كل ما في الكون من أحياء وأشياء تتكون من المادة ذاتها، أي من الذرات. فالزهرة وأنا وأنت وأي حاكم عربي مهما تأله، والكواكب والنجوم، جميعنا، نتكون من ذرات. وقد رأى الإغريق قديماً أن الذرة هي ذلك الجزء الذي لا يتجزأ ( a_tom) من المادة، بينما رأى الفينيقيون عكس ذلك، كما بيّن المرحوم إلياس مرقص، وها هو العلم الحديث ينتصر لرأيهم، ولا فخر! فالذرة كما بين العلم الحديث مكونة من نواة تدور حولها غيمة من الكترونات، ومع تقدم العلم في القرن الماضي تبين أن النواة مكونة من البروتونات والنوترونات، وهيهات أن يكف العلم عن تقدمه، فقد اكتشف أن البروتون الواحد والنوترون الواحد يتكون كل منهما من ثلاثة كواركات… ولجعل الأمر ملموساً أكثر، فقد قال أحد العلماء : لو تخيلنا أن الذرة مدينة كبيرة، فإن النوترون بحجم الشخص العادي، والكوارك بحجم نمشه على وجه هذا الشخص!؟" فكيف تكوّن ثلاث نمشات على وجه شخص الشخص كله؟ وهذا واحد من الأسئلة التي ينبغي الإجابة عليها.
وإلى يومنا الحالي لم يتمكن العلماء من اصطياد كوارك واحد في شكله الحرّ في الطبيعة. والسبب أن الكواركات مشدودة بعضها إلى بعض بقوة هائلة، بملاط من جزئيات الغلوون(gluons). فما العمل؟
لا بدّ من تكسير البروتون والنوترون، إذن، إلى مكوناتهما الأولية : إلى الكواركات.
وكيف نكسر البروتون؟ ثمة مبدأ بسيط : عندما تصطدم سيارتان، فإن مدى تحطمهما يتوقف على سرعتهما، وكلما كانت السرعة أكبر كان التحطم أكبر… فماذا لو كانت سرعة السيارتين قريبة من سرعة الضوء؟
ولكن البروتون ساكن في النواة؟ إذن لا بدّ من انتزاعه من النواة وتسريعه حتى يبلغ سرعة قريبة من الضوء، ثم نصدمه مع بروتونات لها السرعة ذاتها، عندئذ ستتفتت البروتونات إلى لبناتها الأولى، أي إلى مزيج من الكواركات والغلوونات، مطلقة طاقة هائلة ناجمة عن تسريعها واصطدامها. فنخلق بذلك في المختبر ظروفاً تشابه الظروف التي سادت في الميكرون الأول من الثانية الأولى من ولادة الكون عقب الانفجار الكوني. إذ يعتقد العلماء أن الكون كان متجمعاً في نقطة واحدة من الطاقة والكثافة والحرارة الهائلة، وانفجرت هذه النقطة بفعل الضغط والحرارة المتكدسة فيها، وهو ما يسمى بالانفجار الكوني الكبير، وفي الميكرون الأول من الثانية الأولى (أي الصفحة الأولى من كتاب المليون صفحة) كانت المادة على صورة حساء أو كوكتيل من الكواركات والغلوونات قبل أن تتمدّد وتبرد وتكوّن البروتونات النوترونات، ثم الذرات… ثم كوننا الحالي.
سيرن - مصدر الصورة: taringa.net
إذاً لا بدّ من تسريع البروتونات والنوترونات وصدمها بعضها مع بعض. ولتحقيق هذه الغاية صمم العلماء في سيرن مصادم الهيدرونات الضخم(LHC). دعونا نتحدث قليلاً عن صفات هذه الآلة الجبارة :
يبلغ محيطها الدائري قرابة 27كم، على عمق 100 متر تحت الأرض تحت الحدود الفرنسية السويسرية. بلغت كلفته حوالي 30 مليار يورو. وسوف تدور في حلقة مسرع هذا المصادم الجبار تريليونات من البروتونات بمعدل 11225 دورة في الثانية الواحدة بسرعة تعادل99/ 99% من سرعة الضوء(هل يذكركم هذا الرقم بشئ في حياتنا الانتخابية؟). وسيحدث حوالي 600 مليون اصطدام للبروتونات كل ثانية. وعندما تصطدم أشعة البروتونات ستتولد حرارة ***ق حرارة مركز الشمس بمئة ألف مرة ( سيكون داخل الجهاز أسخن نقطة في المجرة كلها)، وبالمقابل سيحافظ على درجة حرارته من الخارج في حدود 271,3 تحت الصفر (أبرد حتى من الفضاء الخارجي). وسيكون الضغط الداخلي فيه أخفض من الضغط على سطح القمر بعشر مرات (!) [أي أنه أكثر الأماكن خواء في المجموعة الشمسية].
وترتبط به أجهزة تقيس تحرك الجزئيات في جزء من مليون جزء من الثانية، وتحديد موقعها في جزء من مليون جزء من المتر. كما انه موصول بأقوى أنظمة الكمبيوترات الفائقة وبعشرة آلاف حاسوب موزعة في أرجاء العالم( تسمى الحزام)، وتسجل المعطيات على مئة ألف DVD ثنائي الطبقة كل عام لتسمح لآلاف العلماء في جميع أرجاء العالم في المشاركة في تحليل المعطيات طيلة السنوات الخمسة عشر (العمر المتوقع للجهاز).
في هذه الآلة الجبارة سوف تسرع البروتونات [أو أيونات الرصاص الثقيلة] وعندما تبلغ سرعتها سرعة قريبة من سرعة الضوء، سوف تصطدم بعضها ببعض، فتتكسر إلى لبناتها الأولية (الكواركات ـ الغلوونات) مطلقة حرارة ***ق حرارة مركز الشمس بمئة ألف مرة، محاكية بذلك الظروف التي كانت قائمة في الميكرون الأول من الثانية الأولى من ولادة الكون عقب الانفجار الكوني الكبير.
ويعتقد العلماء أن المادة في اللحظة الأولى من ولادة الكون كانت على صورتين: المادة والأنتي مادة، ولكن صدف أن الانفجار الكوني أنتج (مثلاً) تريليون من الأنتي مادة وتريليون وواحد من المادة، ولأن المادة والأنتي مادة مختلفتان في الشحنة، فقد التحم هذان العاشقان وأفنى أحدهما الآخر، وتحولا إلى طاقة كونية (الأشعة الكونية حالياً) أما الجزء الوحيد من المادة، هذا العانس الذي ملّ من وحدته وضجره فقد اكتفى بأن كوّن عالمنا الحالي. وسيحاول العلماء الإجابة على سؤال : لماذا انحازت الطبيعة إلى المادة، لا إلى الأنتي مادة، عند خلق الكون، أي لماذا أخذ الكون هذا الشكل لا غيره من الأشكال؟ ما أخبث الفيزياء، إنها تحاول الإجابة على أسئلة لطالما كسرت رؤوس أعظم الفلاسفة عبر التاريخ! وتبدد تصورات دينية عزيزة على قلوب الكثيرين.
إذاً تحاول سلسلة التجارب التي تجرى في هذا الجهاز الإجابة على أسئلة جوهرية في الفيزياء النووية، وقد نحصل على نتائج لم يكن أحد ليتوقعها. ومن هذه الأسئلة ما هو أصل الكتلة، ولماذا تزن الجزيئات أوزانها هذه، ولماذا ليس لبعض الجزيئات كتلة على الإطلاق، وكيف تتفاعل الجزيئات بعضها مع بعض؟ مم تتكون المادة السوداء والطاقة السوداء، التي تكون 96% من كوننا، غير إنها عصية على الفحص والدراسة، بينما المادة، ذلك الأثر الضئيل الذي نجا من مذبحة العشق الكونية، لا تكون إلا 4% من هذا الكون. هل هناك أبعاد إضافية للكون، كما تعتقد نظرية الأوتار الفائقة، وبالتالي هل هناك عوالم مخفية في كوننا؟ تجارب علمية، أين منها حكايات ألف ليلة وليلة!
التجربة عظيمة بالأفكار التي تختبر صحتها وبالأجهزة التي تستخدمها وبالنتائج المرجوة منها!
النتائج الأولية لسلسة التجارب في مصادم الهيدرونات الكبير
26/11/2010
بعد أقل من ثلاثة أسابيع على دوران الأيونات الثقيلة، قدمت التجارب الثلاث التي تدرس اصطدمات ايونات الرصاص في هذا الجهاز نظرة جديدة للمادة كما كانت في اللحظات الأولى من الكون.
نجحت التجربة في إنتاج عدد كبير من ذرات الأنتي هيدروجين.
تذكروا أن كيلوغراما واحدا من المادة مع كيلوغرام واحد من الأنتي مادة يولد طاقة ***ق الطاقة التي ولدتها قنبلة هيروشيما بثلاثمئة ألف مرة! فالهدف من هذه التجارب ليس ترفاً علمياً، وإحدى أهم فوائدها إنتاج طاقة بكلفة رخيصة. ألا يثير التساؤل ميل العالم الغربي كله إلى بيع المفاعلات النووية للدول النامية، النائمة، "لأغراض سلمية" وإنتاج الكهرباء!