:: المتوسلون ::
قطعنا قليلا ً من الطريق وإذا بصرخات وصياح في وسط ذلك الظلام يطرق مسامعي , ولما أنصت قليلا ً تبين أنّه صوت بعض المتوسلين بنا كي نفيض عليهم من نورنا فيقتبسوا منه ويسيروا على ضوئه .
كان ((حسن)) يسير أمامي فناداني قائلاً : لا تستمع لهم فإنّهم حثالات المنافقين والكافرين جاؤوا إلى هنا إنّهم لا يستحقون ولو قبسا ً ضعيفا ً من النور ومصيرهم السقوط في واحدٍ من هذه الحفر الموحشة, وحيث واجهنا إصراراً منهم توقف ((حسن)) وخاطبهم : إن كنتم بحاجة إلى نور الإيمان فارجعوا إلى الدنيا وأتوا به.
التفت أحدهم نحوي وقال : يا عبد الله ألم نكن نحن وأنتم من المصلين الصائمين ؟ فلماذا تقولون ارجعوا إلى ذلك العالم وأنت تعلمون أنّه مستحيل.
استشطت غضبا ً وصككت أسناني على بعضها وقلت لهم : نعم لقد كنتم معنا لكنكم كنتم تعملون للقضاء على ديننا لا نصرته , لقد كنت بالمرصاد تحاولون ضرب الإسلام وها أنتم الآن قد عرفتم أنكم كنتم من المخدوعين.
:: تخاصم المجرمين ::
انتهى كلامي معهم ثم دنوت من ((حسن)) وقلت له : هيا بنا لئلا يعاودون الإلحاح .
قال ((حسن)) : أما ترغب أن تستمع تخاصمهم وتنازعهم؟ تأمل جيدا ً, فأنصتُ لهم فسمعت أصواتهم في قلب الظلام وإذا بهم يخاطب بعضهم بعضا ً : (( لولاكم لكنا مؤمنين وتمتعنا بنور الإيمان)) فردّ عليهم أولئك : أنحن صددناكم عن الإيمان ؟ فإن كنتم تريدون الإيمان لآمنتم .
مضت لحظات من الصمت ثم صرخ أحدهم غاضبا ً : إنّ فلانا ً هو السبب فقد بدأ بلاؤنا منذ أن استمعنا لم قاله وأطعناه !
فأجابه : لو أنكم لم تطيعوني طاعة عمياء, فارتفع صوت شخص آخر : لقد أطعناك في الدنيا فهيا أنقذنا مما نحن فيه .
وهنا ارتفع صوت كبيرهم قائلاً : (( أما ترون أننا جميعا ً مشتركون في العذاب فأنّى لي إنقاذكم )) وما أن انتهى كبيرهم من الكلام حتى بدأ الذي اتبعوه بالدعاء بالويل والثبور عليه قائلين : (( ربنا إننا بريئون فهو كبيرنا ومرشدنا في الدنيا فضاعف عليه العذاب )).
لم ينته تخاصمهم بعد فجذبني ((حسن)) وقال : هيا بنا نسير فإنّ نزاعهم لا نهاية له وسيطول نزاعهم في جهنم أيضا ً . وبعد خطوات تناهى إلى مسامعي صوت رهيب ٌ فسألت ((حسن)) عن مصدره فقال : هو صوت أحد المجرمين قد سقط في حفرة سحيقة .
سررت لأن مثل هذا العذاب لا يطالني وهذا ما دفعني إلى مواصلة الطريق بمزيد من الأمان .
:: سرعة العبور ::
تقدمنا قليلا ً وإذا ببعض أنوار خافتة و أخرى قوية نسبيا ً تلفت انتباهي . فتصورت أنهم طائفة مثلنا يسيرون على ضوء نورهم , ولم يمضِ سوى قليلٌ من الوقت حتى وصلنا شخصا ً يتخطى رويدا ً رويدا ً على ضوء واحد من الأنوار الخافتة جدا ً فسلمتُ عليه وسألته عن حالته فقال : لقد أصابني الإرهاق , فعلى الرغم من أنني أسير في هذا النفق منذ مدة طويلة لكنني لا زلت في بداية الطريق.
قلت : هذا بسبب قلت إيمانك , أيّد ما قلته له, وفي الوقت الذي كان يمسي ببطء تأوّه بشدة وقال : واحسرتاه واحسرتاه , ولم نبتعد عنه سوى خطوات وإذا بصراخه يعلو, أردت الرجوع لكن ((حسن)) قال بسرعة : لقد تعجّل وحيث أنّ نور إيمانه ضعيف جدا ً فقد هوى في إحدى الحفر , قلت : وما الذي سيحصل في نهاية المطاف؟
توقف ((حسن)) وقال : لا شيء فإنّ ((حسن)) الخاص به سينقذه, لكنه يصل مقصده متأخر جدا ً. وما أن انتهى ((حسن)) من كلامه سطع أمامنا نور أخذ بأبصارنا ولما اختفى سألت ((حسن)) متعجبا ً: مالذي حصل ؟ فتأوّه ((حسن)) وقال : لإنّه أحد علماء الدين قضى عمره مطيعا ً عابداً مخلصا ً لله , وهاهو الآن طوى هذا الطريق المظلم بسرعة فائقة مستنيرا ً بنور إيمانه , فتحسرت أنا أيضا ً وقلت : طوبى له , فيا له من نور ويا لها من سرعة.
دخل الهمّ فؤادي ووضعت رأسي بين ركبتي من الندم والخجل وقلت : واحسرتاه فهذا النور هو نتيجة أتعابي لسنوات طويلة من عمري .
ناديت نداءً انطلق من أحضائي : يا إلهي , يا عليماً بأحوال الأحياء والموتى انظر إليَّ وزدني نوراً ليسهل عليَّ العبور من هذا المعبر الشاق.
وبقيت على تلك الحال أبكي وأبكي حتى شعرت بأن النفق ازداد نوراً ولما رفعت رأسي من بين ركبتي شاهدت ((حسن)) وقد أصبح أكثر نورانية من ذي قبل فنهضت وتوجّهت نحوه مذهولاًوقلت له : لقد أصبحت أكثر نورانية !
قال : لقد منَّ الله عليك برحمته وأفاض عليك من بنورٍ مضاعف وهذا بلا شك يعتبر استجابة لدعائك في الدنيا حيث كنت كثيرا ً ما تطلب رحمة الله لسفرك الأخروي , ثمّ واصل كلامه : لا أحد يستطيع العبور من برهوت معتمدا ًعلى عمله الصالح , فلا بد من أن تشمله رحمة الله إلى جانب عمله .
سُررت كثرا ًوحمدت الله على لطفه ورحمته اللامتناهية , كنت أسير بسرعة وأمان أكثر حيث تجاوزت بعض الناس فيما استطاعت مجموعة أخرى تجاوزنا , مع أني كنت أشعر بالإرهاق لكنني لم أكن أبالي بسبب لهفي لوادي السلام , فقلت لـ((حسن)) : ما أطول هذا الممر ؟
فأجابني ((حسن)) وهو يحثّ الخطى بسرعة : لو أنّك صمدت أمام غبار الشهوات لكان الطريق قد سهل عليك كثيرا ً , والآن لا بأس فعليك الصبر قليلا ً فما أسرع أن ينتهي هذا الطريق ......
:: طرق فرعية ::
وأخيراً انتهينا من تلك الظلمة الموحشة ودخلنا صحراء مترامية الأطراف وبعد أن سرنا فيها خطوات توقف ( حسن ) وقال : انظر ياصديقي ، إن السير في هذا الطريق محفوف من الآن فصاعداً بالمخاطر أكثرمما سبق ، ألقى نظرة سريعة على الطريق واستمر في حديثه : كل من ابتلى في الدنيا بنوع من الانحراف سينحرف هنا أيضاً ، ثم أشار بيده إلى الطريق الذي يقابلنا وقال : هذا هو الطريق المستقيم الذي ينتهي بوادي السلام ولكن لا بد من الانتباه فهنالك الكثير من الطرق الفرعية – فالطرق المتناثرة على اليمين والشمال مضلة وأما الجادة الوسطى فهي المستقيمة – فأخذت أردد : اللهم اهدنا الصراط المستقيم . ثم طلب مني أن أسير خلفه وسرنا في الطريق الذي أمامنا ، وكان جميع الذين عبروا الكهوف ساروا في هذا الطريق للوصول إلى وادي السلام وكان الناس يطوون هذا الطريق بما لديهم من حسنات صغيرة أو كبيرة وبسرعات مختلفة .
احبتي كونوا بالقرب
فلا زال للقصة تتمة..