العلمانية إن جاءت من ( اَلْعَاْلَمْ )، أي من الحياة اليومية المباشرة بكل معطياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، أم جاءت من ( الْعِلْمْ ) بكل قوانينه الوضعية، فإن للعالم والعلم كلاهما قوانينه الموضوعية التي تفرض نفسها على الإنسان وإرادته، وتتحكم بسير حركة الواقع وتطوره بعيداً عن إرادة الإنسان ورغباته. بيد أن العلمانية التي تقر بوجود هذه القوانين الموضوعية لاتنفي بالمقابل أن للإنسان وعيه وحريته اللتان تعطيانه القدرة على التحكم أيضا في آلية عمل الكثير من هذه القوانين وضبط حركتها لمصلحته. أي إقرار العلمانية، بأن ثمة فسحة واسعة من الحرية قد امتلكها الإنسان ليفكر ويمارس ويبحث عن ذاته وتنميتها، وبالتالي، فالعلمانية في أبسط صورها هي: قدرة الإنسان على الممارسة و التحكم بتلك المساحة من التفكير والإرادة الكامنة فيه بحرية وعقلانية من اجل تأمين حاجاته المادية والروحية بعيدا عن أية سلطة مادية او روحية تحد من هذه القدرة بادعائها أن الإنسان ضرورة فقط. أي إنسان يفتقد القدرة على التفكير والممارسة بحرية.
إن هذا الفهم البسيط للعلمانية يشكل برأيي نقطة الخلاف الأساس ما بين العلمانيين ومناهضي العلمانية من متديني الإسلام السياسي المعاصر، وبخاصة هؤلاء الذين يريدون أن يحجروا على حرية الإنسان وعقله، ويقروا بكل صراحة باستقالة العقل أمام النقل، ويمثل هؤلاء كل أصحاب الفكر السلفي الذي تعبر عنه المدارس الفقهية والكلامية التي رفضت العودة إلى العقل لتفسير النص المقدس القرآن والحديث خدمة لتطور الواقع وما يفرزه من أحداث ووقائع جديدة تفسح في المجال واسعاً أمام (البراءة الأصلية) كما يقول بعض الفقهاء، أي خدمة لتوسيع دائرة المباح بدلاً من تضييقها، لذلك قرروا أن ما قاله السلف وما مارسوه حتى القرن الرابع للهجرة حيث توقف الاجتهاد، هو المعتمد في التفسير أو العودة إليه لتفسير هذا الجديد معتمدين على مصادر التشريع الأربعة وهي: القرآن والحديث والإجماع والقياس – قياس الحاضر على الماضي-، بعد أن ضبطها الإمام الشافعي وأصبحت مدرسة لرجال الفقه والفكر السلفي مثل ابن حنبل وأبو حسن الأشعري وأبو حامد الغزالي وابن تيمية وابن قيم الجوزية ومحمد بن عبد الوهاب، وكل رجالات الفكر السلفي المعاصرين الذين ينتمون إلى هذا التوجه الفقهي ومن اشتغل عليه من السلف. وبالتالي فإن أي خروج عن سلطة النقل والامتثال للمطلق يعتبر عندهم بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وعلى هذا الموقف الفكري الجبري والامتثالي، كُفر كل من اعتمد على عقله أو أعطى لإرادته مساحة واسعة من الحرية في التعايش مع الحياة ومجاراة تغيراتها تحت ذريعة الخروج عن النص المقدس الذي فسره مشايخهم الأوائل، أو استنتجوا أحكامه ودلالات ومقاصده كما فهموه أو أرادوه، وغالباً ما تحكمت في تفسيره المواقف السياسية التي كانت تخدم السلطات الحاكمة المستبدة، على اعتبار أن هذا الموقف السلفي السياسي في صيغته الفقهية أو الكلامية، هو من برر فساد السلطة ومنع من يقاومها، واعتبر أن من يخرج عليها كافر. فهذا ابن حنبل يقول: (فإن من غلبهم بالسيف حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين، لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبت ولا يراه إماماً عليه براً كان أو فاجراً، فهو أمير المؤمنين.) (راجع كتاب السلطة في الإسلام، عبد الجواد ياسين،ط1، المركز الثقافي العربي، ص86 ). كما يقول في هذا الاتجاه أيضاً أحد كبار الأشاعرة وهو الباقلاني: (إن الإمام لا ينخلع لفساده وظلمه، بغصب الأموال وضرب الأبشار،وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود.). (المرجع نفسه ص86). وذلك كله يأتي تحت ذريعة الخوف من عقدة الفتنة. وأحب أن أشير هنا إلى مسألة على غاية من الطرافة والدلالة، ففي الوقت الذي كان فيه ابن حنبل يحكم على من يقول بخلق القرآن بالكفر والزندقة، كان يقول عن الخليفة المعتصم الذي سجنه كونه رفض القول بخلق القرآن: (بأمير المؤمنين). وهذه الرؤى والمواقف الحنبلية السلفية الجبرية ذاتها آمن بها الأشاعرة وعلى رأسهم أبو الحسن الأشعري الذي يعتبر المؤسس الثاني بعد الشافعي للفكر السلفي في صيغته المنهجية بعد أن ادخل علم الكلام في الفقه، وهو الذي يقول: (قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، هي التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل، وسنة نبيه محمد"ص"، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون بما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل نضر الله وجهه وأجزل لمثوبته قائلون، ولما خالف قوله مخالفون.) (المرجع نفسه ص54و55 ). وهنا أتساءل: كيف يدعي الأشاعرة بأنهم وسطيون، وهم يميلون كل هذا الميل الذي لا حياد عنه إلى الحنابلة ؟. عموماً نقول في هذا السياق: لقد حول هؤلاء السلفيون أحكامهم واشتهاداتهم الشرعية إلى نصوص مقدسة، شأنها شأن النص المقدس نفسه (القرآن والسنة). هذا مع تأكيدنا على أنهم في الكثير من الأحكام التي اجتهدوا فيها قد انطلقوا في آلية عملهم أو منهجهم الفقهي من اللفظ إلى المعنى عند قراءتهم للنص المقدس بشكل خاص، أي كثيراً ما نظروا إلى النص المقدس أثناء بحثهم عن الأحكام الشرعية، على انه بناءٌ من الألفاظ والجمل والتراكيب اللغوية، ومن هذا البناء اللغوي يجب استنباط الأحكام الفقهية، أكثر من نظرتهم أو تعاليمهم مع هذا لنص على أنه علم من الأحكام والنظم والمقاصد يجب أن يشتغل العقل للوصول إليها. لذلك هذا ما جعلهم على سبيل المثال أن يفسروا مثلاً سورة (العلق) تفسيرا طغى عليه البعد اللغوي أكثر من الغوص في عمق دلالات مقاصده ونظمه وأحكامه، أو النظر إلى السورة نظرة كلية شمولية بما تحتويه هذه الشمولية من دلالات إنسانية، لا نظرة تجزيئية تعتمد على الكلمة أو الجملة أو العبارة. (راجع تفسير الجلالين). وإن وجد هناك من حاول أن يغوص في دلالات هذه السورة، فقد وقف عند معجزة تقول: إن هذا الرسول الذي استطاع أن يغير مجرى التاريخ هو أمي لا يجيد القراءة والكتابة، وقد نزل على مجتمع أمي، استطاع بعون الله أن يحقق كل تلك الانجازات التاريخية، وبالتالي لم تؤخذ هنا الدلالات التي تؤكد على دعوة الله للإنسان عموماً وليس للرسول فحسب، أن يتعلم، لأن العلم والمعرفة ستساعدانه على امتلاك إرادته، وتعطيانه القدرة كي يتحكم بالواقع الذي يعيش فيه، وأن لا يكون اتكالياً، وعليه أن ينظر بنفسه إلى الواقع المحيط به، وما يفرزه أو يقدمه هذا الواقع من وقائع مستجدة دائماً والتعامل معها وفقاً لمصالحه.