في فكرنا العربي الحديث ثمة مفاهيم مظلومة، أصابها سوء الفهم فظلمت، أو حُسن الفهم فظلمت، أو أصابها عنت معتنقيها أو سذاجتهم فلم تسلم من الظلم. إن العلمانية ظلمت عندنا. فقد ظلمها سوء الفهم من جهة، لأن الكثيرين من متوسطي الثقافة والمعرفة، وجمهور الناس الأوسع، ألصقوا بها الكثير مما لا يدخل في صلبها ولا يشكل روحها الحي، فاعتقدوا أنها الحاد ينكر الله ويتنكّر للأديان. ويبدو أننا لا بد أن نعود إلى الفكرة العلمانية بين فترة وأخرى لنقول إنها لا تعني الإلحاد أو محاربة الدين، وأن أهم ما تتسم به هو تحكيم العقل وجعله دليلاً في فهم الواقع والبحث عن حلول لمشكلاته، وفصل الدين عن السياسة إجلالاً للدين وحفظاً لقداسته ورفعاً له عن ميكافيلية السياسة وذرائعيتها.



وظلمها حسن الفهم، فقد أدرك من يتضررون منها، أي أصحاب النفوذ في مجتمع العلاقات الإقطاعية والتقسيمات العشائرية والعائلية والطائفية، الذين جعلتهم هذه العلاقات زعماء راسخين يتوارثون الزعامة توارث الأملاك الشخصية، أدركوا العلمانية على حقيقتها، بوصفها خلاصاً للمجتمع من ذلك الإرث المتخلّف، وكسراً للتقاليد، وتجاوزاً للعشيرة والطائفة، وصولاً إلى التساوي أمام القانون، وإلغاء كل أشكال التمييز غير الناجم عن الكفاءات. فالتقى حسن الفهم وسوء الفهم على محاربة هذا الضيف الوافد.



وظلمها معتنقوها أيضاً، لأنهم شوهوها تشويهاً فظاً. فتحت راياتها قامت أنظمة قمعية، وفي ظل شعاراتها جرى إضعاف الحراك السياسي في المجتمعات العربية، وانتشرت الأحادية في الفكر والسياسة والحياة الحزبية، وانصرف الناس عن السياسة إلى ضفاف أخرى، بعضها عدمي، وأكثرها تقليدي، أي إنهم عادوا إلى التذرع بالعشيرة أو الطائفة أو العائلة. أما الشكل الثاني فهو أنهم ظلموها حين تداخلت مع بناهم الفكرية الهشة، فصارت علمانية سطحية مسكونة بالتخلف والتعصب للرأي ورفض الآخر وقمع المخالفين لإرادة قادة الأحزاب والمؤسسات والحكومات، وتسخير المنابر الإعلامية لرأي دون آخر.



إن أساس العلمانية النظري هو الانطلاق من أن الإنسان الفرد، بوصفه ذاتاً حرة، أساس التكون الاجتماعي، وغرض الثقافة والسياسة. ويعني هذا أن الانتماء الأكثر أهمية، من وجهة نظر العلمانية، هو الانتماء الإنساني. وهذا الانتماء متحقق لدى كل إنسان قبل أي انتماء آخر. يوصل هذا المنطلق في النظر للإنسان إلى أن كل تمييز يأتي على أساس الانتماءات اللاحقة للانتماء الإنساني هو تمييز مخالف لطبيعة الإنسان.



إن العلمانية هي السبيل الوحيد لتحقيق مبدأ الموطنة، ولا صحة لأي ادعاء بوجود مواطنة حقيقية بغيرها. فإذا كان مبدأ المواطنة يعني تساوي الناس، أي المواطنين، أمام القانون، فإن العلمانية هي التي تجعل القانون ذاته قانون مواطنة لا قانون تمييز.



إن فصل الدين عن الدولة لا يعني فصله عن المجتمع أو التقليل من دوره في حياة الناس الاجتماعية، ولا يعني إضعاف مكانته في منظومة القيم الأخلاقية والسلوكية، وفي صوغ هذه القيم وفق مقتضيات الزمن، فالقيم الإنسانية التي تجعلها الأديان محوراً للنشاط الإنساني، تظل ماثلة في الوجدان الاجتماعي ومرشدًا للسلوك، وهي تتجلى وفق خصائص البيئة المحددة زمانياً ومكانياً. إن فصل الدين عن المجتمع غير ممكن، والإنسان الفرد، بوصفه الوحدة الاجتماعية الأولى، هو الذي يحدد علاقته بالشعائر الدينية وأفكار الدين وقيمه بحرية تامة.



وبديهي أن فصل الدين عن السياسة لا يعني فصله عن رجل السياسة. فيمكن للسياسي أن يكون متديناً، لكن المطلوب هو أن ينطلق في نشاطه السياسي من واقع محدد ملموس، ومن قوننة مدنية ديموقراطية للحياة السياسية.



إن رعاية حرية الإنسان وحمايتها، وعلى رأسها حق الفرد في التفكير والتعبير عن الرأي وإعلان المعتقد، وحقه في أن يمارس شعائر الدين أو لا يمارسها، وحقه في أن يحدد بنفسه درجة علاقته بالدين وطبيعة هذه العلاقة، وحقه في أن يعارض الحكومة ويناقض توجهاتها بأسلوب قانوني سلمي، وغير ذلك من الحقوق المندرجة في المواطنة. إن رعاية الدولة لهذه الحقوق وحمايتها إياها تسهمان في تعزيز النزوع العلماني لدى الناس، وتكملان دور الدولة بوصفها أداة للضبط وأداة لحماية حقوق الإنسان في وقت واحد.



العلمانية والعقلانية صنوان، لأنهما تقومان على احترام العقل والبعد عن التسليم في أمور الحياة الفكرية السياسية الاجتماعية. أما علاقة العلمانية بالديمقراطية فهي علاقة وجود، أي أن العلمانية لا تكون حقيقية ومستمرة بلا ديمقراطية في الحياة السياسية والفكرية. والديمقراطية لا تكون حقيقية إلا في مناخ علماني. العلمانية بلا ديمقراطية تعني تحكم نخبة على هواها، وصولاً إلى التمييز بين الناس على أساس معارضة وموالاة، وعلى أساس الانتماء الحزبي. إن التحكم بالمجتمع بأساليب غير ديمقراطية ينسف أسس المواطنة وأهمها المساواة، ويؤول على التدريج إلى تفريغ العلمانية من محتواها الأساسي، وهو حق الإنسان في تناول كل المسائل بحرية. إن نتيجة منع الشك بالقيادة وقراراتها وحظر مقاربتها بالنقد، هي تكريس نزعة التسليم اللاعلمانية. والديمقراطية بلا علمانية تكون شائهة، لأنها تتيح لنزعات ما قبل المدنية والوطنية النهوض والانتعاش.



[إن أحد أهم أركان العلمانية] هو العقلانية. فلا سبيل أن نمتلك رؤية علمانية دقيقة ما لم يكن من يتبنى هذا الموقف ذا موقف علماني. والعقلانية هنا تعني استخدام جملة المناهج والأدوات والأساليب والملكات التي يؤلبها العقل من أجل أن يتعامل مع المشكلات بإعتبارها مشكلات قابلة للحل. هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى النظر إلى العقل على أنه قادر على أن يتناول حل هذه المشكلات وأن يقول فيها قولاً نافعاً، فالعقلانية جزء لا يتجزأ من كل أيدلوجية عَلمانية ومن كل موقف عَلماني يمكن أن يتخذه أي شخص منا.



فالعلمانية ( إذا أردنا أن نقدم لها تعريفاً) هي الاعتراف بأن هنالك حقلين مختلفين كل الاختلاف، حقلاً دنيوياً مجاله السياسة، وحقلاً روحياً مرتبطاً ومتعلقاً بالمقدس. ولهذا الحقل كل الاحترام والتبجيل مادام لا يتدخل في السياسة. وله الحق في أن يشارك في التربية، سواء في المسجد أو الكنيسة وحتى في المدرسة. فالعلمانية الفرنسية ذاتها قد أتاحت للطوائف المختلفة أن تؤسس مدارس مستقلة لها.