اللهم جنبنا التكلُّف، وأعِذْنَا مِن الخطَأ، واحْمِنا العُجْبَ بما يكون منه، والثِّقة بما عندنا، واجعلْنا من المحسنين.
نذكر على اسم اللّه جُمَلَ القولِ في الغِربان، والإخبار عنها، وعن غريبِ ما أُودِعَتْ من الدّلالة، واستُخْزِنت من عجيب الهداية. وقد كُنَّا قدَّمنا ما تقول العربُ في شأنِ منادَمِة الغُراب والدِّيكَ وصداقتِه له، وكيف رهنه عند الخمََّار، وكيف خاسَ به وسخِرَ منه وخدعه وكيف خرج سالماً غيرَ غارم، وغانماً غيرَ خائب، وكيف ضربت به العربُ الأمثالَ، وقالت فيه الأشعار، وأدخلتْه في الاشتقاقِ لزجْرها عند عيافتها وقِيافتها، وكيف كان السبب في ذلك.
ذكر الغراب في القرآن فهذا إلى ما حكى اللّهُ عزَّ وجلَّ من خبر ابنَيْ آدمَ، حينَ قرَّبا قرباناً فحسَدَ الذي لم يُتقبَّلْ منه المتقبل منه، فقال عندما همَّ به مِن قتلِه، وعند إمساكِه عنه، والتَّخليةِ بينَه وبين ما اختارَ لنفسه: "إنِّي أُريدُ أنّ تَبُوءَ بِإثْمي وإثمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أصْحَاب النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالمِينَ"، ثُم قال: "فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخيِهِ فَقَتَلَهُ فَأصْبَحَ مِنَ الخاسِريِنَ فَبَعَثَ اللّهُ غُراباً يَبْحثُ في الأرضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْءَةَ أخِيهِ" حتّى قال القائل، وهو أحد ابني آدم ما قال: فلولا أنّ للغُراب فضيلةً وأموراً محمودةً، وآلةً وسبباً ليس لغيره من جميع الطّير لما وضعه اللّهُ تعالى في موضعِ تأديبِ الناس، ولما جعله الواعِظ والمذَكِّرَ بذلك، وقد قال اللّه عزَّ وجلَّ: "فبعَث اللهُ غَراباً يَبْحَث في الأرضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُواري سَوْءَةَ أخِيهِ"، فأخْبر أنّه مبعوثٌ، وأنه هو اختاره لذلك مِنْ بين جميع الطّير.
قال صاحب الدِّيك: جعلت الدَّليلَ على سوء حاله وسقوطِهِ الدَّليلَ على حُسنِ حاله وارتفاعِ مكانه، وكلما كان ذلك المقرَّعُ به أسفَلَ كانت الموعظة في ذلك أبلغَ، ألا تَرَاهُ يقول: "يا وَيْلَتَي أعَجَزْت أنْ أكونَ مثْلَ هذا الْغُرَابِ فأُوَارِي سَوْءَةَ أخي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ".
ولو كان في موضعِ الغُرابِ رجلٌ صالحٌ، أو إنسانٌ عاقلٌ، لما حَسُن به أن يقولَ: يا ويْلتى أعجَزت أنْ أكون مثلَ هذا العاقِل الفاضل الكريمِ الشَّريف، وإذا كان دوناً وَحقيراً فقال: أعجزتُ وأنا إنسانٌ أن أُحسِنَ ما يحسنه هذا الطائر، ثمّ طائِرٌ من شِرار الطير، وإذا أراهُ ذلك في طائرِ أسودَ محترقٍ، قبيحِ الشَّمائِلِ، رديء المَشْيَة، ليس من بهائم الطير المحمودة، ولا من سباعها الشريفة، وهو بَعْدُ طائرٌ يتنكَّد به ويتطيَّر منه، آكلُ جيف، رديءُ الصيّد، وكلما كان أجهلَ وأنْذل كان أبلغَ في التَّوبيخ والتّقريع.
وأمّا قوله:"فَأَصْبَحَ مِنَ النّادمِينَ" فلم يكنْ به على جهة الإخبار أنّه كانَ قَتَلهُ ليلاً، وإنما هو كقوله: "وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئذ دُبُرَهُ إلاّ مُتَحرِّفاً لِقتال أوْ مُتحيِّزاً إلى فئةٍ فقدْ باء بِغضبِ مِنَ اللّهِ"، ولو كان المعنى وقع على ظاهر اللَّفظ دونَ المستعمل في الكلامِ من عادات الناس، كان من فرَّ من الزَّحفِ ليلاً لم يلزمْه وَعيد، وإنما وقع الكلامُ على ما عليه الأغلبُ من ساعاتِ أعمال الناس، وذلك هو النّهارُ دون اللّيل.
وعلى ذلك المعنى قال صالح بن عبد الرحمن، حين دفعوا إليه جوَّاباً الخارجيَّ ليقتله، وقالوا: إن قتله برئت الخوارجُ منه، وإن ترك قتْله فقد أبدى لنا صفحته، فتأوّل صالحُ عند ذلك تأويلاً مستنكراً: وذلك أنّه قال: قد نجِدُ التّقِيَّة تسيغ الكفر، والكفر باللسان أعظم من القتل والقذْفِ بالجارحة، فإذا جازت التقِيَّة في الأعظم كانت في الأصغر أجوز، فلما رأى هذا التأويل يطّرد له، ووجد على حال بصيرته ناقصة، وأحسّ بأنّه إنما التمس عُذْراً ولزّق الحجّة تلزيقاً فلمَّا عزمَ على قتل جوّاب، وهو عنده واحدُ الصُّفرية في النُّسك والفضل قال: إني يومَ أقتُل جَوّاباً على هذا الضّربِ من التأويل لحريصٌ على الحياة ولو كان حين قال إني يوم أقتل جوَّاباً إنما عنى النهارَ دون اللَّيل، كان عند نفسه إذا قتلهُ تلك القتلة ليلاً لم يأثم به، وهذا أيضاً كقوله تعالى: "ولا تَقُولنَّ لشيْءٍ إنِّى فاعِلٌ ذلك غَداً إلا أن يشاء اللّهُ".ولو كان هذا المعنى إنما يقع على ظاهر اللفظ دونَ المستعمَلِ بين الناس، لكان إذا قال من أوّل الليل: إني فاعِلٌ ذلك غداً في السَّحر، أو مع الفجر أو قال الغداة: إني فاعِلٌ يومي كلّه، وليلتي كلها، لم يكنْ عليه حِنث، ولم يكن مخالفاً إذا لم يستثن، وكان إذن لا يكون مخالفاً إلاّ فيما وقع عليهِ اسمُ غد، فأمّا كلُّ ما خالفَ ذلك في اللَّفظ فلا، وليس التّأويل كذلك لأنَّه جلَّ وعلا إنما ألزمَ عبدهَ أن يقول: إن شاء اللّه، ليَتَّقى عَادَةِ التألِّي ولئلا يكونَ كلامُه ولفظُه يشبه لفظ المستبدِّ والمستغْني، وعلى أن يكون عِنْد ذلك ذاكرَ اللّه، لأنه عبدٌ مدبَّرٌ، ومقلَّب ميَّسر،ومصرَّفٌ مسخَّر.
وإذا كان المعنى فيه، والغايَةُ التي جرى إليها اللفظ، إنما هو على ما وصفنا، فليس بين أن يقول أفعَلُ ذلك بعْدَ طرْفَةٍ، وبين أن يقولَ أفعَلُ ذلك بَعْدَ سنةٍ فرقٌ.
وأمَّا قوله: "فَأَصْبحَ مِنَ النّادمِيِن" فليس أنّه كان هنالك ناسُ قتلوا إخوتَهُمْ ونَدموا فصارَ هذا القاتلُ واحداً منهم؛ وإنما ذلك على قوله لآدم وحَوّاء عليهما السلام: "ولا تقْرَبا هذهِ الشَّجرَةَ فتكونا مِنَ الظَّالِمينَ"، على معنى أن كلّ من صنع صنيعكما فهو ظالم.