى البَهْمَ يا ليت أننا /// إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البَهْمُ
في هذين البيتين للأخضر الجُدِّيّ لحنٌ من الثقيل الثاني بالوسطى، ذكره هارون بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال: حدثنا بن علي قال: حدثني أبو عتاب البصري عن ابراهيم بن محمد الشافعي قال:
بينا ابن مليكة يؤذن إذ سمع الأخضر الجُدي يغني من دار العاص بن وائل:
وعُلِقْتُها غَرَّاءَ ذاتَ ذوائب /// ولم يبدُ للأترابِ من ثديها حجمُ
صغيرينِ نرعى البَهْمَ يا ليتَ أننا /// إلى اليوم لم نكبرْ ولم تكبَرِ البَهْمُ
وقال: فأراد أن يقول: حيِّ على الصلاة فقال: حيِّ على البَهْم ، حتى سمع أهل مكة فغدا يعتذر إليهم.
وقال ابن الكلبي: حدثني معروف المكي والمعلَّى بن هلال وإسحاق بن الجصاص قالوا:
كان سبب عشق المجنون ليلى، أنه أقبل ذات يوم على ناقة له كريمة وعليه حُلَّتان من حُلل الملوك، فمرَّ بامرأة من قومه يقال لها: كريمة ، وعندها جماعة نسوةٍ يتحدَّثن وأمر عبداً له كان معه فعقر لهنَّ ناقته، وظل يحدثهن بقية يومه، فبينا هو كذلك، إذ طلع عليهم فتىً عليه بُرْدَةٌ من برود الأعراب يقال له: مُنازلُ يَسُوقُ مِعْزىً له، فلما رأينه أقبلنَ عليه وتركنَ المجنون، فغضب وخرج من عندهن وأنشأ يقول:
أَأَعْقِرُ مِنْ جَرّا كريمةَ ناقتي /// ووصليَ مفروشٌ لوصلِ مُنازِلِ
إذا جاء قعقعنَ الحُلِيَّ ولم أكنْ /// إذا جئت أرضى صوت تلك الخلاخلِ
متى ما انتضَلْنا بالسهام نَضَلْتُهُ /// وإن نَرِمْ رشقاً عندها فهو ناضلي
قال : فلما أصبح لبِسَ حُلَّته وركب ناقة له أخرى ومضى متعرضاً لهنَّ فألفى ليلى قاعدة بفناء بيتها وقد علق حبُّه بقلبها وهويته، وعندها جُويريات يتحدثن معها، فوقف بهن وسلم، فدعونه إلى النزول وقلن له: هل لك في محادثة من لا يشغله مُنازلٌ ولا غيره؟ فقال: إي لعمري، فنزل وفعل مثل ما فعله بالأمس، فأرادت أن تعلم، هل لها عنده مثل ما له عندها، فجعلت تُعرضُ عن حديثه ساعة بعد ساعة وتحدث غيره، وقد كان عَلِقَ بقلبه مثلُ حبِّها إياه وشغفته، واستملحها، فبينا هي تحدثه، إذ أقبل فتى من الحي فدعته وسارَّته سِراراً طويلاً، ثم قالت له: انصرف ، ونظرت إلى وجه المجنون قد تغير وامْْتُقِعَ لونه وشقّ عليه فعلها ، فأنشأت تقول:
كلانا مُظهرٌ للناسِ بُغضاً /// وكلٌّ عند صاحبه مكينُ
تُبَلِّغُنا العيونُ بما أردنا /// وفي القلبينِ ثَمَّ هوىً دفينُ
فلما سمع البيتين شَهَقَ شهقة شديدة وأُغمي عليه، فمكث على ذلك ساعةً، ونضحوا الماء على وجهه حتى أفاق وتمكن حبُّ كل واحد منهما في قلب صاحبه حتى بلغ منه كل مبلغ.
المجنون يخطب ليلى
أخبرني الحسن بن علي قال: حدَّثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال: حدَّثني عبد الرحمن بن إبراهيم عن هشام بن محمد بن موسى المكي عن محمد بن سعيد المخزومي عن أبي الهيثم العُقيلي قال:
لما شُهِرَ أمر المجنون وليلى وتناشد الناس شعره فيها، خطبها وبذل لها خمسين ناقة حمراء، وخطبها وردُ بن محمد العُقيلي وبذل لها عشراً من الإبل وراعيها، فقال أهلها: نحن مُخَيِّروها بينكما، فمن اختارت تزوَّجته، ودخلوا إليها فقالوا: والله لئن تختاري وَرداً لَنُمَثِّلَنَّ بكِ ، فقال المجنونُ :
ألا يا ليلَ إن مُلِكْتِ فينا /// خِياركَ فانظري لِمَنِ الخِيارُ
ولا تستبدلي منّي دَنِيّاً /// ولا بَرَماً إذا حُبَّ القُتَارُ
يُهروِلُ في الصَّفيرِ إذا رآه /// وتُعجِزُهُ مُلِمَّاتٌ كِبارُ
فمثلُ تأيّم منه نكاحٌ /// ومثلُ تموُّلٍ منه افتقارُ
فاختارت وَرْداً فتزوجته على كرهٍ منها.
أبوه يروي قصة جنونه:
وأخبرني أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر قالا: حدثنا عمر بن شَبَّة قال: ذكر الهيثم بن عدي عن عثمان بن عمارة بن حريم المري قال:
خرجت إلى أرض بن عامر لألقى المجنون، فدُلِلْتُ عليه وعلى مَحَلَّتِه ، فلقيت أباه شيخاً كبيراً وحوله إخوة مع أبيهم رجالاً ، فسألتهم عنه فبكوه، وقال الشيخ : أما والله لهو كان آثر عندي من هؤلاء جميعاً ، وإنه عشيق امرأة من قومه والله ما كانت تطمع في مثله ، فلما فشا أمره وأمرها كره أبوها أن يزوجه إياها بعد ما ظهر من أمرها، فزوجها غيره، وكان أول ما كُلِفَ بها يجلس إليها في نفر من قومها فيتحدثون كما يتحدث الفتيان، وكان أجملهم وأظرفهم وأرواهم لأشعار العرب، فيفيضون في الحديث فيكون أحسنهم فيه إفاضة، فتعرضُ عنه وتقبلُ على غيره، وقد وقع له في قلبها مثل ما وقع لها في قلبه ، فظنَّت به ما هو عليه من حبها، فأقبلت عليه يوماً وقد خلت فقالت:
صوت:
كلانا مظهرٌ للناس بغضاً /// وكلٌّ عند صاحبه مَكينُ
وأسرارُ الماحظِ ليس تَخفى /// إذا نطقت بما تُخفي العيونُ
هيامه بليلى
_ غنَّتْ في الأول عريبُ خفيفَ رَمَلٍ ، وقيل إن هذا الغناء لشارية ، والبيت الأخير ليس من شعره – قال : فخرَّ مغشياً عليه ثم أفاق فاقداً عقله، فكان لا يلبس ثوباً إلا خَرَّقه ولا يمشي إلا عارياً ويلعب بالتراب ويجمع العظام حوله، فإذا ذُكرت له ليلى أنشأ يحدث عنها عاقلاً ولا يُخطئ حرفاً ، وترك الصلاة، فإذا قيل له: مالك لا تصلي ! لم يردّ حرفاً ، وكنا نحبسه ونقيده، فيعضُّ لسانه وشفته، حتى خشينا عليه فخلَّينا سبيله فهو يهيمُ .
قصته مع عمرو بن عبد الرحمن بن عوف
قال الهيثم : فولى مروان بن الحكم عمر بن عبد الرحمن بن عوف صدقاتِ بني كعب وقشير وجعدة والحريش وحبيب وعبد الله، فنظر إلى المجنون قبل أن يستحكم جنونه فكلمه وأنشده فأعجب به، فسأله أن يخرج معه، فأجابه ، إلى ذلك، فلما أراد الرَّواح جاءه قومه فأخبروه خبره وخبر ليلى، وأن أهلها استعدوا السلطان عليه، فأهدر دمه إن أتاهم، فأضرب عما وعده وأمر له بقلائص، فلما علم بذلك وأتي بالقلائص ردَّها عليه وانصرف.
حجوا به ليسلوا فزاد جنونه
إن أبا المجنون وأمه ورجال عشيرته اجتمعوا إلى أبي ليلى فوعظوه وناشدوه الله والرَّحم، وقالوا له: إن هذا الرجل لهالك، وقبل ذلك ففي أقبح من الهلاك بذهاب عقله، وإنك فاجع به أباه وأهله، فنشدناك الله والرحم أن تفعل ذلك، فوالله ما هي أشرف منه ، ولا لك مثل مال أبيه، وقد حكَّمك في المهر، وإن شئت أن يخلع نفسه إليك من ماله فعل، فأبى وحلف بالله وبطلاق أمها إنه لا يزوجه إياها أبداً، وقال: أفضح نفسي وعشيرتي وآتي ما لم يأته أحد من العرب، وأَسِمُ ابنتي بميسم الفضيحة! فانصرفوا عنه، وخالفهم لوقته فزوجها رجلاً من قومها وأدخلها إليه، فما أمسى إلا وقد بنى بها، وبلغه الخبر فأيس منها حينئذ وزال عقله جملةً، فقال الحي لأبيه: احجُجْ به إلى مكة وادعُ الله عز وجل له، ومُرْه أن يتعلَّقَ بأستار الكعبة، فيسأل الله أن يعافيه مما به ويُبَغِّضَها إليه، فلعل الله أن يُخلِّصه من هذا البلاء، فحج به أبوه ، فلما صاروا بمنىً سمع صائحاً في الليل يصيحُ: يا ليلى، فصرخ صرخةً ظنوا أن نفسه قد تلفتْ وسقط مغشياً عليه، فلم يزل كذلك حتى أصبح ثم أفاق حائل اللون ذاهلاً، فأنشأ يقول:
صوت
عرضتُ على قلبي العزاء فقال لي /// من الآن فايأسْ لا أعزّك من صبرِ
إذا بان من تهوى وأصبح نائياً /// فلا شيء أجدى من حلولك في القبرِ
وداعٍ دعا إذ نحن بالخيف من منىً /// فهيَّجَ أطرابَ الفؤاد وما يدري